القاهرة 18 ديسمبر 2018 الساعة 11:18 ص
كتب : د. محمد السيد إسماعيل
المفارقة أساس الإبداع لأنها أساس الوجود الإنسانى بأسره؛ فالصراع بين المتنافضات هو جوهر هذا الوجود, فنحن نحيا لكن بذرة الموت كامنة فينا, نتواصل مع الآخرين لكننا نشعر بالوحدة القابضة على أرواحنا, نعيش فى النور لكننا نرتاح للظلام لأنه يتيح لنا إطلاق الخيال والبعد عن قبح الواقع.
هذه الثنائيات وغيرها والتى تمثل بنية المفارقة هى التى تشكل التيمة الموضوعية كثيرة التردد فى قصص "روح الفراشة" لطلعت رضوان, فمن عنوان القصة الأولى " العتمة المضيئة " نلاحظ أولى هذه الثنائيات بين النور والعتمة التى عاش فيها سارد القصة طوال عمره ثم عودة بصره إليه بعد إجراء عملية جراحية بإلحاح من زوجته وأبنائه, وتكمن المفارقة فى اكتشافه أن عتمة العماء التى عايشها طول عمره -ولم تعقه عن إحراز نجاحات متتابعة- كانت أفضل من نور الإبصار الذى كشف له بؤس الواقع, كما يبدو فى قوله " فى طريق العودة مررنا على ترعة المريوطية رأينا الحيوانات الميتة طافية على سطح الماء " ( روح الفراشة طلعت رضوان ص20كتاب اليوم )
حتى تساءلت سيمون السائحة مستنكرة " هل أنتم فعلا أحفاد المصريين القدماء " وهو ما دفع السارد أن يقرر العودة إلى تلك العتمة المضيئة " فى البيت, طلبت من مادلين تليفون الطبيب الذى أعاد لى البصر استفسرت قلت : سأطلب منه أن يعيدنى إلى العتمة ".
نحن إذن أمام تدرج سردى مقصود انتهى بنا إلى تبنى موقف السارد رغم المفارقة الكامنة فى هذا الموقف .
وتلعب القصة على خاصية تفعيل الحواس البديلة للبصر مثل اللمس والشم والسمع, بالإضافة إلى الخيال الذى يعد العنصر الفاعل فى معرفة العالم فى هذه الحالة .
وفى قصة " فى البدء كانت العتمة " نجد أبعادا أخرى لدال الظلام حين تشمل الإحساس بالفقد والغربة والعزلة يقول تعبيرا عن هذه الدلالات " فكرت أن أقترب أكثر وأكلمها ولكننى لم أفعل ولما جاء القطار نظرت إلى وهى تتأهب للركوب, هممت أن أركب معها وبينما القطار يبتعد كنت وحدى على رصيف المحطة " هناك دائما هذه المسافة الفاصلة بين الرجل والمرأة, ويختلط الوهم بالحقيقة والخيال بالواقع فيما يشبه المتاهة التى تؤكد أن " الأصل هو العتمة وأن الظلام أصل الأشياء ".
وتبدو سمة التناقض واضحة على مستويات عديدة كالشخصيات والمكان والزمان, فحين يعود البصر إلى بطل القصة الأولى يكتشف مفارقة المكان بين الآثار الفرعونية التى تدل على تقدم الأجداد وأماكن مصر المعاصرة الكارهة للتحضر, والمكان هنا يسير إلى التضاد على مستوى الشخصيات ومستوى الزمن بين الماضى البعيد والحاضر الراهن .
وفى قصة " دعوة " تبدو المفارقة بين ظاهر الشخصية وباطنها؛ حيث استقبلته صاحبة الدعوة " بوجه باسم وشعر مفرود ، جزء منه يرتاح على صدرها والآخر انسدل على ظهرها " إن السارد بهذه الأوصاف التى يثبتها لتلك المرأة يدفعنا فى اتجاه توقعات محددة, لكننا مع نهاية القصة نفاجأ بضرب هذه التوقعات حين يكتشف السارد اتساخ ملابسها الداخلية ورائحة إبطها الكريهة, والملابس الداخلية كناية عن باطن الشخصية الذى لم يستطع الظاهر أن يخفيه, وهى التيمة نفسها التى تظهر فى قصة " مكالمة منتصف الليل " حين يكتشف بطل القصة أن الحجاب الحاجز بين شعر المرأة والهواء لم يلغ دعوة الحب الصريحة على شفتيها المثيرتين و" كاد يصرخ فى وجهها : أنت غير بطلة مسلسلى – حيث كان يعمل سيناريست – أنت مسخ لظلها هى كان ظاهرها زى باطنها " وكان لابد أن يأخذ كل منهما طريقا مختلفا ف " عند باب الكافتيريا افترقا , مشت هى فى اتجاه ومشى هو فى الاتجاه المعاكس ".
وفى قصة " تلك المرأة " – ولنلاحظ اسم الإشارة الذى يدل على البعد – يظهر الصراع داخل البطل بين حبه البرىء الذى جعله يضع تلك المرأة فى إطار الملائكة وحقيقة استغلاله وإنفاق وقته ووقت أسرته وماله ومال أسرته عليها, حتى أصبحت ذكراها – بعد مرور عشر سنوات على آخر لقاء – " تقتحم سكونه دائما كشبح قبيح " فهو هنا موضوع استغلال نتيجة الوهم أو الحمق والغباء, لكنه فى قصص أخرى – قصة " أضلاع المثلث الأربعة " – يخضع للاستغلال الجنسى فيما يشبه بيع الجسد نتيجة فقره واحتياجه الملح للمال بسبب ابنته المريضة, لكنه يعجز عن تحقيق رغبة هذه العانس الثرية بسبب إجهاده فى ساعات عمل إضافية, والقصة قائمة على التداخل بين ما يحدث للسارد فى شقة تفيدة هانم – العانس الثرية – ووعي السارد الذى يستحضر زوجته التى تغسل الملابس فى البيوت, كما يبدو التداخل بين العجز الاجتماعى والعجز الجنسى, فالسارد هنا لا يملك إرادته بل يخضع لأحكام الضرورة التى تقيد خطاه وتدفعه فى اتجاه لا يملك الرجوع عنه .
وفى قصة " مضيفة وسائح " يوظف الكاتب معرفتنا بقصة " المومس الفاضلة " ليعقد مقارنة ذكية بين فتاة اضطرت لبيع جسدها لتنفق على أخوتها, لكن السارد الذى ارتبط بها بأعذب علاقة وجودية كعلاقة الماء بالنبات كما يقول هذا السارد علمها استخدام الكمبيوتر وألحقها بمكتب أحد الأصدقاء, وبهذا يصبح بيع جسدها جزءا من الماضى بينما المضيفة – حبيبته القديمة – التى تتستر وراء وظيفتها تمارس ابتذال الجسد مع السائحين مقابل المال, وهو ما يصفه السارد بالدعارة المستترة, وعندما لاحظ ذلك أثناء مرافقتها للسائح تركها وتذكر قصة " المومس الفاضلة " الفرنسية التى رفضت أن تهب جسدها للقائد الألمانى واشتاقت روحه لرؤية صديقته الجديدة .
هذا التقابل بين الشخصيات يتماس أيضا مع ثنائية الظاهر والباطن, كما يوحى بفكرة التحول الذى وقع لشخصيتى القصة على السواء, والذى بدا – أى هذا التحول – واضحا فى قصة " ثنائى البيانو والكمان " حيث تتحول الزوجة عازفة الكمان من محبة للموسيقى إلى إنسانة تؤمن بحرمانيتها وتهجر – بسبب ذلك – زوجها عازف البيانو لأنه ظل كما هو محبا للموسيقى وعازفا لها .
يبدو – مما سبق – أن السارد يأخذ وضعية السارد الداخلى المشارك فى الأحداث لكنه يأخذ أحيانا وضعية الراوى الخارجى العليم كما فى قصة " السفر الأخير " وهى وضعية تتيح له معرفة ظاهر الشخصيات وما يدور فى أعماقها, ولاشك أن هذه الوضعية كانت مناسبة لمحتوى القصة التى تدور حول الفقد والاغتراب وحاجة هذه المرأة إلى الشعور بالأمان, وهو ما أشارت إليه القصة فى نهايتها حيث " ظلت تغفو وتستيقظ بفزع إلى أن راحت فى سبات عميق وودجارها المسافر الذى لايعرفها أن " يفرد ذراعه ويفرش كفه ليغطى كتفها ولم يفعل, فى هذه اللحظة كان رأسها ينزلق على صدره " وكأنها تلوذ لاشعوريا بصدر ذلك الرجل .
والراوى الداخلى –فى أغلب القصص – يعاني من الاغتراب و الشعور الدائم بالوحدة و العجز و الملل, وهو شخصية تعيش داخلها أكثر مما تعيش خارجها وعلاقاته بالأنثى علاقات منتهية مبتورة تبدأ سريعا وتنتهي سريعا, ولعل شعوره بالملل هو ما يفسر رغبته الدائمة في السفر وقراءة الوجوه وتأملها, وهناك مايمكن أن نسميه بالتكرار المشهدى؛ حيث يتوالى مشهد الرجل والمرأة ووسيلة المواصلات التى تأخذ أحدهما وتترك الآخر كما فى قصة " فى البدء كانت العتمة " التى أشرت إليها, وهكذا تظل المرأة – فى بعض القصص – حلما لايدرى السارد كيف يمسك بأسباب تجسيده فى الواقع .