القاهرة 04 ديسمبر 2018 الساعة 11:19 ص
حوار : أحمد مصطفى الغـر
تنشط في ميادين عدة، وإن كان القاسم المشترك بينها هو الأدب، فهى أستاذة للترجمة واللغات، ومترجمة ولها مؤلفات في اللغات والأمثال المقارنة، وسلسلة لقصص الأطفال، وهى أيضا صحافية تكتب وتنشر فى عدد من الصحف العربية، إنها الكاتبة والمترجمة اللبنانية "جولي مراد"، التي إلتقتها مجلة مصر المحروسة، وكان لنا معها هذا الحوار:
كاتبة وإعلامية ومترجمة ومحاضرة جامعية أيها الأقرب إلى قلبك، وكيف بدأت رحلتك مع الكلمات والأحرف؟
أشعر أنني مزيجٌ لا يستوي إلا بانصهار كُلّ الصفات التي ذكرت، فأنا متيّمة بالكلمة وأعشق التفنُّن بكتابتها ومدّ الجسور بين اللغات، وفي الوقت عينه يسكنني فضولٌ لا متناهٍ لمعرفة العالم وسبر أغواره, أما التعليم فهو شغفي فإن لم أمارسه يومياً أشعر أنّ بي نقصاً يحدُّ من سكينتي.
بدأت رحلتي مع الكلمات واللغة منذ نعومة أظفاري فمكتبة والدتي كانت تعج بكتبٍ لنجيب محفوظ ونوال السعداوي وإحسان عبد القدوس وميخائيل نعيمة وجبران خليل جبران وسعيد عقل وإيليا أبو ماضي وفراس سوّاح وغيرهم.
أذكر أنني كنت أتحيّنُ فرصة خروجها من المنزل لأعتلي كرسياً يساعدني على تناول ما يطيب لي من ممنوعاتٍ مركونة على رفٍ عالٍ يُفترض ألا تُطاولها يدايّ اليانعتان، إذ كانت أمي تحدّد لي طبعاً ما عليّ قراءته بنماذج كتبٍ زهرية ومُزركشة كنت ألتهمها أمامها لأمارس هوايتي في قراءة كتب الراشدين بعيداً عن رقابتها، مع أنني غالباً ما كنت لا أفقه منها شيئاً! حتى أنّ كتاب "لا أنام" لإحسان عبد القدوس قضّ مضجعي لليالٍ طويلة وأنا أحاول عبثاً فهم القصة متسائلةً عن سبب منع أمي لي من قراءته! وهكذا أحببتُ الكتب ثم اقتنيتُ منها الكثير. وقررت دخول معترك الترجمة بجامعة القديس يوسف في بيروت، فتخصّصت في الترجمة الفورية لأحصل على دبلوم دراسات عليا فيها وثم في الصحافة، وسرعان ما انتقلتُ من الممارسة النظريّة للغة الى امتهانها عملياً سواء من خلال التعليم الجامعي أو عملي كإعلاميّة ثم مسؤولة في عدّة صحف لبنانية محلية وعربية.
يقولون إنّنا نعيش "مرحلة موت الشعر والقصة وازدهار الرواية". هل هذا صحيح؟ هل حقاً شعراء اليوم هم غرباء أقوامهم؟
الشعرُ لا يموت. طالما ثمة قلبٌ يخفق لا بدّ مِن أن تسود مملكة الكلمة. والكلمة عابرةٌ للقارات والأجناس. الشاعرُ الفرنسي الراحل شارل أزنافور مثلاً كان يؤمن بسطوة القصيدة أكثر من الموسيقى نفسها وكان يعزو إليها فضل مجده رغم أنّه اشتهر كمُطرب أولاً. كان لحن الكلمة وفحوى المفردات يحتلان أهميةً بالغة لديه وإليهما يعود فضل رواج أغانيه وفق رأيه. وحين سُئل ما هي أحب صفة يريد أن يتذكره بها الناس قال: "أحب أن يُخلَّد ذكري كشاعرٍ أكثر منه كمُطرب". والشعرُ مزدهرٌ في المجتمعات الغربية المُستقرّة لأنّها تملك ما يكفي من راحة البال للتلذّذ بجمال الوجود وتتفنّن في دعم الفنون، بينما نتخبّط نحنُ في تأمين بديهيات الحياة فلا نجد وقتاً للتمتع بالكلمة، فيصبح الشعر من الكماليات بحيث لا نجدّ وقتاً كافياً له في يومياتنا التعيسة.
وأؤمن أنّنا نعيش في عصر السرعة ومعه قد تتلاشى الملامح التقليدية لفنونٍ تحتاج بشكلٍ جوهريّ الى وقتٍ طويل لتُزهر. إنّه عصر "التفقيس". "تفقيس النجوم" والكتابة "السهلة" والمديح المُبالَغ فيه؛ فأدباء الأمس وشعراؤه أمسوا خالدين إثر ابداعاتٍ أنتجوها على امتداد سنواتٍ طويلة وبجهدٍ حثيث بينما تصنع وسائل الاعلام والمال اليوم أشباه الشعراء الذين ينالون شهرةً غير مستحقّة في "يوم وليلة" كما يقولون, أما المواهب الحقيقية فلا يسلّط الضوء عليها لأنها أساساً لن تدخل في حلقة الترويج والعلاقات العامة، فالكاتب أو الشاعر الموهوب غالباً ما لا يجيد تسويق أعماله، فهو يكتب بالفطرة وليس بهدف الشهرة. وعن رجحان كفّة الرواية فالسبب إنّما يكمن في سهولة وصولها الى السواد الأعظم من الناس تماماً كما أنّ رؤية فيلمٍ سينمائيّ أسهل من قراءة كتاب.
ما رأيك في الترجمة عبر لغة وسيطة؟
شرّ لا بدّ منه؛ فكيف نترجم للكولومبي غبرييل غارسيا ماركيز أو لباولو كويللو البرازيلي إن كنّا لا نتقن لغتهما؟ لا بدّ من أن نلجأ الى نتاجهما مُترجماً بلغةٍ وسيطة نُعرّبها لاحقاً، أما المُعضلة ففي التأكّد من عدم خسارة روح النص عبر النقل المُتواتر وهنا تكمن براعة المُترجم.
كتابك "شعراؤنا صانعو مجد أرمينيا" هو بمثابة جسر بين العربية والأرمنية حدثينا قليلاً عن هذا الكتاب المهم.
كوني متذوّقة للشعر عموماً آلمني غياب الشعر الأرمني عن خارطة العالم العربي؛ فالأشعار الأرمنية المعرّبة كانت نادرة، ومعظم الأعمال في هذا الميدان خجولة، لذا أردتُني جسر تواصلٍ بين الحضارتيْن الأرمنية والعربية. استغرقني العمل قُرابة الثماني سنوات، وكتاباي "شعراؤنا صانعو مجد أرمينيا" و"هتاف الروح" احتفاءٌ بالجذور وتلاقحٌ للحضارات، وأنا أكرّم فيهما أسياد الشعر الأرمني بنقل نتاجهم الى لغة الضادّ. وفي الكتابَيْن عودةٌ الى جذور الكلمة والشعر منذ الميثولوجيا، مروراً بأشعار القديسين، وصولاً الى شعراء المجزرة والشعراء المعاصرين، وقد اخترتُ أبرز الشعراء وأكثرهم شهرةً كونهم مداميك التراث الشعري الأرمنيّ عبر التاريخ.
استحالة الترجمة:
يقول فولتير إن "الشعر لا يترجم وهل يمكن أن تترجم الموسيقى؟" ما رأيك؟ وهل حقاً ترجمة الشعر أصعب من النثر؟
تقديس فولتير للشعر جعله يعبّر عن الرأي هذا, وأنا أعتقد أنّ للشعر موسيقاه ويفعل في المرء فعل الموسيقى, ولولا الترجمة لما تعرّفنا الى فولتير أو سواه، ولما اطّلع على نتاج الأدباء الكبار إلا مَن ينطقون بِلُغتهم, وما من استحالةٍ فعليّة في الترجمة شعراً أو نثراً، فبعضُ النثر يصعُب ترجمتُه في حال أتى مُتخصّصاً أو كان بالغ التعقيد، ولكن ترجمة الشعر تحديداً مخاضٌ عسير يمرّ به المترجم وقد يلدُ ترجمةً أقرب إلى الكمال إن عرف نقل روح الشاعر بأمانة، وإلا كيف نتلذّذ بأشعار الروس أو الألمان أو حتى الصينيين ونحن لا نفقه لغتهم؟ والمترجمُ هنا شاعرٌ تقمّص روح الشاعر- المؤلف ناقلاً نتاجه بلغةٍ أخرى لا تقلّ إبداعاً عن اللغة الأم التي كُتبَت بها القصيدة. هو إذاً كالصائغ البارع يعمل على قالبٍ من ذهب عليه ألا يخدش جوهره أو يُبهِتَ بريقه.
هل يمكن للمترجم أن يعتاش من الترجمة؟ وأقصد هنا تحديداً المترجمين الى العربية دون سواهم.
مهنة الترجمة للأسف مجحفةٌ في العالم العربي، وغالباً ما لا يُقدَّر المُترجِم كما يجب مقارنةً بالغرب الذي يُنزلُه بِمنزلة المؤلف نفسه فلا يبخل عليه بأجرٍ يليقُ ببراعته, وقد تجد في عالمنا من يعتدي على الترجمة زوراً ما يُفضي الى مضاربةٍ غير سويّة في الأسعار تنعكس سلباً على ما يتقاضاه المُترجم المتخصّص. وعالمنا العربي أساساً لا يولي الترجمة الأهمية المستحقّة، فهو لا يترجم ربع ما تترجمه القارة الأوروبية وتراه مُقِلاًّ في نقل دُرَرِه الى لغاتٍ أخرى، لا بل لا يُترجم نتاج مفكّريه وأدبائه إلا لِماماً، وغالباً ما يخضع الأمر لِمعايير العلاقات العامة و"البيزنس النفعي" بعيداً عن المهنية وتقدير المواهب الحقّة.
أدب الأطفال:
لك مساهمات في أدب الأطفال، برأيك هل الكتابة للأطفال تختلف عن الكتابة للبالغين؟
طبعاً؛ فالكتابة للأطفال تخضع لمعايير مختلفة, ومع أنّ اللغة يجب أن تكون مبسّطة إلا أنّ المهمة ليست سهلة أبداً، اذ يجب مراعاة صغر سن القارئ وبراءة روحه، ونقل الأفكار إليه بشكلٍ يوعّيه على أدبيات الحياة ويزرع فيه بذور الأخلاق الحسنة.
الكتابةُ للأطفال مسؤوليةٌ كبرى فأنت تسهم بذلك في "قولبة" جيل المستقبل، وهي من أحبّ الكتابات الى قلبي لأنها تتطلّب خيالاً واسعاً بالاضافة الى القدرة على نقل الأفكار بلغةٍ مُبسّطة ومشوّقة في آن.
ما مدى اقترابك من الأدب المصري. ولمن تقرئين من الروائيين والشعراء المصريين؟
لا تستطيع أن تكون مغرماً بالكلمة ولا تتعرّف الى أدباء "أم الدنيا" وشعرائها, أَحَبُّ الشعراء المصريين إلى قلبي الشاعر أحمد شوقي، والشاعر أحمد رامي وفاروق جويدة وسواهم طبعاً، أما من الروائيين فأعشق نجيب محفوظ وأنيس منصور وإحسان عبد القدوس ويوسف السباعي وعبّاس محمود العقاد وغيرهم, وآخر رواية مصرية مُمتعة قرأتها هي "عزازيل" ليوسف زيدان.