القاهرة 27 نوفمبر 2018 الساعة 11:29 ص
كتب : أحمد رجب شلتوت
منذ عقود والرواية العربية تشهد ازدهارا كبيرا فقالوا أنها أصبحت ديوان العرب، وكثرت الجوائز المرصودة لها فكثر كتابها وناشروها، لكن الناقد العراقي المقيم بباريس، الدكتور "حسن سرحان جاسم" يرى في ذلك الرواج الآن ظاهرة وقتية، ستنتهي قريبا مؤذنة باندثار الرواية العربية، التي ستلقي من وجهة نظره نفس المصير الذي لاقته الرواية الفرنسية الجديدة، وهو في دراسة له يقول "من أبرز سمات حيوية الرواية في منطقة ما من العالم قدرتُها على التجدد والاختلاف والتنوع وقابليتها على مواصلة التجارب السابقة وتعزيزها وتقوية جذورها وإنعاش مصادرها. وتموت الروايةُ عندما تنفصل عن مرجعياتها التاريخية وتفقد ارتباطها بماضيها فتحدد لنفسها، بين فترة وأخرى، نقطة انطلاق جديدة. تعاني الرواية أيضا وتقترب من الموت عندما تخاف التجديد وتخشى المغامرة وتركن إلى الجاهـــز من التقنيات والثيمات, وتستعيد قوالب نمطية من الحكايات والشخصيات الروائية التي تحولت، بفعل كثرة استخدامها، إلى مجرد أدوار تمثيلية بلا طاقة دافعة ولا ديناميكية حقيقية.
ويضيف في نفس الدراسة "لأزمة الجمود التي تعرفها الرواية العربية اليوم مظاهرُ كثيرة أبرزها هذه المحدودية الصارخة على مستوى الثيمات الروائية وهذا الانغلاق البيّن لأفق كتّابها فيما يتعلق بتجديد موضوعاتهم".
ويرى حسن سرحان جاسم أن (سي السيد) و(اللاز) و(الزيني بركات) و(مصطفى سعيد) لم يكتسبوا بقاءهم في أذهان عامة القراء لأنهم شخصيات محورية فقط بل لأن الثيمة التي وظفتهم كانت من الاتساع والقوة بحيث ضمنت لهم الاستدعاء والحضور, في كل رواية نعثر فيها على وجود لموضوعة الرجل الشرقي الكلاسيكي والشخصية الثورية التي تختفي خلف قناع معين من أجل ستر ثوريتها والريفي الذي يغادر قريته أو مدينته إلى الغرب وما يفرضه هذا الانتقال من تصادم في القيم. بدون الثيمات التي أوجدتهم، لا قيمة تذكر لكل تلك الشخصيات، أما الآن فمن وجهة نظرة الرواية العربية محاصرة بين ثيمتي السياسة والدين، فإذا ما أريد لها مواصلة الحياة وأخذَ جرعات منشطة تؤخر الموت المقبل لا محالة فلا بد من اختراع ثيمات جديدة تفتح أبواباً طارئة على وعينا بالعالم في ديمومته وتدفقه وسريانه.
وعلى العكس منه يقول الروائي والناقد _ العراقي أيضا _ الدكتور "رسول محمد رسول" لا أعتقد بذلك؛ فالرواية العربية، وفي خلال عشرين عاماً ولت، أكدت وجودها على نحو متجدد من حيث الأسلوب والموضوعات، نعم الحكايات مبذولة في كل مكان لكن أسلوب تقديمها يختلف من روائي إلى آخر، بل اكتسبت الرواية العربية تجديداً في المتخيل الموضوعاتي، إذ هناك العشرات من الروايات العربية تناولت ما جرى ولا يزال يجري في الساحة العربية من حروب وإرهاب وثورات جماهيرية وشعبية جسدتا الرواية العربية في الكويت والعراق وسوريا وتونس وليبيا، والأمثلة كثيرة والعينات أكثر، لكن النقد السردي يغفل عن الكثير من التجارب.
المرحلة الرابعة
وهو ما يؤيده الناقد المصري د. عزوز علي إسماعيل، فهو يري أن الرواية العربية مرت بمراحل الإرهاصات والنضج والتأصيل لتصل الآن لمرحلتها الرابعة التي أصبحت فيها ديوانا للعرب، وهي مرحلة ما بعد نجيب محفوظ التي نحياها الآن، ويرى الدكتور عزوز أن الرواية العربية لا تكرر ثيماتها لكنها تعبر عن أزمات إنسان عربي متكرر الهزائم والخيبات، لذا يغلب على شخصياتها التيه والانكسار، ذلك نتيجة لعدم نجاح ثورة الياسمين في تونس وثورة يناير في مصر، فمثلا رواية الطلياني التونسي شكري المبخوت لم تشكل تيارا روائيا، وما عبر عنه عمار على حسن في " سقوط الصمت" ما هو إلا جزء يسير من تضحيات عظيمة حدثت في هذه الثورة العظيمة التي راح فيها زينة شباب مصر الأبرار الذين طالبوا بالحرية المفتقدة والعدل الضائع، من هنا فإن الرواية العربية في المرحلة الرابعة أصبحت أكثر قرباً من الحياة ومعبرة عنها بكل أطيافها وكذا الأحداث العضال التي تعيشها الأوطان بطريقة أدبية رهيفة, وأصبحت الرواية هي الديوان المعبر عن الآمال والآلام، لذا سيطول عمر ربيعها، لكن على النقد أن يواكبها وأن يفرز غثها من ثمينها. الأكاديمي المصري يسري عبدالغني يشاركه الرأي ويرى الأزمة في النقد وليس في الإبداع، فالآن الجميع يكتبون الرواية، لدينا نشطاء على مواقع السوشيال ميديا ودعاة دينيين وممثلون وضبّاط متقاعدون، حتى سائقي التاكسي والنجّارين وبائعي المنظفّات وحتى صبيان النجّارين يكتبون الروايات. أفراد الأمن ومديرو الهيئات الحكومية وموظفو وزارة الثقافة والمتقاعدون والعاطلون وأصحاب المعاشات المبكرة.. كلهم يكتبون الروايات، فكثرة الإنتاج الذى نراه اليوم منذ أن كثرت الجوائز المخصصة لها، دفع العديد من الأشخاص لفتح دور نشر من أجل إصدار الروايات".
حجم إنتاج الرواية العراقية الذى بلغ مائة رواية منذ احتلال العراق وحتى اليوم، صدر فى مصر عن خمسين دار نشر مصنفة ثلاثمائة رواية خلال الستة أشهر الأولى من عام 2018 ! هذا العدد الكبير هو الخطر الذى يتربص بالرواية. إننا فى مصر نفتقد إلى وجود مرجعية متخصصة فى الرواية المصرية، فأى شخص يرغب فى أن يصبح لديه رواية، فإن كل ما عليه هو تدبير مبلغ معين من المال، ويقدم نصا لإحدى دور النشر، لتضع على غلافه كلمة رواية. فغياب النقد يا سادة يؤدى إلى غياب الرواية الجيدة، بالإضافة إلى بعض الجوائز المشرقية التى تنتصر للرواية المؤدلجة أو الرواية المناسبة لأجندة اصحاب الجائزة ، تعرض الرواية العربية لخطر حقيقي.
البحث عن خصوصية
الناقد والأكاديمي المصري "يسري عبدالله" يرى بقاء الرواية العربية مرهونها ببحثها عنم خصوصية حضارية، ويقول: تعد الرواية جنسا أدبيا مرنا قادرا على استيعاب الذاتي والموضوعي، وتنفتح على الفنون الأدبية الأخرى فتستعير من الشعر مثلا لغته الرهيفة أحيانا، وقد تلجأ لاستعادة تقنيات سينمائية مثل آليتي الاسترجاع والاستباق، وهي في ذلك كله يجب أن تكون مغامرة جمالية وموضوعاتية قادرة على النفاذ إلى سيكولوجية المتلقي.
والرواية العربية في لحظتها الراهنة تقدم اقتراحات سردية مغايرة فتنزع أحيانا إلى أنسنة التفاصيل الصغيرة، أو مقاربة السياسي على نحو جمالي مختلف يتخلص من الحمولات الأيديولوجية الزاعقة، فيقدم بناء فنتازيا موازيا للواقع على نحو ما نرى مثلا في رواية " قطط العام الفائت" للروائي إبراهيم عبدالمجيد، كما تصنع أحيانا جدلا ما بين التاريخي والجمالي دون أن تغرق في فخ التسجيل الوثائقي، بل تنفتح على أفق تخييلي وسيع مثلما نرى في رواية " عتبات الجنة " للكاتب فتحي إمبابي، كما قد تنزع الرواية صوب فضاءات نفسية تستلهم فيها المناخات الاجتماعية المتناقضة والمرتبكة كما نرى في رواية " بوركيني " لمايا الحاج، أو قد تسائل جماليا تيمات مثل العنف والتطرف كما نرى في رواية" خريف العصافير " للمغربي خالد أقلعي، أو قد تلجأ إلى خلق عالم أسطوري تنحت فيه الشخوص والأسماء على نحو فانتازي كما نرى في رواية " الوصفة رقم 7" للروائي المصري أحمد مجدي همام.
إن المعالجات الفنية والطرائق السردية المختلفة صارت علامة على رواية عربية تبحث عن خصوصيتها الجمالية مستفيدة في ذلك كله من إرث راسخ شكلته أجيال الكتابة المختلفة ودعمه وعي بالمنجز الغربي في السرد الذي صار لعبة جمالية تعيد صياغة العالم ليس عبر المقولات الكبرى ولكن عبر عناصر ذاتية وهامشية في حركة دءوب تكشف عن نزوع مستمر في قراءة الواقع وما ورائه وتلمس ذلك العصب العاري داخله.
تعريف الرواية
بينما يرى الروائي السوداني "عماد البليك" أن الأزمة تكمن في عدم وجود تعريف محدد لماهية الرواية العربية، ويتساءل: هل يكفي أن تكتب كلمة "رواية" على الغلاف لنقول إن هذه رواية. لقد قرأت حوارات لكتّاب عرب قالوا إن الناشر هو من أضاف كلمة رواية، في حين قدموا هم فقط نصوصًا غير مصنفة في الأساس، وبعض دور النشر صارت تضع في العقود بندًا يقول إن المصنف المعين "رواية" بناء على تسمية أو اقتراح صاحبه.
وعندما أصدر الكاتب رءوف مسعد عمله "زهرة الصمت" أثار جدلًا حول هويته، هل هو رواية أم تجريب مفتوح، فالناقد صلاح فضل رفض أن يسميه رواية، لكن مسعد يرى أن الرواية تكتب بالطريقة التي يعرفها هو. وهذا يفتح الباب أمام قضية التجريب والتجديد، وقبل ذلك الأصول والقيم والجذور لهذا الفن، أين تبدأ وتنتهي ليبدأ التجريب وينطلق، وإذا كان ميلان كونديرا يتكلم في كتابه "خيانة الوصايا" أن الخيانة ممكنة إلا أن ذلك يأتي بعد أن يكون الكاتب قد أمسك بالأسس فعليًا. إن المعيب في الرواية العربية اليوم أن هناك من لا يدرك حتى الأسس. ولنا أن نتذكر أن الرواية فن غربي في جوهره وتاريخه ومخيّله العام، وهذا يفتح الإشكال ويعقده في من يجرب إذا لم يستوف في المبدأ تأسيس تراثه في هذا الفن؟!
نعم لدينا تراث بدأ مع كتاب رواد مثل نجيب محفوظ والطيب صالح, إلى أجيال كعبدالرحمن منيف وإبراهيم الكوني، حيث يكون الدأب والاشتغال، ولا يكون التجريب مجرد فكرة أو دعاية كلامية يلقي بها الكاتب في محاضرة أو حوار صحفي، بل هي حقيقة متأتية عن التجربة والغوص والاشتغال الحقيقي الذي يعني الاختمار السليم للأفكار عبر الزمن وعبر المعرفة المنفتحة باتجاه الكونية في الإدراك لا مجرد المشي على حواف ما يمكن أن يحمله واقعنا الثقافي الذي يعيش في السطحيات والقصص معادة التدوير والاستهلاك.
من الصعب في الخلاصة أن نلخص الأزمة فهي عميقة، قد لا يكفي كتاب كامل لسبر غورها المنهك في ظل تشابه النصوص والأفكار والشخوص، وحيث لم نتخلص من فكرة الرواية التي تحاكي الواقع بجدلية باهتة، وترمز للثقافة والمثقف شكلانية، وتقوم بدور الأداة الترويجية للسياسة والفلسفات والقيم، دون أن تقترب من الحدود المفترضة لأن تسمى هذه النصوص روايات بالفعل.
مأزق لا احتضار
أما الروائية السورية "لينــــــا كيــــــــــلاني" فتقول " الرواية العربية الآن لا تحتضر لكنها في مآزق لأن كل ما لا يتجدد يذبل، ويذوي. لكن الأخطر هو التجريب والتجديد حين يكونا غير ناضجين بما يكفي لإنصاف الرواية. وكلٌ بات يأخذ مساره بين فئات الشباب وقد بدؤوا مغامرتهم الأولى مع الأدب باقتحام هذا الجنس الأدبي الذي يتطلب حرفية عالية في القص، والبحث عن أساليب جديدة للسرد الروائي بما يؤسس لمدارس أكثر حداثة.ونجد أن معارض الكتاب تشهد تدفقاً غير مسبوق للرواية الجديدة، فما من ناشر تقريباً إلا وقد أفرد لها مساحة من بين إصداراته إن لم نقل إن بعض الناشرين ما عادوا يحتفون إلا بالإصدار الروائي، وأغلب كتابها من جيل الشباب. روايات تعتبر أن العامية هي تجديد في الشكل، وأن قصص الرعب والاثارة هما تجديد في المضمون.. والإقبال الجماهيري الذي يكاد يصبح حشوداً على مثل هذه الأعمال يضع الرواية في مأزق حقيقي.
ليس مهماً أن تكون بين أيدينا عشرات أو مئات الروايات الجديدة ـ وهذا هو حالنا الآن على أي حال، بل الأهم أن نعثر من بينها على الرواية التي تطورت حسب معايير الخطاب الحديث في حضور حقيقي، وليس حضوراً شاحباً يكاد ينطفئ بعد وقت قصير. ومادام النقّاد، والكتّاب من الروائيين والمبدعين يعترفون أن مساراً جديداً أصبح يعلن عن نفسه في الرواية العربية فلابد إذن من حركة نقد حقيقية تثري هذه المسيرة الإبداعية في فرز حقيقي لا يقوم على المجاملات، ولا الإيديولوجيات، ولا المحسوبيات، خاصة وأن واقعاً جديداً بدأ يفرض نفسه على فضاء القص نتيجة المتغيرات السياسية، والاجتماعية، والديموغرافية، وما ينال الجماعات من متغيرات نفسية، في انفتاح أكيد على أشكال التعبير المتحولة وخاصة في الواقعية الروائية.
وأمام ما بات يُعرف بالرواية الرائجة في زمن الدعاية والإعلان، والتواصل والاتصال يبحث الباحثون في سر هذه الظاهرة المتنامية وفي معارض الكتاب خاصة، والسؤال يفرض نفسه في بحث عن جواب: هل بالضرورة أن تكون الرواية الرائجة هي الرواية الفائزة بمعايير الأدب، أم أن تصنيفات جديدة بدأ يفرضها جيل الشباب من الكتّاب بما يجعل الرواج مقياساً للجودة، وليس العكس.. أم أنه اغتراب قسري عن معيار نقدي حقيقي؟
أسئلة كثيرة تنتظر إجاباتها من محترفي الأدب لن يحسمها جواب واحد. أما أدب الخيال العلمي فهو مازال يحبو من خلال الرواية، وهو يكاد يلتبس بالفانتازيا، ولا يتجاوزها الى خيال علمي حقيقي يؤسَس على الحقيقة العلمية ولو ذهب بها الخيال بعيداً لكنها تبقى قابلة لأن تتحقق.