القاهرة 20 نوفمبر 2018 الساعة 09:37 ص
كتب : د.محمد السيد إسماعيل
على الرغم من علاقتى المبكرة بالشعر – إبداعا ونقدا – وعلى الرغم من أطروحتى الأكاديمية حول الرواية الحديثة فإن متعتى بقراءة القصة القصيرة وافتتانى بها لايقل – بحال من الأحوال – عن متعتى بالشعر الذى هو مدار إبداعى وقراءاتى النقدية فى الغالب ، ودعواي التى أختبرها الآن أن القصة القصيرة فن ماكر؛ لأنه استطاع أن يستعير من الشعر كثافته واصطياده للحظات المتوترة المشحونة بالدلالات وإيجازه ومجازيته ومفارقاته المدهشة التى تأتى مع لحظة التنوير والتى قد تقلب دلالة المتن مع لحظة النهاية .
كما استطاعت – بمكرها أيضا – أن تستعير من الرواية مخالطتها للواقع الذى قد تترفع عليه القصيدة واعتمادها على السرد والوصف ورسم الشخصيات مما يحقق حميميتها وتصويرها للمأزق الوجودى أو الواقعى, ويمكن القول إنها فن يقف على الأعراف والواقفون على الأعراف هم الأكثر إثارة دائما .
ولأن من شب على المكر شاب عليه فقد تسللت إلى القصيدة – قصيدة النثر تحديدا – حتى كادت أن تحولها إلى قصة خالصة وأصبح النقاد فى حيرة من هذا الأمر الجديد : كيف يفرقون بين السرد الشعرى والسرد القصصى حتى أصبحنا نسمع عن القصيدة السردية والقصة القصيدة هكذا فى درجة عالية من التماهى وليس مجرد تداخل الأنواع على نحو ماشاع طويلا ، ولأنها تحب الغزو – بخفتها التى لاتحتمل – فقد غزت الرواية أيضا ، دعك من أن الروائيين كلهم – تقريبا – قد جاءوا من رحم القصة القصيرة وأن الروائى لايكون كبيرا إلا إذا كان – فى الأصل – كاتب قصة كبير ..دعك من هذا كله لأن الغزو الذى أتحدث عنه هو غزو البنية الجمالية نفسها, وما النوفيلا إلا أثر من آثار القصة القصيرة, بل إننا نجد روايات كثيرة تقوم على ما يعرف بالمتواليات القصصية التى لايجمع بينها إلا البطل أو البطل والمكان, وتظل لكل قصة فى هذه المتوالية عالمها الخاص المنفصل / المتصل بغيره طبقا لجماليات المتوالية القصصية التى تقوم عليها الرواية.
القصة القصيرة إذن تغزو وتستعير, تمنح وتأخذ, وليس غريبا أن تستعير من الفنون جميعا مثل السينما والفن التشكيلى, فاستعارت من السينما فن اللقطة عن قرب أو عن بعد, ووصف حركة الشخصيات والقطع والمونتاج وتقنية اللقطات المتجاورة, واستعارت من الفن التشكيلى توضيف جماليات المكان بوصف الفن التشكيلى فنا مكانيا فى الأساس, حتى أصبحنا نسمع مصطلح " القصة اللوحة " التى تعتمد على الوصف شبه المحايد.
إن ماسبق يشير بوضوح إلى سمة من أهم سمات القصة القصيرة ألا وهى " المرونة " التى تؤهلها دائما للتطور وتمثيل إيقاع العصر المتلاحق والتقاط حساسيته المتغيرة, هذه المرونة تمكننا من القول إن القصة القصيرة لا تعرف الشكل الثابت فهناك قصص تقترب فى حجمها من النوفيلا, وهناك ما يعرف بالقصة القصير جدا التى يمكن أن نطلق عليها القصة الومضة قياسا على قصيدة الومضة وهى تكاد تكون نوعا أدبيا جديدا توفرت على مقاربة جمالياته دراسات عديدة .
ولعلى ممن يفضلون مصطلح التنوع أو التعدد بدلا من التحول؛ لأن الأخير قد يعطى انطباعا بالصراع ومحاولات الإلغاء والإقصاء, وأنا هنا لا أتحدث بوازع أخلاقى بل بدوافع فنية خالصة, فالفنون عامة والأساليب والتيارات لايلغى بعضها بعضا فهى فى جدل دائم فيما بينها ، فى الأدب لايلغى الجديد القديم بل يستثمره ويوظفه هكذا أفهم الأمر فى القصة القصيرة والشعر والرواية والمسرح, ففى فترة واحدة ظهر يوسف إدريس ويوسف الشارونى ولم يلغ أحدهما الآخر على الرغم من اختلافهما البين؛ حيث كان إدريس مجددا لروح الواقعية, بينما يبدو الشارونى تعبيريا مهتما بمصائر الإنسان عامة وبالقضايا التى تتجاوز المكان المحلى, بهذا الفهم نستطيع أن نقارب خريطة واسعة تجاوزت فكرة التأطير أو التسكين فى مدارس محددة .
لم تعد هناك قداسة لخصائص مدرسية ثابتة أو شبه ثابتة " التجريب " هو الأفق الذى يتحرك الجميع داخله التجريب على المستوى العام, والتجريب على مستوى الكاتب الواحد الذى يخرج من كتابة إلى أخرى مغايرة وإن ظل محتفظا بروح واحدة سارية فى مجمل أعماله كأنها بصمة " الصوت ", ولنتأمل رحلة سيد الوكيل أو سعيد نوح على سبيل المثال, ثم الأسماء المبدعة التى توالت على الطريق : محمد عبد النبى – عبد النبى فرج – فاروق الحبالى – رباب كساب – هدى توفيق – سعاد سليمان – هناء نور وغيرهم كثيرون .