القاهرة 13 نوفمبر 2018 الساعة 10:31 ص
كتب : أحمد مصطفى الغـر
"لا حزن، لا بكاء، لا لباس أسود، لا للتعزيات بأى شكل ومن أى نوع، فى البيت أو خارجه، ثم، وهذا هو الأهم، وأشدد، لا حفلة تأبين، فالذى سيُقال بعد موتى سمعته فى حياتى، وكلمات هذا التأبين، كما جرت العادات، مُنكَرة، مُنفِّرة، مُسيئة إلىَّ، أستغيث بكم جميعاً أن تريحوا عظامى منها"..
هكذا كانت رغبته قبل 10 سنوات من رحيله الهادئ، لكن كيف لا نحزن أو لا نقول فيه ما يليق بجلال موته وعظمة حياته، إنه "حنا مينه"، شيخ الروائيين السوريين وأحد أعمدة الرواية العربية في إثراءه لفيوض الخطابات السردية وتمازجاتها التاريخية والسيَرية والواقعية، "مينه" الذي كرِّس كل كلماته لأجل هدف واحد، هو نصرة الفقراء والبؤساء والمُعذَّبين على هذه الأرض، شارعاً قلمه من أجل الهدف ذاته، فقدم رصيدًا كبيرًا من الأعمال الأدبية، تعد من أهم ما قدمه الأدب والرواية السورية.
ولد "حنا مينه" في مدينة اللاذقية عام 1924م، عاش طفولته في إحدى قرى الإسكندرون، قبل أن يعود إلى المدينة، دخل المدرسة وحصل على الشهادة الابتدائية فى عام 1936م، وتوقف عن الذهاب إلى المدرسة منذ ذلك التاريخ، عاش حياة صعبة فى ظل الفقر والتنقل من مكان إلى آخر ولم يكن طريقه ورحلته نحو قمة الأدب سهلة على الإطلاق، لقد عاش عمرًا طويلًا من الترحال والسفر، حياته حافلة بالكد والشقاء والعمل والشهرة، حيث مارس العديد من المهن قبل أن يكون كاتبا، فعمل أجيراً في محل حلاقة، ثم كاتب عرائض، ثم بحارا، إلى أن نشر روايته الأولى "المصابيح الزرق"، بدأ "مينه"حياته العملية مع الصحافة، قبل أن ينطلق نحو الأدب، حيث بدأ بكتابة القصص القصيرة، ثم الروايات، التي حقق العديد منها نجاحات كبرى رسخت اسمه كشيخ للرواية السورية, وصارت رواياته أساس عمله، إلى جانب عمله الذى دام طويلاً فى وزارة الثقافة، قبل أن يتقاعد مع نهاية القرن.
كانت حياته ذاتها مصدر غنى لهذا المخزون الكامن من الأدب، فقد كان يكدح، منذ طفولته حتى شبابه المتأخر، وهو ما شكل له إرث إعتمد عليه لاحقاً بعدما دخل ميدان الأدب, وبرغم كل المجد الأدبي الذي وصل إليه.. لم يرتح "مينه" إلى مجده الأدبي، فهو لا يتعب من الكتابة والإمساك بالقلم، إذ كان يصر على إصدار رواية جديدة فى كل عام تقريباً، حتى زاد عدد رواياته على 40 رواية ومجموعة قصصية، هذا بخلاف كتبه العديدة فى النقد الأدبي، وكتاب آخر عن سيرته القلمية، وله كتاب تضمن حواراته وأحاديثه فى الرواية وفى الأدب، وكتاب آخر عن صديقه الشاعر التركى "ناظم حكمت".
كان "مينه" يميز بين القصة والرواية، فعلى حين أن الرواية حياة وبالتالي فهي تتقدم، كان يرى أن القصة عبارة عن لقطة مفردة من الحياة، فهي تتراجع، وفي رأيه فإن القصة ليست وحدها هي التي تتراجع أمام تقدم الرواية، بل الشعر والمسرحية وكل الآداب النثرية، أما عن علاقة المضمون بالشكل فقد كان المضمون هو الذي يجذب انتباهه، وها نحن نسمعه يقول: "في كل رواية أكتبها هناك الجديد، وهناك الاكتشاف للمناطق المجهولة".
فى قلب الشقاء حارب الشقاء، وانتصر عليه، كان لـ"حنا مينه" الدور الأكبر في تأسيس رابطة الكتّاب السوريين، كما يعتبر من المؤسسين الرئيسيين لاتحاد الكتّاب العرب، وقد نقلت كتابات "حنا مينه" للقارئ العربي حياة البحارة في مدينة اللاذقية، وصراعاتهم وعالمهم الداخلي على متن المراكب والتعايش مع أخطار البحر، لذلك فقد تم وصفه بــ "أديب الماء" بالنظر إلى الحضور الكبير للبحر في أعماله، ومما كتبه عن البحر: "إن البحر كان دائماً مصدر إلهامي، حتى إن معظم أعمالي مبللة بمياه موجه الصاخب، لحمي سمك البحر، دمي ماؤه المالح، صراعي مع القروش كان صراع حياة، أما العواصف فقد نقشت وشماً على جلدي لا أدعي الفروسية، المغامرة، نعم!، أجدادي بحارة هذه مهنتهم، الابن يتعلم حرفة أهله، احترفت العمل في الميناء كحمّال، وكنت كذلك بحاراً، ورأيت الموت في اللجة الزرقاء، ولم أهبه، لأن الموت جبان، فأنا ولدت وفي فمي هذا الماء المالح، لكنه هذه المرة كان ملح الشقاء وملح التجارب وملح العذاب جسدياً وروحياً في سبيل الحرية المقدسة".
من بين أشهر إسهاماته، نجد روايات: "المصابيح الزرق"، "حكاية بحار"، "الرجل الذي يكره نفسه"، "الفم الكرزي"، "الذئب الأسود"، "الأرقش والغجرية"، "نهاية رجل شجاع"، "الثلج يأتي من النافذة"، "المستنقع"، "الربيع والخريف"، "المرأة ذات الثوب الأسود"، و"المغامرة الأخيرة"، نالت رواياته العديد من الجوائز الأدبية المهمة فى سوريا والعالم، منها جائزة الأدب فى إيطاليا، وجائزة اتحاد الكُتاب العرب فى مصر، وكذلك وسام الاستحقاق السورى من الدرجة الممتازة، كما تُرجمت رواياته إلى 19 لغة عالمية، منها الإنجليزية والفرنسية واليونانية والإيطالية والنرويجية والروسية. وقد نقلت السينما 5 روايات له، كلها من إنتاج المؤسسة العامة للسينما: وهى "اليازرلى"، و"بقايا صور"، ثم "الشمس فى يوم غائم"، و"آه يا بحر"، المأخوذة عن رواية "الدقل"، و"الشراع والعاصفة"، كما قدمت الدراما التليفزيونية من أعماله 3 روايات، هى: "نهاية رجل شجاع"، الذى يُعتبر عملاً مفصلياً فى تاريخ الدراما العربية، وكذلك "بقايا صور"، ثم رواية "المصابيح الزرق".
عن عمر ناهز 94 عامًا رحل شيخ الرواية السورية، تاركاً نموذجًا رائعًا للمثقف العربي، في وصيّة سابقة له، كتبها عام 2008م، لزوجته وعائلته، طلب عدم إذاعة خبر رحيله فى أية وسيلةٍ إعلامية، مؤكدًا "ليس لى أهلٌ، لأن أهلى جميعًا، لم يعرفوا من أنا فى حياتى، وهذا أفضل، لذلك ليس من الإنصاف فى شىء، أن يتحسروا علىّ عندما يعرفوننى، بعد مغادرة هذه الفانية، فلا عتبٌ ولا عتابٌ، ولست ذاكرهما هنا، إلا للضرورة، فقد اعتمدت عمرى كله، لا على الحظ، بل على الساعد، فيدى وحدها، وبمفردها، صفّقت، وإنى لأشكر هذه اليد، ففى الشكر تدوم النِعم".
رحل "مينه" في هدوء دون ضجيج وهو الذي وقف يوما في وجه الإستعمار الفرنسي منذ أن كان عمره 12 عامًا، حيث انخرط فى النضال السياسي وشارك فى المظاهرات ودخل السجن مرات عديدة، وبعد رحلة كفاحه وابداعه رحل تاركاً وراءه ميراثاً ضخماً من الأعمال التى قرر مهرجان الإسكندرية السينمائى لدول البحر المتوسط - فى دورته الـ34 الاحتفاء بها وباسم الأديب الراحل الذى يعد أيقونة الأدب والسينما السورية، حيث سيتم عرض خلال الاحتفالية الفيلم الوثائقى "الريس"، وهو أحدث فيلم أنتجته المؤسسة السورية العامة للسينما قبل أشهر قليلة من رحيل "مينه"، وهو من إخراج "نضال قوشحة"، كما سيعقد المهرجان ندوة حول أثر "مينه" فى الثقافة السورية ودوره فى نقل الأدب المكتوب إلى شاشة السينما، بأي حال..
لقد رحل القائل: "عُمِّرتُ طويلاً حتى صرتُ أخشى ألا أموت، بعد أن شبعت من الدنيا، مع يقينى أن لكل أجل كتاباً".