القاهرة 06 نوفمبر 2018 الساعة 12:04 م
كتب : طلعت رضوان
من بين الأساطيراليونانية أسطورة أوديب، وفيها نبوءة بأنّ الملك (لايوس) ملك طيبة اليونانية وزوجته (جوكستا) سيُنجبان طفلا, وأنّ هذا الابن بعد أنْ يكبرسيقتل والده ويتزوّج من أمه, وبعد ولادة الطفل تخلــّص الأبوان منه, وسلــّـماه لأحد الخدم ليذهب به إلى مكان بعيد, وفى أرض جدباء لا نبات فيها ولا ماء؛ حتى يُدركه الموت, ولكن راعيًا عثرعليه فأخذه واعتنى به هو وزوجته, ثم ذهبا به إلى قصر(بوليبوس) وزوجته (ميروبى) فى كورنثا، فتبنياه وأطلقا عليه اسم (أوديب) لتورم قدميه. نشأ الطفل وهو يظن أنه الابن الشرعى لهذيْن الزوجيْن, ولكن أحد الكهنة أبدى ملحوظة جعلتْ أوديب الشاب يتساءل عن أصله, فسأل الكاهن الذى أخبره أنّ (القدر) اختاره ليقتل والده ويتزوّج من أمه, فأصابه الذعر، لذلك رفض العودة إلى قصرالزوجيْن اللذيْن ربياه لكى يتحاشى ما كتبه القدر. وبينما هو يقطع المسافات من مدينة إلى مدينة إذا به يلتقى بأبيه الحقيقى (الملك لايوس) الذى كان يضرب سائق عربته, فتدخل أوديب وقتل السيد, وكان (أبوالهول) يحرس الطريق المؤدى إلى مدينة طيبة اليونانية, ويستوقف كل من يرغب فى دخول المدينة, ويلقى عليه لغزًا ويطلب منه حل اللغز، فإذا فشل قتله, وعندما حاول أوديب المرورأوقفه أبو الهول (الذى كان فى صورة وحش على هيئة فتاة لها أجنحة) وسأله: من الذى يمشى على أربع سيقان فى الصباح وساقيْن عند الظهيرة ثم ثلاث عند المساء؟ فقال أوديب إنه الإنسان؛ فهوفى طفولته يحبوعلى قدميه ويديه, وعندما يصبح شابًا يسيرعلى قدميه فقط, ولكن عند الشيخوخة يضطرلاستخدام العصا مع قدميه, فسمح له الوحش بالمرورثم انتحر بأنْ ألقى بنفسه من فوق الصخرة.
دخل أوديب مدينة طيبة اليونانية, فرح المواطنون واستقبلوه استقبال الأبطال لأنه خلــّـصهم من الوحش, وقـدّموا له مليكتهم جوكستا (أم أوديب) حديثة الترمل لتصبح زوجته. عاش أوديب مع جوكستا وهولا يعلم أنها أمه, وأنجب منها طفلان هما (بولينكيس) و(اتيوكليس) وطفلتان هما (أنتيجونى) و(اسمينى). وبعد الإنجاب وبعد أنْ كبرالأطفال أنزلتْ السماء على المدينة غضبها، فأصابتها بالطاعون, فقال الكهنة هذا الغضب من السماء سببه وجود جريمة أخلاقية وأنّ أهالى المدينة سكتوا عليها: إذْ أنّ أوديب (الذى صارهو الملك) تزوج من أمه بعد أنْ قتل والده, وهذا المجرم يجب عقابه, ونصح الكهنة بأنّ الحل هوقتل أوديب أو نفيه من المدينة. شنقتْ جوكستا (الأم / الزوجة) نفسها, وفقأ أوديب عينيه, وبعد ذلك تستمرالأسطورة فى تصويرالموقف المأساوى لأولاد أوديب من تلك العلاقة غيرالشرعية, وما حدث من صراع بينهم ملىء بالدم.
تلك الأسطورة تمّتْ معالجتها مسرحيًا، فكتب عنها كل من (أيسخولوس)، (سوفوكليس) و(يوربيديس) هذا بخلاف الكثيرين من كتاب المسرح فى العصرالحديث. وقد فسّـرعالم النفس سيجموند فرويد تلك الأسطورة على أنها نبعتْ من (رغبة غيرمحسوسة)) تكمن فى لاوعي الطفل الذكر تجاه أمه للاستحواذ عليها, وتبعًا لذلك الإطاحة بأبيه, وكان رمزالإطاحة فى الأسطورة هوقتل الأب, وقد استفاد فرويد من أبحاث العالم (جيمس فريزر) الذى جمع من آداب الشعوب التى أخذتْ اسمًا غيرعلمى (الشعوب البدائية) بأنّ الشباب (عادة) كانوا يقتلون آباءهم ليتزوجوا من زوجاته اللائى هنّ أمهاتهم, وفى رأى علماء علم النفس أنّ تصرفات بعض مرضى الأعصاب وما تحويه أحلامهم, تؤيد نظرية فرويد كما جاء فى تقاريرهؤلاء العلماء عن حالات مرضية عديدة, وفى التلمود البابلي جاء على لسان النبى إسماعيل ((أنه من رأى رجلا فى المنام يصب زيتــًا على شجرة زيتون، فقد تملكته الرغبة لإنشاء علاقة جنسية مع أمه)) وتـُعتبرأقدم كتابة عن أسطورة أوديب هى ما ورد فى الأوديسة المنسوبة ل (هوميروس).
وقد حاول الكاتب (إيمانويل فليكوفسكى) أنْ يربط بين أسطورة أوديب وشخصية أخناتون فى كتابه (أوديب وأخناتون) بكثيرمن الافتعال، إذْ عَمَدَ إلى جمع بعض التشابهات من قصة حياة أخناتون منذ طفولته إلى وفاته بكثيرمن التعسف, كما أنه تشكــّـك فى الأسطورة اليونانية فكتب ((يبدو أنه لا الأسطورة ولا البطل كانا إغريقييْن فى الأصل)) الكتاب صادرعن دارالكتاب العربى للطباعة والنشر- ترجمة فاروق فريد- ص45) وقد حاول المؤلف استغلال الحقيقة التى أكدها كثيرون من المؤرخين وعلماء علم المصريات عن أنّ الآلهة اليونانية قد تمصّرتْ فكتب ((نستطيع أنْ نقرأ بالفعل شهادة الكتاب القدماء بأنّ (آمون) كان هو(جوبيتر) (ص57) ؛ ولا أعرف هل العيب فى الترجمة أم فى النص الأصلى، لأنّ الحقيقة كما ذكرعلماء المصريات أنّ اليونانيين أخذوا الآلهة المصرية وأعطوها أسماءً يونانية (أدولف إرمان فى كتابه " ديانة مصر القديمة ". ومارتن برنال فى موسوعته "أثينه افريقيه سوداء", بل إنّ هيردوت المؤرخ الإغريقى (489- 425ق.م) كتب ((لقد جاءتْ أسماء الآلهة كلها تقريبا من مصرإلى بلاد اليونان)) (هيردوت يتحدث عن مصر- ترجمه عن الإغريقية د. محمد صقرخفاجه- هيئة الكتاب المصرية عام 87- ص 150، 289), ومن بين أمثلة التعسف فى التفسيرالتى لجأ إليها فليكوفسكى أنّ ((ميريتاتن أخت سمنق- رع غيرالشقيقة هى أنتيجونى التاريخية)) (ص173), كما أنه حاول إثبات علاقة تشابه بين الملكة (تى) أم أخناتون وبين جوكستا أم أوديب ص180), ولكى يبدو بمظهرالعالم الموضوعى كتب ((من الممكن إدراك الأصل المصرى الذى نبعتْ منه مجموعة أساطيرطيبة اليونانية على أساس أسلوب طريقة دفن الجثة)) (ص 198) ولكن يُحمد له ما نقله عن العالم (جلاديوس) الذى شغل منصب رئيس وزراء بريطانيا فى عهد الملكة فيكتوريا، إذْ ذكرفى كتابه (الأحداث المعاصرة لهوميروس عام 1876، أنّ الكثيرمن هياكل الأساطير اليونانية تشكــّـلتْ فى البلاد الشرقية وفى مصربصفة خاصة وأنّ هوميروس اعتبر مصر أرض المعرفة, وقال (أخيليوس) ((أنه ما من كنوزتـُغريه على الرضوخ لرغبات أجاممنون، مقارنة بثراء طيبة المدينة المصرية)) (ص 206، 207) .
أما فى الأدب المصرى القديم (من منظومة الميثولوجيا) فقد ورد فى البرديات المصرية بعض القصص تناولتْ فكرة النبوءة, منها قصة عن الأميرالذى قالتْ النبوءة أنه سوف يموت بمعرفة تمساح أوثعبان أوكلب, وقد ترجمها الأثرى الألمانى (جورج إبرس) بعنوان (الأمير المسحور)؛ فكتب العالم الكبير سليم حسن أنّ ترجمة العنوان (( لا ينطبق على مضمون القصة, فالأميرفيها ليس مسحورًا وليس فى القصة شىء عن السحر, والعنوان الصحيح الذى أصبحتْ القصة تــُـعرف به الآن هو" الأمير المحتوم عليه بالموت" )) ( الأدب المصرى القديم- ج1- مطبوعات كتاب اليوم- مؤسسة الأخبار- 15ديسمبر90- ص110) وهذه القصة كـــُـتـبتْ فى عهد الأسرة 19.
وتحكى القصة أنّ أحد الملوك ابتهل للآلهة كى تهبه ولدًا، فاستجابتْ الآلهة لدعائه, وبعد أنْ حملتْ زوجته ووضعت طفلها، أتت النبوءة بأنه سيموت بمعرفة تمساح أوثعبان أوكلب, وعندما علم أبوه بالنبوءة بنى لطفله منزلا من الحجر فى الصحراء, وبه كل شىء جميل يليق ببيت ملكى، على أنْ يبقى الطفل فيه ولايخرج منه, وبعد أنْ كبرالطفل وصارشابًا, وعرف بالنبوءة من والده قال له ((يا أبى ما فائدة مكوثى هنا. إنى قد صرتُ فى يد القدر. دعنى أنطلق وأعمل ما تــُـمليه علىّ رغباتى)) فوافقه والده وجهزه بعربة مُـحملة بما ينفعه فى رحلته وقال له ((اذهب حيث شئت)) ورغم أنه كان على علم بأنه سيموت بمعرفة تمساح أوثعبان أوكلب، فإنه أصرّعلى أنْ يصطحب معه كلبًا صغيرًا.
واصل رحلته حتى وصل إلى مكان بسوريا, وكان ملك سوريا له ابنة بنى لها بيتــًا مرتفعًا وشرفة البيت على ارتفاع 56 ذراعًا من الأرض, ثم أحضركل رؤساء بلاد سوريا وقال لهم ((إنّ من يصل إلى شرفة ابنتى سيأخذها زوجة له)) وكان الأميرالمصرى بين الحضورفسألوه من أين أنت؟ فقال إنه ابن ضابط من مصر, ثم سألهم ماذا تفعلون فقالوا له نــُـحاول أنْ نصل إلى شرفة بنت الملك لكى تكون زوجة من يصل إليها. فقال: ليتها تكون لى. نجح الأميرالمصرى فى الوصول إلى شرفة بنت الملك فقبــّــلته وضمته إلى صدرها. فذهب الخدم وأخبروا والدها. فلما سأله عن أصله قال إنه ابن ضابط مصرى, ورفض أنْ يذكرالحقيقة بأنه ابن الملك، فغضب الملك السورى وقال ((هل أعطى ابنتى طريد مصر؟ أبعدوه من هنا)) ولكن الابنة أمسكت بالأمير المصرى وحلفتْ بحياة (رع حور- آختى) لأنّ سوريا كانت تابعة لمصر, وقالت أيضًا ((إذا قتلتموه فإننى عند مغيب الشمس سأكون ميتة)) فوافق الملك وتزوّج الفتى المصرى من البنت السورية, وبعد الزواج صارحها بنبوءة قتله بمعرفة تمساح أوثعبان أوكلب، فقالت له ((إذن اقتل الكلب الذى يتبعك)) ولكنه رفض, فبدأت تحرص على زوجها ولاتتركه يخرج وحده.
وبعد عدة أيام جلس الأميرالمصرى مع زوجته السورية, وعند حلول الليل نام الشاب واستغرق فى النوم , ظلت زوجته بجواره مستيقظة وقد ملأت كوبًا به (...) هكذا فى ترجمة البردية وكوبًا آخربه بيرة (حِنكتْ بالمصرى القديم) ثم تسللت حية واقتربت من فراش الشاب, ولكن الحية قبل أنْ تصل للشاب وتلدغه شربتْ من الكوب الملىء بالبيرة, شربت البيرة كلها فسكرتْ واستلقتْ على ظهرها, فأحضرتْ الزوجة فأسًا وقتلتْ الحية ثم أيقظتْ زوجها.
وعندما كانا بالقرب من البحيرة اقترب منهما تمساح ولكن ((ملاك الماء لم يسمح للتمساح أنْ يخرج من الماء. ثم خرج ملاك الماء للنزهة)) ثم دارت معركة بين التمساح وملاك الماء لمدة شهريْن, وعند هذا الحد وجد علماء الآثار أنّ البردية مبتورة, خاصة الجزء الأخيرالذى قال فيه التمساح للشاب ((إنى أنا قابضك الذى يتبعك. إنى على وشك محاربة ملك الماء. سوف أطلق سراحك..ولكن...)) وعند هذه الفقرة كانت البردية ممزقة والكلمات غيرواضحة, وذكرسليم حسن أنّ الأصل محفوظ فى المتحف البريطانى (المصدرالسابق ص115) وهذه القصة ذكرها كثيرون من العلماء منهم على سبيل المثال (جاستون ماسبيرو) فى كتابه (حكايات شعبية فرعونية ترجمة د. فاطمة عبدالله محمود- هيئة الكتاب المصرية- عام 2008- من ص 101- 107) وكان ماسبيرودقيقــًا مثل سليم حسن فذكر أنّ الترجمة المُعبّرة عن مضمون القصة يجب أنْ يكون العنوان هو (الأميروالقدرالمحتوم) وأنّ البردية محفوظة فى المتحف البريطانى باسم بردية (هاريس برقم500) .
التشابه فى القصتيْن المصرية واليونانية فى استخدام النبوءة وتدخل القدرفى مصيرالإنسان، بينما الاختلافات جذرية من حيث رؤية توظيف (القدر) فإذا بالأسطورة اليونانية تـُعاقب البشر بلا سبب, وليس لهم أى دخل فى الجرائم الأخلاقية التى قدّرها (القدر) على البشر؛ فأوديب كان ضحية النبوءة التى قالت أنه سوف يقتل والده ويتزوّج من أمه, والأبشع أنّ الطاعون الذى نزل على المدينة فيه عقاب للأهالى الذين لاذنب لهم فيما حدث إلخ, بينما القصة المصرية التى استخدمتْ النبوءة استبعدتْ تدخل (القدر) فى مصيرالإنسان، بل أكثرمن ذلك أنّ الأمير المصرى لم يهتم بالنبوءة, وصمّم على أنْ يصطحب كلبه معه, ثم نجاته من القتل بمعرفة التمساح أو الثعبان، ثم وفاء زوجته التى سهرتْ بجواره لتحرسه ووضعتْ البيرة للثعبان فشرب حتى سكرثم قتلته, والأهم من كل ذلك أنّ الملك لم يُخف النبوءة عن ابنه وإنما أخبره بتفاصيلها, وترك له حرية الخروج فى رحلة مجهولة المصير، كما رفض الشاب المصرى الإفصاح عن انه ابن ملك وقال إنه ابن ضابط مصرى, وفى نقده لأسطورة أوديب كتب فليكوفسكى أنّ فكرة (القدرية) اليونانية لم تحث على الخير..ولم تدفع الإنسان إلى إعادة النظرفى طريقة حياته ليُحاول الإصلاح منها)) (المصدرالسابق– ص 208).