القاهرة 23 اكتوبر 2018 الساعة 11:54 ص
كتب : د. صلاح فاروق
شعر البادية فى شمال سيناء يمثّل لونا خاصا من الشعر فى هذه البيئة. فمنذ عرفت أصحابه تبيّن لى أنه جزء من التراث العام الذى يخص هذه البيئة ويتصل بكل أنشطتها الفلكلورية, فهو عنصر أساسى من عناصر الأعراس والمناسبات الدينية، وكذا مناسبات الاجتماع القبلى؛ خاصة فى قضايا العرف أو نحوها من الاجتماعات المهتمة بمناقشة شئون البادية, ويتجلّى ذلك خاصة فى حفلات " السامر أو الرزعة " ممثّلا فى الدحيّة ونحوها من الرقص الفلكلورى الذى يتضمّن لونا من المناجزة الشعرية، بقصد إظهار الفضل القبلى لصاحبه، أو بقصد التحية وردها، إضافة إلى إحياء ليالى العرس بأبيات الشعر المخصوصة فى هذه المناسبات، على نحو قولهم:
الصبر يا عين لما الله يهونهى
والنى ميهى نفر ودك تكاونهى
لا تحقرى الهرش وتقولى ضعيف وطاح
فى صفحة المنبطح ياما دهكنا رماح
يا بنت أنا عمكى وسمان واليكِ
اطهى لنا خبز يوم الحشر ينجيكى
وهى أبيات إذا ما تأملناها يتبيّن فيها رقة الغزل فى وصف المحبوبة من ناحية، كما يتبيّن الحرص على إظهار مناقب الفضل المرتبطة بالبيئة الصحراوية, ومثل هذه الأبيات فى العادة تأتى مفردة، أو فى صورة قطعة شعرية صغيرة، فلا تبلغ القصيدة الكاملة, غير أن ثمة لونا ثانيا من هذا الشعر، يأخذ صورة القصيدة الكاملة، وقد كان من المعتاد أن يبدأها الشاعر ويختمها بالصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم, وفى مثل هذه الحالة فإن الحضور المستمع يعلّق بكلمة واحدة على الشاعر فيما يشبه الطقس المكمّل للقصيدة، هى قولهم : " صح لسانك " , وهى كلمة تأتى من باب التحية والاستحسان، وقد تدخل فيها المجاملة، ويمكن ترجمتها بمثل: أحسنت القول.
والمستمع لهذه الأبيات للوهلة الأولى ــ إذا لم يكن قد سمع مثلها من قبل ــ يقع فى روعه صعوبة تبيّن معالم الألفاظ نفسها، فضلا عن صعوبة فهم معانيها؛ والسبب فى ذلك اختلاف اللهجات البدوية عن اللهجات السائرة فى المدن، حتى أن بعض اللهجات البدوية يصعب فهمها على بعض أصحاب هذا الشعر من القبائل الأخرى. غير أن مكمن الصعوبة الحقيقىّ يأتى من طريقة نطق مخارج الألفاظ وما يمكن أن نسميه نبرا، يجعل من الوقوف على حروف الكلمة الواحدة مختلفا عما تعودناه فى نطقنا لهذه الكلمات؛ حتى فى المتشابه منها مع بيئاتنا الحضرية.
أما صاحب الخبرة بالشعر، خاصة القديم منه، فهو لا بد يلحظ أن تركيب القصيدة البدوية التقليدية كانت فى العادة تبدأ بوصف الديار، ثم تعرّج على وصف الدابة التى يركبها صاحبها، وقد تستطرد إلى وصف بعض نبات الصحراء ووديانه وسهولها وجبالها، فيما يشبه تحديدا للمعالم التى يمر بها الشاعر، أو بالأحرى، فيما يشبه تحديدا للملكية التى تتحرّك فى حدودها الصحراوية هذه القبيلة أو تلك, وقد يتخلّل هذا الوصف وصفا مماثلا للنجوم وللقمر؛ مظهرا تأثير ضوء هذه الأجرام السماوية على صفحة الصحراء الواسعة.
وهذا النحو من التركيب يشبه يقينا التركيب التقليدى المعروف عن القصيدة الجاهلية، حتى أننى ظللت زمنا أفكّر أن هذه القصيدة انقطعت عن كل تطوّر أو تحوّل دخل فى حياتنا العربية؛ ومن ثم ظلّت محتفظة ووفيّة لتقاليد القصيدة العربية الجاهلية. ويتأكد مثل هذا الظن إذا ما لحظنا أن هذه القصيدة تدور معانيها حول الأغراض التقليدية الرئيسية فى الشعر الجاهلى، فهى إما تكون وصفا للأطلال, وفى مثل هذه الحالة تتخذ القصيدة بعدا إنسانيا واضحا، يتمثّل فى شكوى الوحدة وطول المسافات وربما الشكوى من قلة ذات اليد، مع التأكيد على حفظ الكرامة وعدم السؤال.
أو تكون لونا من ألوان الفخر " القبلى "، يعمد فيه الشاعر إلى إظهار شجاعته، مقترنة بشجاعة قبيلته وكرمها, وربما تطرقت القصيدة فى مثل هذه الحالات إلى بعض الوقائع القبلية التى دارت فى زمن قديم بين قبيلتين أو أكثر من قبائل سيناء.
غير أن الشعراء المعاصرين فى هذه البادية يعمدون إلى البعد عن ذكر مثل هذه الوقائع حفظا لصلات المودة بين القبائل، وتجنّبا لإثارة أى نوع من أنواع الصراع القبلى؛ فالناس فى هذه البيئات مازالوا مرتبطين بشعرائهم، وربما أهاجت كلمة غير مقصودة أحقادا قديمة، وأدت إلى صراع عنيف لا تحمد عقباه.
أو تكون القصيدة لونا من ألوان الغزل " العفيف " يذكر فيه الشاعر مناقب حبيبته، طولا ونحافة، ولون شعر وعينين، وربما ذكر لون عباءتها ولون حزام خصرها, فهذه الألوان لها دلالات خاصة فى هذه البيئة, وهى دلالات تتصل بتحديد القبيلة ودرجة الشرف أو السيادة فيها، كما تتصل بتحديد المكانة الاجتماعية والعمر الزمنى لصاحبتها.
وفى مثل هذين اللونين من القصائد ــ الفخر والغزل ــ يبتعد الشعراء عادة عن المقدمات الطللية، ويدخلون مباشرة إلى متن النص مركزين على فكرته وموضوعه. والملحوظ هنا أن قصائد الهجاء وأبياتها نادرة خوفا من إثارة الأحقاد القبلية وتجنبا لأى صراع محتمل, ومع ذلك، فإن هذه الأبيات لا تخلو من إشارات حادة لاذعة وناقدة للسلوك الاجتماعى المعيب من وجهة نظر هذه البيئة, غير أن هذه الإشارات تتخذ صورة أبيات الحكمة، وتأتى خاصة فى صورة تشبيهات صريحة، تتحدّث عن حيوان الصحراء وطيورها؛ سيّما الباز والشاهين والذئب والضبع والغربان, وكل واحد من هذه الحيوانات أو الطيور يمثّل مكانة اجتماعية محفوظة، تعكس بصورة مباشرة ما يريده الشاعر فى نقده الحاد اللاذع.
يتجلّى أيضا فى تركيب هذه القصيدة الحرص على التقفية الداخلية والخارجية, وإن يكن الخبراء بهذه الشعر يذكرون أن مثل هذه التقفية المزدوجة ترتبط بلون واحد من ألوان بحور شعر البادية, كما يذكرون أن شعر البادية فى شمال سيناء خاصة اعتمد زمنا طويلا على بحر واحد أو بحرين من هذه الألوان، خاصة البحرين المعروفين : المسحوب ( مستفعلن مستفعلن فاعلاتن ) ، والهجينى الطويل ( مستفعلن فاعلن مستفعلن فاعل ).
ويذكر الخبراء أيضا أن مثل هذين البحرين يمثّلان صلة واضحة بين شعراء البادية فى شمال سيناء وأقرانهم فى الجزيرة العربية, غير أن شعراء الجزيرة يكتبون قصائد كاملة على هذين اللونين من البحور الشعرية، على نحو قصيدة الشاعر مهلى الظفيرى التى يقول فى مطلعها:
يالفاتنة كان ما تدرين بمهلّى
من سبّتك من يشوفه قال : عزّالة
امشى وقلبى سواة القدس محتلّى
عليك قلبى جريح وحالتى حالة
كما أن شعراء الباديتين ( الجزيرة العربية وسيناء ) يتصلون بالاشتراك فى لون خاص من الفلكلور المتصل بالرقص والإنشاد، هو ( الدحّة ) المنتشرة من حائل حتى باديتى الشام وسيناء, غير أن شعراء سيناء لا ينوّعون بحورهم الشعرية ملتزمين بالمسحوب والهجينى والصخرى ( مفاعيلن مفاعيلن فعولن ) فى غالب الأحوال, والأخير يوصف بأنه بحر الشجن لما فيه من نغمة حزينة ، على مثال قولهم :
وبرقن لاح لى يشعق بنوره
وليته فى سماها ما شعقها
وإن يكن ثمة اتجاه معاصر بين شعراء الأجيال الجديدة على تنويع هذه البحور وإدخال المعروف منها فى البوادى الأخرى فى شعرهم, كذلك يلاحظ المتابع لهذا اللون الشعرى أن الجيل الجديد من شعرائه يحرصون على إظهار تأثرهم بألوان الحضارة المدينية، خاصة مع اقترابهم من بيئة المدينة واختلاطهم بأهلها خلال السنوات القليلة الماضية, وبالتالى يمكن القول: إن تأثير البيئة المدينية آخذ فى الظهور خلال هذه القصائد, وهو ما يتجلّى فى اقتراب الألفاظ المستعملة من ألفاظ المدينة؛ وإن بقيت اللهجة البدوية أساسية فى نطق وتشكيل هذه الألفاظ، كما بقيت القيم الثقافية الحاكمة لتشكيل الصور الشعرية وتلوين موضوعاتها على الأصل الذى أشرت إليه قبل قليل.
إن أصحاب هذا الشعر وباحثيه يرون أن المستقبل واعدا بالنسبة لهذا اللون الخاص من الشعر، لا لزيادة اهتمام الدولة والجهات الرسمية به، وإنما لحرص الأجيال الجديدة من أبناء البادية على تعلّمه وممارسته، مضيفين إليه ما يتعلّمونه طبيعيا فى مدارسنا المدينية, وهم يرون فى هذه الأجيال الجديدة مواهب كبيرة واعدة، تضاف إلى أسماء عنيز أبوسالم التربانى الذى يُعد لديهم أمير شعر البادية فى سيناء، وصاحب الصوت الأعلى، خاصة فى ثمانينيّات وتسعينيّات القرن الماضى، وحسين التيهى من الرواد الأوائل إضافة إلى الشعراء الحاليين من أبناء هذه البادية : رضوان المنيعى ، وسلمى اجميعان، وعطالله الجداوى، ويونس أبوصفرة وعطية أبو مرزوق، وعبدالكريم الشويش، وسليمان عياط، ومسلّم الحوص.
وهؤلاء جميعا أتقدم لهم بالشكر العميق والامتنان على ما قدموه لى من معلومات خاصة بهذا الجزء العزيز من تراثنا الشعرى، كما أتقدم بشكرى وامتنانى للأصدقاء : حاتم عبدالهادى، ومسعد أبوبدر وحسونة فتحى على مداخلاتهم الرائعة ومناقشاتهم التى أوضحت لى كثيرا من معالم هذا الشعر, ولا يبقى فى الختام إلا أن أدعو الباحثين والمؤسسات الرسمية إلى تبنّى دراسة هذا الشعر، وتحقيق معجمه الخاص، كشفا لخصائصه، وحفظا لتراثه الطويل، التراث الذى هو جزء عزيز من تراثنا العظيم فى شمال سيناء وجنوبها سواء بسواء.