القاهرة 16 اكتوبر 2018 الساعة 09:34 ص
يعقوب الشارونى
القسم الثالث : قضايا مرتبطة بكتابة القصة
إلى أى مدى يرتبط فن كتابة القصة بالتربية :
كاتب القصة فنـّان قبل أن يكون رجل تربية . والفن يقوم أساسًا على إمتاع القارئ بما فى العمل الأدبى من تشويق وجاذبية , وشخصيات حَـيَّة يُعايشها الطفل , وحبكة أو عُقدة تُثير اهتمام العُمر الذى تتوجّه إليه القصة أو الرواية .
- لكن كُـلّما كان كاتب القصة معايشـًا وعلى دراية بواقع قرائه - الاجتماعى والنفسى والبيئى واليومى - وجد نفسه يختار موضوع أعماله الإبداعية حول ما يُعايشه القُرَّاء فى واقعهم أو خيالهم .
- إن الأدب , بوجه عام , نافذة يستطيع القارئ من خلالها أن يفهم نفسه على نحو أفضل , وأن يفهم الآخرين أيضًا على نحو أفضل .
- كما أن مؤلف القصة , إذا كان مُسلّحًا بالرؤية الواعية لقضايا مُجتمعه وقضايا الطفولة , فلابد أن يُساهم ما يكتبه , بشكل ما , فى التربية وفى التغيّر المُجتمعى .
- لكنـّـنا نعود لتأكيد أن أيّة قيمة تربوية أو سلوكية يتضمنـّها العمل الأدبى , لابد أن تأتى من خلال الفن وليس على حساب الفن .
فمن الخطأ أن يقصد المؤلف توظيف عمله الأدبى من أجل إحداث أثر أخلاقى أو تربوى معين ، لكن صِدْق الكاتب مع نفسه ومع القُرّاء , لابد أن يترك أثرًا شاملاً فى أعماله الأدبية , وبالتالى يمكن أن يؤثـّر فى إحداث التغيّرات المُستقبلية فى مُجتمعه , وفى نفسية وعقول وسلوكيات القراء .
الحذر من التبسيط المخل للشخصيات :
يجب الحذر من القصص التى تلجأ إلى تبسيط الشخصيات ، وتجعـل بعضهـا ممثـلاً للخيـر المطلـق وبعضها ممثلاً للشر المطلق ، مثل كل قصص الرجل الخارق للطبيعة ( السوبر مان ) ، لأن هذا مخالف لطبيعة البشر , ويؤدى إلى فهم القراء لمجتمعهم فهمًا خاطئـًـا . ففى كل إنسان جانب طيب وجانب خبيث ، والمهم أن نفهم دوافع الإنسان وأسباب سلوكه ، لكن بطريقة مبسطة تناسب القراء الصغار .
- إن هذا النوع من قصص الرجل الخارق للطبيعة يؤكد قيمًا مضادة لكل ما قامت عليه نظم الدول المتمدينة الحديثة : فمن القيم التى يجب أن تشيع فى نفوس الطلاب ، احترام القانون وترك مهمة محاكمة المخطئ والحكم عليه وتنفيذ الحكم للقضاء ولسلطات الأمن . لكن كثيرًا من قصص الرجل الخارق للطبيعة تجعل البطل هو الذى يحدد ما هو الخير وما هو الشر ، وتتركه يحكم على الآخرين بمعياره الشخصى ، وينفذ بنفسه ما ينتهى إليه من أحكام حتى إذا كانت الحكم بالإعدام !
وبهذا تلغى هذه القصص كل ما بَنـَتْهُ الحضارة من نظام للدولة ، يخضع فيه كل شخص للقانون الذى سَنـَّته الجماعة ، حتى لا يُـتْرك الأمر فوضى لوجهات النظر الشخصية التى تُـغَـلِّبها مثل هذه القصص ، التى تعطى ذلك الفرد المتفوق - والذى يفترض أن يتمثل به القارئ - كل سلطات الشرطة والقضاء وأجهزة تنفيذ الأحكام ، وبذلك تُلغى مبدأ الفصل بين السلطات : السلطة التشريعية التى تضع القانون ، والسلطة القضائية التى تطبق القانون ، والسلطة التنفيذية التى تتولى تنفيذ أحكام القضاء والقانون ، هذا الفصل بين السلطات هو أهم ضمان لحماية حقوق الأفراد وحرياتهم .
- وإذا قيل إن مثل هذه القصص تنمى الخيال العلمى ، فإنه يجب التفرقة بين القصص التى تقوم على تنمية " أسلوب " التفكير العلمى ، الذى يعتمد على الملاحظة والاستنتاج ، والتجربة والخطأ ، ووضع الفروض وتمحيص هذه الفروض حتى يصل البطل إلى نتائج إيجابية ناجحة ، وبين القصص التى تحفل بها الكتب والمجلات التجارية ، التى تقدم ، دون مقدمات ، أجهزة ووسائل جاهزة يستخدم البطل معظمها فى الدمار والقتل ، دون أية إشارة إلى أسلوب التوصل إلى اختراع تلك الآلات ، أو أية إشارة لما يمكن أن تمنحه للبشرية من فوائد ، فهى قصص " توهم " بأنها من قصص الخيال العلمى ، فى حين أنها فى الواقع من قصص " الهذيان " الذى يستعير من العلم أشكاله الخارجية دون مضمونه الحقيقى .
لا للعنف كوسيلة لحل المشاكل :
من أكثر النماذج السيئة التى تقابلنا أحيانًا فى قصص الأطفال ، تلك القصص التى تمجد العنف كوسيلة لحل المشاكل ، أو التى تجعل القوة البدنية هى العامل الأقوى فى حسم مختلف المواقف ، وذلك مثل قصص " طرزان " أو " سوبر مان " أو " الجاسوسية " والتى لا تحتوى على أى قيم إنسانية أو أخلاقية .
إن تاريخ الحضارة ، هو تاريخ إحـلال العقـل محـل العنـف والقـوة ، وعندمــا نقــدم للأطفــال شخصيات مثل " طرزان " الذى تربى بين الحيوانات ، والذى لا يعرف وسيلة لحل ما يواجهه من مشكلات إلا القوة البدنية ، فإن الأطفال سَيُسْقِطون من سلوكهم كل ما قدمه لنا تاريخ الحضارة من وجوب استخدام العقل فى حل المشكلات بدلاً من العنف والقوة ، وهو أمر يتنافى مع أهم أهداف التربية السلوكية للأطفال . فأول ما نهتم بغرسه فى أطفالنا ، هو تدريبهم على مواجهة المشكلات وحلها بنجاح ، وذلك عن طريق استخدام العقل ، مع استبعاد العنف والقوة البدنية بشكل شبه كامل .
لا لإثارة العطف على قوى الشر ولا لتقديمها فى شكل باهر كبطولات :
كذلك يجب تجنب القصص التى تتضمن إثارة العطف على قوى الشر أو تمجدها ،مثــل القصـص التــى يتغلــب فيهــا الشريـر على الشرطى أو على ممثل القانون . إن بعض من يقدمون مثل هذه القصص ، يدافعون عنها بقولهم إنهم يعرضون صور السلوك الخاطئة ، لكى يقوموا بإدانتها فى خاتمة القصة . لكن ما أشد خطأ هذاالتصور .
إن القراء الصغار يتأثرون بمختلف مواقف القصة التى يقرءونها أو نحكيها لهم ، لما فى تلك المواقف من حركة وتشويق . فإذا كانت تلك المواقف تتضمن انتصار الشر والعنف أو تمجيدهما ، وإظهار بطولتهما ، فإن ما فيها من إبهار هو الذى سيؤثر بعمق فى سلوك الأطفال ، أكثر كثيرًا من تأثرهم بخاتمة ندين فيها الشر والعنف بعبارات عامة .. فما أقل تأثير الكلمات على الأطفال ، وما أقوى تأثير مواقف الحركة والحوار والخيال عليهم .
اتجاهات معاصرة فى " موضوعات " قصص الأطفال :
المـوت ، وأبنـاء الطـلاق ، ووجـود أخ فـى الأسـرة معـاق أو متخلـف عقلِيًّـا ، ومـرض أحــد الوالديـن مرضًا طويلاً يجعل الشخص عاجزًا عن خدمة نفسه ، وفَقْد الأب لوظيفته أو تعرضه لحملة تشهير ظالمة .. كل هذه الموضوعات وجدت مَن يكتب عنها مهما كان الموضوع حسَّاسًا أو شائكًا .
كذلك تتناول القصص تقديم المستقبل للأطفال ، وتنمية قدراتهم على الإبداع والتخيل والابتكار ، وتنمية أساليب التفكير العلمى والمنطقى لديهم ، ووسائل زيادة التفاعل بين الطفل والقصة لمواجهة تحديات عصر الكمبيوتر والإنترنت .
مع أهمية تناول موضوعات تدور حول المحافظة على البيئة ، والتسامح وتَقَبُّل لآخرين ، وأهمية العمل كفريق ، واللغة غير المنطوقة التى يعتمد عليها الأطفال فى الاتصال بالآخرين مثل ملامح الوجه وحركات الجسم ونغمات الصوت .
لقد أصبح الأدب قادرًا على تناول كل ما يخطر على البال من موضوعات ، وتكمن موهبة الكاتب فى طريقة وأسلوب هذا التناول بما يتناسب مع قدرة القارئ على الفهم والاستيعاب .
دور العمل الأدبى فى تقديم المعلومات للقارئ الصغير - الوصف أم الحكاية :
مع اتساع مجالات المعرفة وما يجب أن يعرفه الإنسان , أصبحت النصيحة تؤكد على أنه :" على الكاتب أن يعرف جيدًا ما يريد أن يكتب عنه " ، ولا يكتفى بأن " يكتب عما يعرف " .
وهذا يتطلب أن يصل المؤلف إلى كل المعلومات التى لها صلة بخلفية القصة التى يكتبها ، سواء تعلقت هذه المعلومات بالمكان أو الزمان أو نماذج الشخصيات أو غير
ذلك ، لكى يعايش فى خياله كل عناصر روايته وكأنه قضى حياته معها فعلاً .
- وليس معنى هذا أن يستخدم المؤلف " كل " ما يحصل عليه من معلومات ويضعها فى عمله الأدبى ، بل يستخدم فقط ما يحتاجه ويكون ضروريًّا لعمله بحيث يدخل فى صميم نسيج العمل الفنى ولا يكون مُقْحَمًا عليه . وعلى المؤلف أن يحاسب نفسه دائمًا لكى لا يضع فى عمله الأدبى من المعلومات إلا ما هو مُرتبط ارتباطًا عضويًّا قويًّا بهذا العمل .
- وإذا كانت هناك حاجـة فنيـة لإدخـال معلومـات ، فلابـد مـن إدخالهـا عـن طريـق حـوار ، أو في مقاطع صغيرة سهلة الفهم مختصرة ، تأتى وسط الأحداث ، مع التجنب التام لأن تكون مفروضة على النص .
الوصف أم الحكاية :
ويقود هذا إلى التأكيد على أن الاسترسال فى " الوصف " قـد يـؤدى إلى سقـوط الإيقـاع والبطء فى تقدّم الحبكة , لأن ما يدفع القارئ إلى نهاية الكتاب هو الأحداث والحركة واكتشاف المواقف الجديدة للشخصيات ، وليس مجرد تراكم المعلومات أو الوصف .
- وإذا حاول المؤلف أن يجعل من روايته مصدرًا للمعلومات ، فهذا يُخرج العمل فورًا من مجال الفنون الأدبية ، ويُدخله فى مجال المقال الصحفى أو الدعاية أو كُتب المعلومات .
تزايد الاهتمام بقصص وروايات الخيال العلمى ، باعتبارها من أهم وسائل تنمية الاهتمام بالثقافة العلمية ودور العلم فى حياتنا :
يُعتبر أدب الخيال العلمى علاجًـا حقيقيًّا للقطيعـة بين العلم والأدب . وهــذا التقــارب يمكن تفسيره بالتأثير الضخم للعلم والتكنولوجيا على حياتنا ، وبتأثير الروح الصناعية فى زماننا على الأدب . وهناك إجماع على أن أدب الخيال العلمى هو أفضل وسيلة لإثارة حماس المراهقين والشباب الصغير للعلم ، ودوره الأساسى فى حياتنا .
- وتعبير " أدب الخيال العلمى " مقصود به نوع من أنواع الكتابة الأدبية ، يحاول فيه الكاتب أن يتصور ما يستطيع العلم أن يقدمه فى المستقبل إلى الإنسان من إمكانيات ، وأن يفتح عيوننا على الخير الذى يمكن أن تقدمه هذه الإمكانيات ، أو يحذرنا من أخطارها المحتملة . بالإضافة إلى أنه يهيئ الرأى العام لتقبل وجود العلم فى كافة جوانب حياة المجتمع . إن أدب الخيال العلمى يساهم فى تنمية الإبداع ، وتكوين الفكر العلمى والاهتمام بالثقافة العلمية لدى القراء ، ويساعد على تعميق فهم الناس لدور العلم فى حياتنا .
عليك أن تعرف ما تريد أن تكتب عنه :
وهنـاك تطـور مهـم آخـر فى نوعية ما يكتبه مؤلفو القصة والروايـة حاليًّـا فـى العالـم كله ، فقد كانت النصيحة ألا يكتب الكاتب إلا عمَّا يعرف ، أما الاتجاه الحديث فيؤكد للكاتب : " عليك أن تعرف ما تريد أن تكتب عنه " . فالقصة أو الرواية لم تعد تدور فقط حول تجارب شخصية ، ولا حول مُجرّدِ الخيال المُنطلق ، بل على الكاتب ، بعد أن يستقر على موضوع عمله الأدبى ، أن يجمع أكبر قدر من المعلومات والخبرات من مُختلف المصادر حول الموضوع الذى سيكتب عنه .
إن النحلة ، لكى تقدم جرامًا واحدًا من العسل الذى فيه شفاء للناس ، لا بد أن تكـون قـد جمعـت
الرحيق من ثلاثة آلاف زهرة أو أكثر . هذا الرحيق المجانىّ ، عندما تتم معالجته داخل أجهزة النحلة العبقرية ، يَتَخَلَّق العسل والشهد بما لهما من قيمة فائقة . وهذه هى قيمة الخبرة والتجربة والمعلومات التى لا بد أن يحرص المبدع على الوصول إليها قبل أن يبدأ فى إبداع عمله الأدبى أو الفنى .
أثر السينما وألعاب الفيديو على القراء :
أصبحت أفلام السينما من أهم الفنون التى يتعايش معها القراء حاليًّا منذ الطفولة المبكرة ، قبل أن يجيدوا القراءة بوقت طويل ، وذلك نتيجة اعتياد الأسرة على فتح التليفزيون طوال النهار بغير التنبه إلى أثر ذلك على صغار الأطفال ، أو لعدم إدراك البالغين لوجود مثل هذا الأثر أصلاً . ونتيجة لذلك تَشَكَّل تذوق القراء للعمل الروائى والقصصى المقروء بالبناء الفنى الذى تحرص عليه أفلام السينما .
- ولا شك - حاليًّا - أنه كلما اقترب بناء العمل القصصى أو الروائى وإيقاعه من هذا الذى تَعَوَّد القراء على مشاهدته والتفاعل معه على الشاشات ، كان ذلك عاملاً مهمًّا فى جذبهم إلى القراءة وتذوقهم لما يقرءون من أعمال روائية أو قصصية . لهـذا فـإن الأديـب الـذى يكـتـب القصـة أو الروايـة ، لابـد أن يتنبـه إلى تأثيـر مُشاهـدة الأجيـال الجديدة - على نحو مستمر ومتواصل - لأفلام السينما .
- ومن أهم آثار مشاهدة القراء لأفلام السينما ، أن عيونهم تعودت أن " ترى " الأشياء: أشكال الملابس ، طُرز العمارة ، مفردات الأثاث ، عناصر البيئة ( صحراء - بحر- قرية - مدينة ) ، وتأثيرات المناخ ( سماء صافية / سُحب / أمطار .... ) ، وبالتالى قَلَّ اهتمامهم " بقراءة وصف " لهذا الذى تعوَّدت عيونهم أن تستوعبه جيدًا بغير حاجة إلى كلمات . لهذا فإن الأدباء لم يعودوا فى حاجة إلى إطالة الوصف لما يمكن أن تراه العين ، وأصبح عليهم أن يتركوا مُهمة الوصف البصرى لعمل الرسام ، الذى أصبح دوره ضروريًّا ومطلوبًا حتى بالنسبة لكُتب المراهقين والشباب .
- كذلك تَعَوَّد القراء على الاستماع إلى " الحوار المباشر " ( direct speech ) ، سواء فى الأفلام أو التليفزيون - فلم يعودوا يتقبلون كثيرًا أن نكتفى بأن نسرد لهم مضمون الحوار ( indirect speech ) .