القاهرة 10 اكتوبر 2018 الساعة 12:18 م
حوار: محمود الديب
من أرض الشعر التي شهدت حصوله على أكثر من جائزة عربية أبرزها جائزة سعاد الصباح في الشعر عام 1998م عن ديوانه "طبل الريح"، انتقل إلى أرض الرواية عام 2004 بعد "حصول شتاء" جنوبي أول رواية كتبها على "جائزة دار الصدى الإماراتية"، المحطة الأولى في قطار جوائزه العربية في الرواية، ثم واصل رحلة الجوائز بفوزه بجائزة الشارقة للإبداع العربي عن روايته "أنا وعائشة" عام 2011م، ثم جائزة الألوكة العربية الكبرى للإبداع الروائي عن روايته "أهازيج البنغال" عام 2011م أيضاً، من المملكة العربية السعودية، ثم جائزة إحسان عبدالقدوس في الرواية عام 2016 عن روايته "السبية"، ثم في عام 2016 كان ظهوره الخاص في أرض المسرح، حيث حصد بمسرحيته الأولى "العرض الأخير" جائزة ساويرس الثقافية التي تسلمها من يد سيدة المسرح العربي الفنانة سميحة أيوب رئيس لجنة التحكيم.. إنه الروائي والشاعر والمسرحي أسامة الزيني.
جائزة ساويرس الثقافية، لديها مكانة خاصة لديك ودائماً ما تقدمها على الجوائز الأخرى التي حصلت عليها، فما هي الأسباب؟
كانت لحظة فارقة في حياتي، فلم يكن يخطر لي وأنا صغير أراقب بإعجاب روعة أداء فنانتي المفضلة، بطلة مسرحيات سكة السلامة، وكوبري الناموس، والوزير العاشق، سيدة المسرح العربي الفنانة سميحة أيوب، أنني سأتسلم من يدها أكبر جائزة للنصوص المسرحية في مصر، وأنها ستخصني بحديث ودي بهذا الدفء الذي وجدته منها وهي تؤكد لي إعجابها بالعمل، ورغبتها في أن يتحمس له أحد المخرجين لينفذه على خشبة المسرح، فضلا عن أن هذه الجائزة تعني لي الكثير؛ لأنها حصاد حب المسرح الذي غرسه داخلي والدي منذ طفولتي المبكرة، فلك أن تتصور طفلاً في الصف السادس الابتدائي يقضي ليلته ساهراً أمام مسرحية راسبوتين ليوسف بك وهبي.
لماذا تعد الفقد معلمك الأول؟
الفقد يعلمك أشياء كثيرة في هذا العالم, الفقد المتكرر المتوالي يعلمك الرضا بالقضاء، شئت أم أبيت، سواء كنت ممن يعترفون بهذا القضاء أم من المنكرين, الفقد مَدٌّ وجودي يبتلع ما شاء من الموجودات ويعود بها في جوف أمواجه العاتية.
هل تظن أن أحد هؤلاء الذين يتمنطقون بهرطقاتهم آناء الليل وأطراف النهار سيقف يتمنطق وهو يتأمل مدًّا بحريًّا مقبلاً عليه؟ بالطبع لا, الجميع يجرون أمام المد البحري، يركضون بأقصى طاقتهم أمام هذه القوة القاهرة، حتى يبلغوا مكاناً مرتفعاً آمناً يقفون عليه مذهولين، وهم يتأملون هذه القوة الطبيعية الجارفة, كذلك الفقد وراء الفقد, المد وراء المد, يعلمك أشياء كثيرة في هذا العالم, يعلمك ألا تتشبث بقوة بالأشياء لأنك ستفقدها في الأخير, يعلمك ألا تقاتل الناس على شيء فلن يدوم هذا الشيء لمن يظفر به، فضلاً عن أن من سيظفر به نفسه قد يغادر العالم كله بعد قليل من ظفره العظيم. الفقد يعلمك أن الوقت المحدد لكل منا في العالم محدود جداً، وأن مهمتنا على الأرض ليست امتلاك أي شيء منها لأن جميع هذه الممتلكات التي بين أيادينا آلت إلينا من ملايين المُلّاك الغابرين الذين وفدوا إلى هذا العالم قبلنا ثم غادروه بعد انقضاء الوقت المحدد لهم.
إن الأولَى بأحدنا أن ينشغل بترك بصمته في هذا العالم أكثر من أي شيء آخر؛ لأن الوقت المحدد له بالكاد يكفي لترك هذه البصمة.. أن يجيب عن قائمة الأسئلة الطويلة التي تكتنز بها ورقة اختباره، وأن يفكر بأناة ورَوِيَّة قبل أن يجيب عن أي سؤال منها؛ لأنها ستكون شاهدة على نجاحه أو فشله في اختبار الحياة, الفقد يا صديقي معلم قدير، يعلمك كيف تجيب عن أسئلة الحياة بتجرد لأن رأيك سيكون مجرداً من المطامع والأغراض.
متى تتوقف تجارة النُّخب عن مغازلة مشاعر الجموع وركوب الأمواج؟
نعم هذه أيضاً من مقولاتي التي لا أظن أنني سأتوقف عن ترديدها. النخب العربية، إلا قليلاً من الموضوعيين، أصبحت عبئاً على مجتمعاتها؛ لأنها تتاجر بمعاناة الشعوب، وتعزف على جراحهم، وتدغدغ مشاعرهم ببكائيات لا تصمد أمام اختبار، فعند أول منعطف تجد القوم يهرولون على كل شيء، وينبطحون أمام كل أحد من أجل مغانم الحياة الثقافية وغير الثقافية، ولا أود النزول بالحديث إلى مستوى الممارسات التي تصدمنا في كثير من وجوه الحياة الثقافية التي تعيش بألف وجه بين الناس، حتى أن المشهد الثقافي أصبح أقرب ما يكون إلى سيرك رديء يمارس فيه حفنة من العارضين غير المتمكنين عرضاً رديئاً أمام جمهور مسكين محدود الإدراك يصدق كل شيء، ويجري وراء كل شيء! هذا على مستوى شبكات التواصل الاجتماعي بالطبع، أما في الواقع، في الشارع، بين الناس، فلا وجود لهذه النخب التي تعيش عزلتها منذ عقود بحديثها المتعالي على الناس الذين تدعي أنها تتحدث باسمهم وتتحدث عنهم.
مع الأسف الأوساط الثقافية العربية عامة، والمصرية على وجه الخصوص، بحكم أنني أنتمي إليها، أصبحت بيئة مثالية لجميع الآفات والعلل النفسية، والنتيجة هذا الصفر الكبير الذي وصلنا إليه جميعاً.
"الأشد بؤسا ألّا تشعر ببؤسك"، بعض من مقولاتك تقطر مرارة فلماذا هذه المرارة يا صديقي؟
علاقتي بالمرارة قديمة يا صديقي، وُلِدَتْ في صفوف الدراسة الابتدائية حين كنت كل صباح أتلقى أمراً بأخذ حقيبتي من الصف الذي أدرس فيه والعودة إلى الصف الأدنى، من الرابع إلى الثالث، أو من الخامس إلى الرابع؛ لأنني دخلت المدرسة صغير السن، وكان لدي معلم يرى في وجودي في صفه مسؤولية قانونية عليه، رغم تفوقي، ورغم موافقة إدارة المدرسة ورغم وجود معلم آخر كان يؤكد أمام زملائي أنني أستحق أن أنتقل إلى المرحلة المتوسطة (الإعدادية) مباشرة لأن مستواي الدراسي يؤهلني لذلك، كان الأهل يتوسطون في كل مرة، ثم يعود المعلم للتعسف معي، والنتيجة أنني أمضيت طفولة قلقة مهددة، فقد كنت محبا للتعلم بشكل هستيري، وكان ضغطي على الأهل لدخول المدرسة مبكراً سبب توسطهم لإلحاقي صغيراً بالمدرسة حتى يستريحوا من صداعي، لهذا لم أستمتع بطفولتي بسبب هذا التهديد الدائم الذي لم يتوقف إلا باجتيازي المرحلة الابتدائية.
في المرحلة المتوسطة (الإعدادية) أبدلني الله بمعلم الطفولة المتعسف معلم لغة عربية رقيق الحاشية طيب القلب كان اسمه الأستاذ مرزوق, فجَّر ملكاتي مبكراً بإلحاقي بجماعة الصحافة والمكتبة وكنت رئيس تحرير مجلة مدرسية قوية دفعت مدير المدرسة -وكان قياديا تعليميًا قوياً يهابه الجميع في المدرسة المركزية العملاقة العريقة- إلى الاجتماع بنا، وسؤالي أنا على وجه التحديد عن مقالي الذي كتبته أنتقد فيه عدم تواصل بعض المعلمين معنا؛ ليطمئن إلى أننا لا نتعرض لأي ضغوط من المعلمين.. كان نجاحاً صغيراً مدوياً في مدرستنا الكبيرة، لكنه انتهى نهاية مأساوية بوفاة الأستاذ مرزوق المعلم الشاب بسرطان الفم مسدلاً ستاراً أسود على المرحلة الوحيدة التي أمضيت فيها طفولة طبيعية، إذ بدأت المرحلة الثانوية بفقد والدي رحمه الله, كان فقد والدي الرجل الذي يقطر طيبة ومودة زلزالاً عظيماً امتدت توابعه إلى المرحلتين الثانوية والجامعية, وصنعت مني شخصاً مهزوزاً قلقاً متوتراً خائفاً يتصرف بجنوح وجموح أحياناً..
كان فقدان الاتزان عنوان المشهد العام في حياتي بعدما اختفى من مسرحها الرجل طيب القلب الذي تفتح وعيي للعالم على يديه.. الرجل الذي علمني أن مشاركته الصلاة وتلاوة القرآن على سجادته كل صباح، أو اصطحابي إلى المسجد في جميع الصلوات، لا يتعارض مع تشجيعي على متابعة العرض المسرحي الأسبوعي الذي كان يبثه التلفزيون الرسمي للدولة وتزويدي بجرعة تثقيفية عن مخرجه ومؤلفه وأبطاله من الفنانين وتاريخهم.. الرجل الذي كنت جليسه الوحيد في نهارات السادس من أكتوبر من كل عام نتقاسم سعادة النصر وقوات جيشنا تقدم عرضها السنوي حتى اغتيل الرئيس السادات أمام أعيننا.. الرجل الذي علمني نصف عاداتي التي أحتفظ بها حتى اليوم وفاء لذكراه.. الرجل الذي قدم لي درساً مبكراً في التربية بالقدوة، حين يتحول الابن إلى صورة أخرى لوالده في المرآة..
لكن وتيرة الفقد أصبحت أسرع وأشد وطأة حين اضطررت تحت ضغوط كثيرة منها شعور المواطنة المنقوص في مصر مبارك إلى اتخاذ قرار الهجرة قبل ما يزيد على خمسة عشر عاماً، انتهت نهاية مأساوية أيضاً برحيل أخي الوحيد وسندي في العالم بعد الله في أربعينيات عمره فجأةً مكتمل الصحة والطاقة والعطاء وحب الحياة، ثم أخيراً هذا العام رحيل سيدتي الوالدة التي كنت أحاول مقاومة الانهيار بعد فقد أخي من أجلها وبدعواتها؛ لذا أعُدُّ قدرتي على مواصلة الحياة والتفاعل معها بعد فقد أسرتي التي بدأت معها العالم مسألة وقت، فلا أخفيك، أتطلع في أقرب وقت لإنجاز ما بقي لي من أهداف هنا في المملكة في أقرب وقت، واعتزال العالم في مقر إقامتي الجديد بالقاهرة، لقضاء ما بقي لي من عمر عاكفاً على الكتابة؛ هذا ما يسمح به القليل الذي بقي لدي من الطاقة، فيقيناً لم يعد لدي ما يكفي من الطاقة للعمل أو التواصل مع الناس.
هل من السهل على المبدع التوقف عن الكتابة؟
توقف المبدع عن الكتابة موت مبكر في تقديري؛ فالكتابة ليست خياراً للمبدع الحقيقي الموهوب الذي ولد بجينات الإبداع.. نعم هناك مبدعون يتوقفون عن الظهور، أو النشر، لكنهم يقيناً يكتبون، بعضهم يكون محاطاً بأسرة واعية تعمل على إخراج كتابتهم إلى النور بعد وفاتهم، وبعضهم تكتمل مأساته باستقرار الأوراق التي نزف فيها على مدار سنوات عزلته عن العالم في أيدي الباعة وعمال النظافة العموميين.
وهل الزمن الذي نحياه مليء أكثر بالمحبطات أم المحفزات على الكتابة والإبداع؟
لا شيء يحفز المبدع على الكتابة أكثر من الإحباط! الكتابة رحلة الهروب الكبير من الإحباط, رحلة تستغرق عمر المبدع.. الإحباط وحش لا سبيل للمبدع إلى مقاومته إلا بالكتابة، واليوم الذي يقرر فيه المبدع التوقف عن الكتابة، هو موعد ظفر وحش الإحباط بفريسة أجهدته طويلاً لكنها قررت أخيراً الاستسلام. هذا ما أعيه جيداً، وهذا أحد أسباب مداومتي على الكتابة, أعلم جيداً أن سقوط القلم من يدي يعني النهاية، أو على الأقل اقترابها.
بعض من المبدعين يشتكون من أدبهم الزائد الذي لا يتلاءم مع سمات العصر والحياة اليومية، فهل أنت مع تفلت مثل هؤلاء في كتاباتهم؟
الكتابة تجربة حياة في الأخير، عالم فيه المهذب والفج، فيه الخجول والجريء، فيه رفيع الأدب والوقح، فيه المحتشم والمتعري, ونظرة صغيرة على سلوك كثير من المبدعين في الحياة وأدائهم في الكتابة، كفيلة بأن تكشف لك عن تطابق بين مسلكهم في العالمَين.
الكتابة في الأخير خطاب، وخطاب كل منا مرآة لشخصيته وقيمه وقناعاته وأفكاره.
في ظل الادعاءات والتناقضات وغياب الحيادية والموضوعية، كيف استطعت أن تحدد الثوار الحقيقيين ثم تنتصر لهم في روايتك "ضريح الكمانات"؟
"ضريح الكمانات" ليست رواية عادية, هي سيرتي الذاتية مع تصرف محدود, الشخصيات الواردة في الرواية شخصيات حقيقية تأملتها جيداً على مدار عقود من الزمن كانت كافية لاختبار كل منهم، وتمييز الأصلي من الزائف، والصادق من الكاذب، والمخلص من المنتفع المتسلق، والحقيقي من المدعي، لكن لا أخفيك، الحصاد كان مراً، فلم يصمد أمام الاختبار إلا القليلون, بل القليلون جداً.
كان مشهد الهرولة العارمة إلى كعكة الوطن خيبة كبيرة تجاوزت خيبات الماضي, وجوه كثيرة سقطت وسط التدافع الكبير على كل شيء, بدءاً من مقعد الرئاسة، ومروراً بالأحزاب الورقية الجديدة التي يسعى أرامل الحزب الوطني المنحل والمتطلعون الجدد إلى السلطة، ووصولاً إلى أكشاك "تنمية الديمقراطية" الممولة من الخارج, وغيرها من الكيانات الصغيرة والكبيرة التي تحولت إلى مورد دخل بالعملة الأجنبية لمرتزقة جدد تسللوا إلى صفوف الثوار ورددوا شعاراتهم.
من المسؤول عن تعطل آلة التفكير في عالمنا العربي؟
وطننا العربي يعيش أزمة هوية ضاغطة تجعل أفكار الأفراد فيه مشتتة، وممزقة، وجهودهم موزعة، بين مذاهبهم، وأعراقهم، ومرجعياتهم الفكرية والسياسية, أزمة تجعل كل فصيل منشغل بالقبض على مقاليد السلطة أو الظفر بنصيب منها يضمن تمثيله وحماية مصالحه, أزمة تجعل كل فصيل مشغول بالتكريس لوجوده فقط، ولو على حساب وجود الآخرين, أزمة تولدت عنها صراعات كثيرة وصلت ببعض البلدان إلى الاحتراب الأهلي على السلطة، ومع السلطة.
وفي خضم هذه الأزمة المزمنة، انشغلت النخب السياسية وأتباعهم بالسلطة عن الناس العاديين الذين أصبحوا ضحية في هذه الصراعات التي خلفت لهم أوطاناً فقيرة مريضة متخلفة بعضها ضاع تماماً، وبعضها يعاني للوقوف على قدميه، فضلاً عن أنهم جميعاً يواجهون أخطاراً ومطامع خارجية، فكيف يمكن للفرد أن يفكر في ظل هذه الفوضى، وهذا التدافع البشري الرهيب إلى كل شيء؟ كيف يمكن للفرد أن يفكر في ظل انعدام الثوابت، وسطوة الشائعات، وغياب الحقائق؟.. كيف يمكن للفرد أن يفكر وهو غير آمن على الوطن الذي يعيش فيه، فأكثر من شعب في المنطقة ناموا واستيقظوا على ضياع أوطانهم، والباقون ينامون غير آمنين أن يكون الدور في الصباح على أوطانهم.
العقل العربي يعيش حالة غير مسبوقة من التشتت والفوضى والخوف وانعدام القيم والتلون والخيانة وإن ارتدى الخائنون عباءات كثيرة، فبعض الفصائل في بلادنا لديها انتماءات لإدارات سياسية في دول أخرى بمبررات كثيرة أصبحنا نسمعها هذه الأيام.. كيف يمكن للفرد أن يفكر وقد وصلنا إلى مرحلة أصبح الانتماء فيها للأوطان ومحاولة دعم إدارتها السياسية من أجل الاستقرار في محيط من الفوضى التي تضرب المنطقة تهمة بممالأة السلطة؟!
من المؤسف أن هذه المتغيرات الكبيرة حولنا لم تلفت نظرنا إلى أننا نعيش مرحلة جديدة تماماً تتطلب منا نظرة جديدة، ومعالجة جديدة، وخطاباً جديداً على صعيد المعارضة، فلم تعد السلطة غريمنا الوحيد في هذه الأوطان، بل ربما لم تعد غريماً أصلاً، بعدما كشفت تجارب السنوات الأخيرة عن وجود لاعبين خارجيين في المشهد.. معطيات جديدة في المشهد كانت كافية لتغيير خطاب النخب، لكن مع الأسف التجربة أثبتت أن نخبنا الثقافية والسياسية مازالت متشبثة بخاطبها القديم، غير مدركة أننا جميعاً نحن والسلطة أصبحنا في قارب واحد يكافح الغرق.