القاهرة 02 اكتوبر 2018 الساعة 09:51 ص
يعقوب الشارونى
القسم الأول: من تجربتى فى كتابة القصة والرواية
يسألنى عدد كبير من القراء ، صغارًا وكبارًا ، يتابعون مطالعة قصصى ورواياتى ، يقولون :" قرأنا لك قصة أبطالها يعيشون فى واحة صغيرة بالصحراء الغربية، ومنذ الصفحة الأولى تصورنا أنك عشت وعايشت بصدق مَن تكتب عنهم، فمن السطور الأولى ومن أول جملة حوار، تكون قد دخلت بنا إلى نفوس وانشغالات وعقول أهل تلك الواحة، وهم يواجهون أصعب تحديات الحياة فى الصحراء، بإمكانات محدودة للغاية فى واحة منعزلة " . (يشيرون بذلك إلى روايتى "معجزة فى الصحراء") ..
أو يسألوننى : " كتبتَ رواية عن أهل منطقة عشوائية احترقت السوق الشعبية التى يعتمدون عليها فى حياتهم، حيث يمارسون مهنهم البسيطة أو تجارتهم الهامشية، فهل كنت تسكن فى عمارة تطل على تلك السوق أو لك أصدقاء هناك، وبذلك استطعت أن تجعلنا نشعر من أول فقرة وأول سطر أننا نعرف المكان وأهله، وما يواجههـم من تحديات، وكيف يتعاونون فى مواجهة المفاجآت ؟ " (يقصدون روايتى " ليلة النار")
وعندما كتبت عن قريتى فى عدة روايات، ظن معظم القراء أننى ولدت فى قرية ريفية قضيت فيها سنوات من طفولتى . وعندما أُجيب بأننى من مواليد القاهرة وعشت طوال حياتى فيها، أسمع السؤال التالى : " كيف إذن عايشت البشر والمكان والعادات والتقاليد وأسلوب التفكير فى هذه البيئات المختلفة المتعددة، التى تختلف فى كثير أو قليل عن القاهرة التى عشت فيها ؟ "
عندئذٍ بدأت أساءل نفس الأسئلة ، بحثـًا عن إجابات ..
* منذ سنوات حياتى الأولى أحب السفر وزيارة الأماكن الجديدة ، والتعرف على البشر قبل الحجر, ومنذ كنت فى المدرسة الابتدائية وأنا فى التاسعة أو العاشرة من عمرى ، كنت شغوفًا بكتابة القصص القصيرة المستمدة من زياراتى لمختلف الأماكن وتعرفى على نماذج متعددة من البشر ، مستعينًا بما أسجله كل ليلة فى " كراس يومياتى " أو مذكراتى . وكان من الطبيعى أن تدور أولى رواياتى القصيرة للأطفال واليافعين ، حول خبراتى التى عايشتها أثناء زياراتى فى العطلات الصيفية لبيت جدى لوالدتى فى قرية شارونة بمحافظة المنيا بصعيد مصر .
وشيئًا فشيئًا بدأت أهتم بقراءة المجلات الأدبية والثقافية ، وروايات ومسرحيات كبار الكُـتـَّـاب ، وقراءة كتب التربية وعلم النفس التى كان يدرسها أخى الأكبر فى كلية الآداب بالجامعة .
- وبدأت تثير اهتمامى القضايا التى أخذت تشغل المجتمع ، مثل أهمية دور الفتاة والمرأة فى التنمية ، وتزايد مشكلة العشوائيات حول المدن الكبرى نتيجـة ضيق الرقعة الزراعيــة التى لم تعــد قادرة على استيعاب الملايين من المواليـد الجدد فهاجروا إلى المدن الكبرى بحثـًـا عن عمل ، فلم يجدوا إلا أطراف المدن يعيشون فى مناطقها العشوائية حياة لا يتوافر فيها الحد الأدنى من إمكانات الحياة لا فى الريف ولا فى المدن .
وقادنى هذا إلى التفكير فى مساحات صحراء مصر الواسعة التى لا تلقى من العناية إلا أقلها ، فبدأت أهتم بالتعرف على الصحراء وأهلها وكيف يعيشون, كما تعرفت على ما يمكن أن تقدمه الصحراء من إمكانات غير محدودة فى مجالات السياحة والتعدين ومزارع الرياح والطاقة الشمسية والنباتات الطبية ، فقمت بزيارات ، وتوسعت فى القراءات ، وحرصت على المشاركة فى معظم الفاعليات حول الصحراء من ندوات ومؤتمرات لأستمع لخبرات من عايشوا الصحراء واكتشفوا كثيرًا من أسرار الحياة فيها .
كذلك بدأت تشغلنى قضايا الأطفال المعاقين التى لم يتنبه إليهـا المجتمـع إلا فـى ثمانينيات القرن العشرين ، وظاهرة أطفال الشوارع أو الأطفال بغير مأوى الذين تفاقمت مشكلاتهم بسبب ازدحام أطراف المدن بالفقراء والعاطلين عن العمل.
ونتيجة عملى الثقافى المباشر مع الطلبة ، تنبهت إلى أهمية اكتشاف موهبة كل طفل وضرورة تنميتها . وتنبهت بقوة إلى دور الأسرة والمدرسة فى تنمية عادة القراءة عند الأطفال .
كذلك تنبهت إلى إمكانات الحياة على شواطئ البحار التى تمتد حول حدود مصر لأكثر من ( 2400 ) كيلو متر، وأنه من الممكن أن تنشأ على هذه الشواطئ مجتمعات عمرانية كبيرة تعمل فى مجالات السياحة والغوص والمزارع السمكية, وموانئ هواة السياحة البحرية وهوايات الصيد وغيرها من الأنشطة .
وهكذا عشت حياتى - على نحو مباشر ، أو غير مباشر عن طريق الاطلاع أو الاستماع - مهتمًّا بقضايا البشر التى تشغل المجتمع ، مع رصد التغيرات التى تحدث فى مختلف المجالات : السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ، وعلى وجه خاص تغير أدوار الشباب ، وتزايد قوة تواصلهم ، وقدرتهم على التأثير فى المجتمع نتيجة وسائل التواصل الاجتماعى التى أنشأت تواصلاً بين كتل ضخمة من اليافعين والشباب ، فأصبح لهذه الكتل من قوة التأثير الملموس فى مجتمعاتنا ما جعل البالغين يكتشفون تغير شكل العلاقة بين الكبار والصغار ، وأن الصغار قد أصبحوا أهلاً لتحمل المسئولية ، يبحثون عن التواصل أكثر من كونهم أبرياء يحتاجون إلى الحماية .
وبعد أن كان الكبار يتصورون أن الشباب فى حاجة دائمة إلى حماية الراشدين ، أصبح الراشدون ، لأول مرة على مدى التاريخ ، يجدون أنفسهم فى حاجة إلى الشباب .
كما أن المشاركة وليس التسلط قد ظهرت بطرق مختلفة ، وبدأت القدرات الإنسانية للشباب فى الانطلاق بعد أن كانت مُـقَـيَّدة .
هذا الانشغال الدائم بقضايا المجتمع والعصـر، والتنبـه إلى ما يحـدث من تغيـر وتفاعـل بيـن الأجيـال، وبروز قضـايا كانت مسكوتًا عنهـا، مع متابعـة ما يحـدث فى العالـم وينعكـس على مجتمعاتنا ومستقبلنا؛ جعلنى مُعايشًا لخلفيات كثير من القصص والروايات التى كتبتها فيما بعد.
مثلاً وأنا أعايش قضية أهمية التوجه إلى الصحراء لتحقيق تنمية سكانية واجتماعية واقتصادية ، قرأت ذات مرة معلومة مختصرة جدًّا عن واحة تعتمد منذ مئات السنين على بئر ماء وحيدة فى معيشتها : فى مطالب الحياة اليومية والزراعة والرعي ، وأن تلك البئر انسدت ذات يوم, ولم تذكر المعلومة ماذا حـدث بعـد ذلك، لكنـى كنـت أعرف أن سكان تلك الواحة لا يزالون يعيشون فيها .
عندئذٍ أدركت أننى عثرت على " مفتاح " عمل روائى متميز عن الصحراء، فبدأت أجمع معلومات عن تلك الواحة, بالإضافة إلى كم المعلومات الهائل الذى كنت قد عايشته من قبل أو وصلت إليه عن طبيعة البشر والحياة فى الصحراء والواحات, كنت ألجأ دائمًا ، كما ذكرت ، إلى الدفتر الصغير الذى أدون فيه مشاهداتى وخبراتى وما يشغلنى من أفكار ، وأسجل فيه كل ما يبدعه خيالى من خطوط للعمل الروائى الذى بدأت ملامحه ترتسم أمامى .
وظل هذا الموضوع يشغلنى أيامًا وشهورًا وأنا أتساءل : " كيف واجه أهل الواحة انسداد مصدر المياه الوحيد للحياة فى الصحراء ، وعلى وجه خاص فى الساعات والأيام الأولى بعد وقوع تلك الكارثة التى لا تحتمل تأجيل حلها ولو ليوم واحد ؟ !"
ثم أعود إلى ما كتبت مرة بعد أخرى ، فأضيف إليه أفكارًا توضح سِمات شخصيات القصة، وما رسمه خيالى من أحداث ومشاعر وأفكار حول أهل الواحة وما قاموا به لمواجهة تلك الكارثة، فى ضوء ما عرفته من إمكانات بشرية وطبيعية وجغرافية عن الحياة فى تلك الواحة وأمثالها.
هكذا تَخَلَّقَت أمامى عناصر الرواية : الفكرة والموضوع والأبطال وهم أهل الواحة، والخصم الذى لم يكن هنا شخصًا ، لكنه تلك البئر المسدودة, إنهم يقاومون خطر الهلاك العاجل ، ويبحثون عن الحل الذى يكمن فيه إمكانية استمرار الحياة ، وهو حل لا يجب أن يتأخر عن ساعات لكى لا يموتوا عطشًا.
هكذا وجدت أمامى ثروة من المشاهد والصور والشخصيات والحوارات والأحداث التى كتبتها، فبدأت أضع تخطيطًا للرواية : كيف تبدأ ، وكيف تصل إلى ذروة بعد أخرى لحل هذه العقدة التى لا نهاية لها إلا الحياة أو الموت, وهكذا تَشَكَّـلَت حبكة القصة حول الصراع فى سبيل البقاء، وهو صراع يجب أن ينتصروا فيه، يتحداهم وقت ضيق وقلة الإمكانات وندرتها .
كما بدأت الشخصيات تتجسم أمامى ، ويتضح دور كل واحد منهم فى ضوء إمكاناته الجسمية والنفسية والثقافية ، وتفاعله مع بيئته ، ومدى شعوره بالمسئولية وقدرته على تحملها .
وأصبحت أبحث عن المواقف المتتالية التى يؤدى كل منها إلى ما بعده على نحو منطقى مفهوم ، والتى يتعايش القارئ من خلالها مع ما يشعر به هؤلاء الناس ، وكيف يفكرون ، ويتعاملون معًا ويتصرفون، وكيف يختلفون ثم يصلـون إلى قـرارات يغامـرون بتنفيذهـا على الرغم مما يحيطها من أخطار ومفاجآت، بحثـًا عن الخلاص أثناء صراعهم من أجل الحياة.
وهكذا ولدت قصة " معجزة فى الصحراء " ، التى أجمع عدد من أهم المتخصصين علـى أنها واحـدة من أهم ثلاثة أعمال للأطفال واليافعين على مستوى الوطن العربى. (تم اختيارها ضمن القائمة القصيرة النهائية لجائزة الشيخ زايد لأدب الأطفال على مستوى العالم العربى عام 2014)
وعندما انتهيت منها ، عدت أراجعها مرة بعد أخرى ، ثم قرأتها على عدد من الأصدقاء من الأدباء والنقاد أو طلبت منهم قراءتها ، ثم دعوتهم ليتحاوروا معى حول أية فكرة أو ملاحظة قد تبدو لهم أثناء الاستماع أو القراءة ، حتى إذا كانوا غير مقتنعين بتلك الملاحظات على نحو كامل, وكلما وصلتنى ملاحظة من صديق ، أُعيد قراءة العمل ، فأجد أحيانـًـا شيئـًـا كان واضحًا فى ذهنى لكن لم توضحه الكتابة بشكل كافٍ، أو أكتشف جملاً لم يصل المعنى من خلالها على النحو الذى كنت أقصده، أو أكتشف فى السرد فجوة هنا أو هناك .
إن بعض الملاحظات قد لا تزيد عن قول المستمع أو القارئ : " لقد أقلقتنى هذه الفقرة " ، فأعيد قراءة تلك الفقرة أكثر من مرة لأجعلها أكثر قوة ووضوحًا وإقناعًا .
كان يكفينى من هذه الملاحظات أن أتوقف أمام هذه الفقرات أو تلك العبارة، لأكتشف ما تحتاج إليه من تعديل أو إضافة، أو لأزيل قلق قارئ محتمل عَـبَّرَ عنه صديق أو أصدقاء ممن قرءوا العمل قبل تسليمه إلى دار النشر.
وليس معنى هذا أن " كل " الملاحظات التى قيلت كانت على نفس الدرجة من الأهمية، لكنها جميعًا ساعدتنى على أن أعيد النظر فى عملى بعيون الآخرين وفى ضوء خبراتهم .