القاهرة 02 اكتوبر 2018 الساعة 02:16 م
كتب: د. صلاح فاروق العايدي
قضيت صباى الأول بين حربين1967 ــ 1973, وبحكم انتمائى إلى مُهجّرى شمال سيناء، إضافة إلى كون والدي أحد رجال القوات المسلحة، فقد قضيت هذه الفترة كلها مشدودا إلى أحاديث الأقربين من أهلى, وهى أحاديث تختلف عن الأحاديث العامة الشائعة فى ذلك الوقت؛ فأكثرها يدور حول ذكرياتهم فى العريش، وتتبّعهم لأخبار الأهل الذين بقوا هناك تحت الاحتلال؛ إضافة إلى أخبار والدي نفسه، هو وأمثاله من رجال القوات المسلحة، فقد كنا لا نراه إلا لماما؛ مرة أو مرتين فى كل شهر، وكثيرا ما كان يكتفى بالرسائل الشفهية التى ينقلها لنا أحد زملائه فى الجبهة.
لكن العنصر الأبرز فى هذه الحياة المتوترة، كان التحلّق حول المذياع بوصفه وسيلة الاتصال الأساسية بيننا وبين الأهل البعيدين، إضافة إلى معرفة مجريات الأمور من أخبار صوت العرب والشرق الأوسط والبرنامج العام، مثلنا مثل الناس جميعا فى مصر.
وإلى جانب هذه المتابعة الإخبارية يأتى الفن ممثلا فى تلك الأغانى الوطنية التى تحمل لنا الأمل فى المستقبل, وقد تربيت على هذه الأغانى قبل الحرب وبعدها وأثناءها, ولأنها لم تكن مجرد أغانى تصدح بها أصوات الكبار: محمد عبدالوهاب, وأم كلثوم, وعبدالحليم, وشادية, ووردة, ومحمد قنديل, وغيرهم من تلك الأصوات الرائعة، فقد تسرّب إلى نفسى من معانيها الإحساس بالقوة والأمل وحب الوطن؛ خاصة مع كونها فى الأصل شعرا محكم الصياغة، يحمل كل خصائص الشعر العظيم؛ الفصيح منه والعامىّ.
وزاد "تابور" الصباح فى المدرسة هذه المعانى قوة ووضوحا، باعتماده على ترديدنا لمجموعة من "الأناشيد" الحماسية التى تمضى فى السياق نفسه، ومنها الذى عرفناه من أصوات الكبار فى أغانيهم، ومنها الذى سمعناه وتعودّناه فى مدارسنا, أذكر منها "بلادي بلادي" فى صيغته الكاملة؛ أى بمقاطعه الثلاثة، وأحلف بسماها وبترابها، ودع سمائي الذى كان واحدا من النصوص المقررة فى دروس اللغة العربية.
من هنا تعلّمت أن "الفن" ليس مجرد أغان يصدح بها من يصدح، وإنما هو كلمات وإحساس يفسّره المغنّى بصوته وتؤطّره الموسيقى بحدودها النغمية الواضحة، مثله مثل التلاوات الرائعة لكبار مقرئينا فى ذلك الوقت، محمد رفعت، ومحمد صديق المنشاوى، ومحمود عبدالحكم، والطبلاوى، وعبدالعظيم زاهر، وغيرهم من أولئك الذين علّمونا التأمل وفهم المعاني وتفسير الدلالات فى القرآن الكريم بأداءاتهم الفذة.
هل أضيف إلى ذلك الأيام لطه حسين؟ أجل كانت هذه الرواية واحدة مما ترك أثرا عظيما فى نفسى، فتعلّمت منها كيف تكون المقاومة، كما تعلّمت الصبر والتخطيط والإصرار على تحقيق الهدف, رأيتها أول مرة مسلسلة فى التليفزيون، ثم قرأتها فى المرحلة الثانوية بوصفها الكتاب الإضافى المقرر فى دروس اللغة العربية, ولم تكن الأيام وحدها صاحبة هذا الأثر العظيم، فقد كان معها "واإسلاماه لعلي أحمد باكثير، وأبيات امرئ القيس من معلّقته فى وصف الفرس، وأبيات أحمد شوقى من أندلسيته, لكن الأثر الأعظم بقى لأبيات صلاح عبدالصبور من قصيدته " إلى أول جندى رفع العلم" .
ما أريد قوله أن تلك المواقف العظيمة التى نشأ جيلنا فى ظلها، إضافة إلى نوعية النصوص الأدبية المقررة كانت جميعا صاحبة الأثر فى مقاومة اليأس والإبقاء على الأمل، فرغم كل ما مررنا به من أحداث قاسية، إلا أننا لم نشعر باليأس يوما، ولم نفقد الأمل فى يوم, كان دائما لدينا ما نحلم به، وكان لدينا دائما ما نعمل من أجله، حتى لو غَمُضت الطريق فى بعض اللحظات.
ومحصلة هذا كله تكمن فى درس أساسى ينبغى الوقوف عنده : الأدب على نحو خاص، والفن بوجه عام، هما اللذان يشكلان الهوية، ويوجّهان النفوس إلى ما تحب وترغب، أو يدفعانها إلى غير ما تحب أو ترغب.
دعونا نذكر فى ذلك "الرصاصة لا تزال فى جيبى، والعمر لحظة، والأرض، والناصر صلاح الدين، وعنترة، وواإسلاماه" فهذه الأعمال جميعا ــ رغم قلتها ــ كانت مناسبات وطنية، تتحلّق حولها الأسرة، وأحيانا الحي كله فى عروض الثقافة الجماهيرية المفتوحة, ورغم تكرارها إلا أنها لم تفقد أثرها فى نفوسنا ولا رغبتنا فى متابعتها، حتى أن الشارع كله أو الحي كله يكاد يتوقف عن العمل فى أثناء تلك العروض.
هل ينبغى أيضا أن أذكر "لا تصالح" لأمل دنقل، و"سجّل أنا عربى" لمحمود درويش، وأغانى الشيخ إمام لقد كانت هذه القصائد جميعا أيقونات الفن الأولى التى تعلّمنا من خلالها معنى الشعر، ومنها جميعا انطلقنا إلى تعرّف حدوده وأسراره، وبفضلها هجرنا سريعا مرحلة إبراهيم ناجى الرومانسية، رغم ما بها من إغواء.
ولقد تعلمنا من هذه الأعمال جميعا أن الفن عامة، والأدب خاصة ــ شعرا ورواية ومسرحا ــ ليس مجرد كلمات أو نصوص محمكة البناء وفق شروط الفن فى ذلك، وإنما هو قدرة على تحليل المواقف وتمثيلها فى صور فنية؛ تنقل رسائل الفنان والفن إلى كل الناس؛ من يحب منهم الفن ومن لا يحبه، من يفهمه ومن لا يفهمه, ومن ثم عمد كل واحد من أبناء هذا الجيل إلى تشكيل رؤيته الفنية فى هذا المسار العام لنوع من "التزام" الفن والفنانين، فلا يكفى أن تقدّم عملا جيّدا أو عملا جميلا، وإنما ينبغى أن تقدم عملا نافعا بشروط الفن ومقاييسه, والنفع فى الفن ينهض على الإحساس بالجمال، لكنه أيضا يتضمن الفهم؛ فهم الحياة، وفهم الإنسان، وإحياء الأمل فى النفوس، وإبقاء القدرة على مقاومة الضغوط حيّة, وبدون ذلك لا يؤدى الفن كل أنواعه دوره فى المجتمع.
ولنا فى المقارنة اليسيرة مع ما يجرى اليوم على ساحتى الفن والأدب مثال واضح للأثر السيئ الذى يتركه الفن فى النفوس حين يفقد قيمتى الأمل والمقاومة, فهذه الكثرة الكاثرة من أفلام ومسلسلات الفساد والمخدرات والبلطجة لم تترك فى نفوس الناس إلا رسالة واضحة؛ مؤداها أن العنف هو السبيل الوحيد للحياة ولتحقيق الأحلام، المشروع منها وغير المشروع, أضف إلى ذلك أن النماذج السيئة من النصوص الأدبية وطريقة التعامل معها فى مقررات التعليم تحصر الأدب فى زوايا ميّتة من القيم المجتمعية, أكثرها مثالى لا يتفق مع المنطق ولا يستقيم لحكم العقل ، وكلها يعمل على ترسيخ قيم النقل والطاعة المطلقة لعقل مُسطّح, ومع هذه النصوص السيئة عملت مؤسسات النشر الخاصة على إشاعة نوع من النصوص الأدبية، ينقصها الكثير من قيم الفن نفسه، تحت عنوان الروايات الرائجة أو الروايات الأكثر مبيعا.
ومحصلة ذلك أيضا أن الفن عاد إلى زاوية أخرى ميّتة، تجعله كلمات فاقدة الروح والمعنى، ولا رسالة لها ولا قيمة سوى التأكيد على قيم غدر الحبيبة أو السعادة الوهمية فى ظل سيطرة العشوائية والمخدرات.
وهذا يعنى أننا بحاجة إلى إحياء الفن الحقيقى فى كل صوره، شعرا ورواية ومسرحا وسينما وتلفزيون, وهذا أمر يقتضى مراجعة كل ما يُقدم على الساحة الفنية, ويبدو لى أن المهمة الأصعب فى هذه المراجعة تتمثّل فى تربية الذائقة الفنية؛ أى تلك القادرة على استيعاب وفهم متطلبات الفن الحقيقى، الفن الذى يقوم على أصول وقواعد فنية معروفة، ويحمل قيما إنسانية واضحة.