القاهرة 11 سبتمبر 2018 الساعة 10:01 ص
بقلم: سيد هويدى
لم يحظ "فن" فى التاريخ بهذة الشهرة والاتساع والشيوع والإجماع من الكبير والصغير الغني والفقير الرجل والمرأة، سواء باعتباره فناً يعلن عن ذوق صاحبه، أو بسبب قيمته الاجتماعية بغرض التزين والرغبة فى إفشاء قيم الجمال، ربما لا يكاد يخلو معصم، أو أنامل، أو عنق من نصيبه الفني من الحليّ، ويستوى فى ذلك إنسان فى المدينة، أو فى الريف، أو فى الأدغال، فقد جمع فن الحليّ منذ عصر الأسرات فى مصر القديمة بين السعي الدائم لإبراز قيم جمالية خالصة والتعبير عن الذوق السائد، كونه فناً تطبيقياً يلبي احتياجات الناس فى الاستخدام اليومي والرغبة الدفينة الحميمة للتزين، تلك الرغبة التى تعكس عادات وتقاليد المجتمع على تباينها من مستوى المعيشة ومقدار الدخل والطبقة الاجتماعية، الثقافة السائدة، فالحلى تكشف عن من يقتنيها ويتظاهر بها، أو يجعلها مصدرا للثروة والاستثمار.
ومؤخرا ظهرت ظاهرة لافتة استعراضية تكشف عن رداءة الذوق العام، وتدين عصرا بأكمله، تلك التي جعلت أغلب النساء تستبدلن وسائل الزينة الأصيلة، والجميلة، والثمينة، إلى استخدام وسائل زينة من أرخص الأصناف والخامات، وهى خامة البلاستيك، بأشكال فجة وأحجام لافتة، لكنه تحول يكشف عن علاقة خامة البلاستيك بعصر البترول والنفط، عصر مغامرة الثروة.
والغريب أن هذا الذوق يتناقض مع تاريخ المصريين الطويل مع فن الحليّ، سواء قديما أو حديثا، وتكمن خطورة الظاهرة فى انتشار استخدام وسائل الزينة، فقد ظلت الحليّ مرآة ينعكس عليها بحق المفهوم الجمالى لدى الناس عامة، ومظهر من مظاهر التذوق الفنى، ووسيط يحدد ثقافة الطبقة، بل أن فن الحليّ يرصد مراحل تطور المجتمعات.
وليس من قبيل التكرار أن المصريين القدماء من أصحاب الريادة فى هذا المجال فالشواهد التاريخية تؤكد أنهم برعوا فى صناعة الحلى الجميلة منذ أكثر من 6 آلاف عام بفضل ما عثر عليه من ذهب فى الصحراء الشرقية أو ما اكتشفوه من الأحجار الكريمة فى سيناء كالفيروز مثلاً، وليس أدل على ذلك من زيارة إلى المتحف المصرى لنرى مدى البراعة والذوق الفنى الرفيع والإتقان والدقة التى وصل إليها الفنان المصرى القديم فى آثار توت عنخ آمون التى لا يوجد نظير لها فى العالم من عقود وأسوار مرصعة بالأحجار النفيسة أقنعة وتيجان وغيرها من الأدوات الحياتية.
بلغ المصريون القدامى من الأسرة الأولى من النقش على الأحجار الكريمة، مستوى رائع، وإن كان كلما تقدمت الحضارة فى وادى النيل.. شغف الرجال والنساء على السواء باقتناء الحلي، فكانوا يزينون بالأحجار الكريمة أعناقهم وصدورهم وأذرعهم ومعاصمهم، ثم مع زيادة الرخاء وثراء المصريين بما تحقق لهم من أرباح التجارة مع بلدان البحر المتوسط، ومن عائد أملاك مصر فى آسيا، أصبح التزين بالجواهر هواية المصريين جميعاً لا تخص الطبقات الميسورة وحدها فكان لكل كاتب أو تاجر، أو صانع، خاتمه المصنوع من الفضة أو الذهب لكل رجل خاتم فى إصبعه ولكل امرأة قلادة تزين عنقها.
كما أن المصريين المحدثين لهم فضل الإسهام فى تطور صناعة الحلى فى العصور الحديثة منذ لحظة ترحيل الصناع المهرة من المصريين إلى الأستانة بواسطة السلطات العثمانية، فقد كانت محطة فارقة، حيث تتلمذ على أيديهم الأتراك ثم تتلمذ الأرمن الذين صاروا فيما بعد رواداً لهذة الصناعة على أيدى الأتراك.
المدهش حقا هو أن الارمن عندما هاجروا إلى مصر فارين من بلادهم إبان الثورة الأرمانية أجادوا وبرعوا فى صناعة الحليّ، تلك الحرفة التى تعرفوا عليها من الأتراك، الذين تدربوا على أيدى المصريين، وهى الفترة التى تعد بداية إشراق فجر جديد لهذة الصناعة الفنية فى عهدها الحديث.
أما الآن فما يقتنيه المصريين من حليّ لا يعكس أى ملمح من تاريخهم الطويل لا من حيث الذوق أو الخامة أو الشكل، أو القيمة بل يمكن أن نطلق على السائد الآن من حليّ بالردئ، أشكال وألوان ما أنزل الله بها من سلطان، لكن الغريب أن أغلب العاملين فى صناعة الحليّ فى مصر الآن من الهنود.
وإذا كان من الحين الى الآخر تتحدث وكالات الأنباء عن حصول بعض مصممى الحليّ المصريين على جوائز عالمية، فذلك يرجع الى أسباب اجتهادات فردية، وتأتى المعارض الخاصة لبعض الفنانين فى نفس السياق، فعلى الرغم من اتجاه قطاع الفنون التشكيلية فى بداية الألفية الثالثة اإلى إحياء فن الحليّ، من خلال إقامة مهرجان للحليّ، بمركز الجزيرة، إلا أن هذا التوجه اختفى ضمن ما اختفى من إضافات ونشاطات مؤثرة فى الفترة الأخيرة، رغم أن معرض فن الحليّ والذى نظمه المركز فى إطار المهرجان فى دورته الثانية، فى عام 2006 كان بمثابة وصل ما انقطع على نحو جماعى، حيث تبارى أكثر من (90) فنانا بزيادة (40) فنانا عن الدورة الأولى واستطاعوا إبراز قدراتهم الابتكارية الإبداعية.
فى الوقت الذى أقيم ضمن فعاليات المعرض مؤتمرا كشف عن الرغبة فى إعادة إحياء فنا لنا معه باع طويل، فيما كشف المعرض عن جيل جديد، من مصممى الحليّ، فقد تعددت أساليب الفنانين واتجاهاتهم الفكرية والخامات التى لجئوا إليها وتباينت منطلقاتهم والتى تمثلت فى: التنقيب فى مناجم التراث..سواء الإسلامى أو القبطى أو الشعبى وأيضا الفرعونى، فيما ذهب البعض إلى الارتكاز على مدارس أوروبية كالباهاوس التى سعت إلى وحدة الفنون عبر فلسفة تهدف إلى رفع جدار الكبرياء بين الحرفي والفنان وأيضا ظهور شطحات سريالية ونزعات تجريدية، فى الوقت الذى انشغل البعض بالهوية، هناك من تمسك بالفطرية سواء من حيث الشكل أو المعالجة.
فقد بحث د. أحمد بدوى فى ملامح هويتنا وما يناسبنا سواء من حيث طبيعة الشخصية ومزاجها الثقافى, أو من حيث الشكل كلون البشرة ونوعية الملابس وتصميماتها ووجود الحجاب كضرورة لدى البعض.
ولجأ بدوى إلى أساليب تراثية كالشفتشى وطرز خاصة بنا خاصة أنه يقول: أغلب الموجود فى السوق لا ينتمى إلى أي شئ يخصنا من حيث التصميم أو الخامة, فى الوقت الذى نجد فيه نصف المجتمع يستهلك الحليّ (النساء) كقاعدة اقتناء تكبر كل يوم، ومع ذلك كل الناس تشترى الحليّ التقليدية الموجودة فى السوق.
فيما رفض د.بدوى بشدة فى آخر حديث له معى قبل وفاته بأيام أسلوب التلضيم للأحجار المنتشرة حالياً بالأسواق، وشدد على رفض كل ما يأتينا من الصين والهند، بينما تمسك أن إنتاجه من الحلى لا يتعدى القطعة الواحدة للتـصميم، مضيفاً إذا كـان هناك إنتاج كبير تصبح المسألة صناعة أو حرفة، وليس فناً, وفن الحليّ يحتاج إلى الإبهار والجمال والتفرد والتميز.
وعن الخامات التى يستخدمها د.بدوى وتتسق مع أفكاره .. قال: من حقك استخدام أى خامة، لكن لا بد من التعبير عن شخصية مميزة، بعيداً عن التقاليع، على أن تكون قطعة الحليّ خالدة، فيما أشار لأنه يستخدم خامات كالمعادن ومنها الفضة، وبالنسبة للذهب أتعامل مع عيار92.5، أما الأحجار الطبيعية فأفضل الياقوت، الزفير، الشبر، الاماتست، الزبرجد، الجاد، الزمرد.
أما زينب خليفة التى تعمل مع الحرفيين فى ورشتها بضاحية مصر الجديدة تلك الورشة الملحقة بجاليرى يعرض إنتاج الورشة، فقد قالت: تدربت وتعلمت صياغة الحليّ بورش الصاغة كواحدة منهم بعد أن كنت قد درست الفلسفة بجامعة عين شمس، وتقول: مررت بتجربة قوية وأنا فى الخامسة حينما انتزعت من بين عائلتى وأهل حيى ووسطي لأذهب إلى وسط آخر بالمدرسة الأمريكية, التى لا تبعد عن بيتى سوى عدة أمتار بوسط المدينة, يفصلها عن هذا الجو أسوار عالية، لكن ما بداخلها يغاير ما بخارجها تماماً. كانت صدمة عنيفة إلى حد ما، لم أستطع معها التأقلم نهائياً، فقد شعرت بأننى مجبرة على أن الكيان الجيد يريد منى انتزاع اعتراف بأن ما داخل الأسوار أجمل وأكثر تقدماً وحضارة.
منذ تلك اللحظة وأنا أرفض كل ما هو منمق بشكل ظاهرى ومفتعل, فرفض الثقافة الشعبية بحجة أنها ثقافة العامة والغوغاء والانحياز إلى ثقافة الطبقة المتوسطة والنموذج الغربى، جعلنى أثور ضد السائد والنموذج المتكرر وأبحث عن ما هو صدامى وبه تحدى من الفن.
إضافة إلى فترة الوعى السياسى فى الستينات بالاشتراكية وانحيازى إلى الفقراء، جعلنى أؤمن بالثقافة الشعبية وتوظيفها فى جميع أعمالى, أما فى فترة السبعينات التى سافرت فيها إلى انجلترا، فقد أكدت هويتى، بعد تفهمت علاقة الحب والكره مع النموذج الغربى، حيث اكتسبت مفهوما جديدا، يجعل من النموذج الغربى كثقافة مغايرة يجب الاستفادة منها، مثلها مثل أى ثقافة قابلة للنقد والانتقاء، فتلاشى الشعور بالنقص وتولد شعور بالندية.
وتوضح زينب خليفة أن الخبرات المتراكمة جعلتنى أنبذ الفن السطحى والعاطفى فالعمل الذى يستهدف التفكير السطحى للمتلقى ويبهج عواطفه البسيطة هو عمل يعبر عن لغة واقعية معاصرة.
تتمتع أعمال زينب خليفة بجرأة متناهية حيث دفعت بطرق قديمة إلى السطح من جديد لكن بأساليب معاصرة .. حيث تقول: الشباب خايف من حاجات كثيرة، لكننى اعتمدت على الخبرة الفنية من احتكاكي بالحرفيين فى منجم صناعة الحليّ بالصاغة وتشير إلى أن الحرفي فى مصر لم يأخذ حقه، لذلك الصنايعى الماهر ليس له وجود فى مصر الآن، أما الموجود فهو الصبى.
فيما ترى الفنانة الشابة هالة عبد المنعم أن استخدام الخامة فى فن الحليّ لابد أن يرتبط بوجود مفهوم، لذلك تقول: أجدنى ألجأ إلى الخامات المبتكرة العجائن والزلط، ومفردات البيئة وأستمتع بالفضة والنحاس والأحجار الكريمة, وأعتمد على مفردات البيئة المختلفة والطلاءات كأحد الحلول الجديدة للشكل.
وتضيف هالة أن من الموضوعات تتملكنى للتعبير عنها العلاقة بين الرجل والمرأة، كصيغة للاحتواء، البقاء والاحتياج، لأننى أتناول قطعة الحليّ على أنها عمل نحتى سواء من حيث المضمون أو باعتبارها ثلاثية الأبعاد.
وتوضح هالة أن هدفى هو تغير مفهوم المرأة تجاة فن الحليّ وتجاوز السائد والمألوف والسوقى الذى يحاصرنا الآن مع طرح أساليب ونماذج تناسب حياتنا، وتضيف أما عن التكنيك فأقوم بالتشكيل المباشر بالحرارة، وعمل نسخة واحدة ونادراً ما أستخدم تقنية الصب بالشمع أو بغيره.
وتطالب هالة بوجود رقابة على صناعة الحلي، خاصة فى ظل عدم وجود حماية لحقوق الفنان الذى تسرق تصميماته وتشوه، وتذهب إلى أن السوق، فنحن نعانى من رداءة المفاهيم والسوقية منذ السبعينات، وإذا ظلت الأحوال هكذا سنظل فريقين فريق تحت قوى بذوقه الردىء وفريق فوق قوى.
فى الوقت الذى جمعت فيه إحسان ندا بين الفضة عشقها والأحجار الكريمة.. حيث تقول: بدأت عملى فى تصميم الحلى عام 1978 مع زميلى حسام يسرى الذى توفى قبل إتمام معرضه فأكملته وأهديته إلى روحه، فى العام 1980، ومنذ ذلك التاريخ أقمت 28 معرضاَ دولياً.
وبينت إحسان ندا أنها متابعة باستمرار لخطوط الموضة ومتطلبات الناس وأذواقهم وبصفة عامة أحب الزهور والطيور، وكل ما هو قريب من الطبيعة وأنحاز إلى النعومة والرقة، وكانت إحسان ندا قد حصلت على جائزة الدولة التشجيعية فى العام 1995.
أما عزة فهمى فاتجهت الى التنقيب فى التاريخ الفنى والثقافى لتصميمات الحلى الإسلامى والشعبى حيث اتخذت من الحرف العربى عنصرا جماليا وتراثيا يحمل طاقة جمالية تعبيرية وأيضا روحية لتضعه فى صدارة عناصر تصميماتها فجاءت تشبه الأعمال النحتية.
فيما لجأ د. حامد البذرة الى إطلاق الكوامن التعبيرية فى خامة النحاس بألوانه الأحمر والأصفر، اعتمادا على فكر الفنان المصمم وإصراره على ألا يخلو فنه من التعبير والصدق والشعور وليس استسلاما بأن صغر حجم المشغولة نسبيا أو عدم طواعية الخامة المعدنية بالقدر المناسب يمكن أن يقلل من اتجاه الفنان الى التعبيرية، أو نظرا إلى أن الفنان يكون محدود الخيال مقيدا بقيود الصدفة التى يمكن أن تتحكم فى تحديد الصياغة المناسبة للتعبير الفنى بالقدر الذى يقلل من قيمته، بل يذهب البذرة إلى أن فن الحليّ يجب أن يتجاوز الجانب الوظيفى للمشغولة باعتباره وسيلة من وسائل التزين والتحلي أو من مكملات الزينة.
أما د.زينب منصور فترى أن مفهوم الشكل فى صياغات الحلى لابد أن يعتمد على قيم جمالية كهدف أساسى يسعى المصمم لتحقيقه فى أعماله الفنية.
وتشترك كل من سوزان المصرى وسارة عبد العظيم فى التعلق بخامة الفضة والتشكيل الحر بها، تستخدم فاطمة الطنانى الزجاج بطلاقة متناهية مع الخامات الأخرى، واستخدمت أسماء البربري العظم وأسلاك النحاس والألمنيوم والخشب فى تشكيلات مستوحاة من الفن الشعبى ووحداته المميزة.
ويبقى أن الجيل الجيد من فنانى صياغة الحليّ يبشر بالخير رغم كل المعوقات، فنرى وهاد سمير، تسعى إلى الخروج بفن الحليّ إلى العالم، وعلياء الجريدى تعلمه الأجيال الجديدة، وهالة عبد المنعم، تحاول الجمع بين فن الحليّ وقيم النحت الجمالية، وفيروز عبد السلام تجد فى فن الحليّ سبيلا للتحقق، بينما تسعى كل من نجوى مهدى، نيرمين فاروق، نهال علام، إلى مستوى احترافى.