القاهرة 04 سبتمبر 2018 الساعة 09:47 ص
كتب : طلعت رضوان
أحسنتْ مجلة الهلال المصرية "عدد أكتوبر2015" عندما خصـّـصتْ ملفــًا عن "الشعر فى فلسطين المُـحتلة" وأعتقد أنّ هذا الملف كاشف عن الفرق بين الشعر الخطابى "آفة الشعرالعربى" والشعرالنابض بلغة الفن، وعن النوع الأول - كمثال- قصيدة إيمان مصاروة "سقوط المنافى" التى تقول فيها "يا لوعة العربى منفيًا.. والفرات يناجى الأقصى.. ويا دمشق: أما لحزنك من غياب.. لا لن تموت عروبتى" وكنتُ أتوقع أنْ تكون الأبيات التالية تتضمن "قبلة الحياة" حتى لا تموت العروبة، ولكنها رأتْ شيئـًا مُـفارقــًا فكتبتْ "سنعود للصحراء بكتبنا" فهل العودة للصحراء فيها "قبلة الحياة" أم التمهيد للموت؟ والشاعر الفلسطينى الكبير محمود درويش، بعد أنْ تخلــّــص من "شعرالخطابة" ارتقى أعلى ذرى "الشعرالفنى" برحابته الإنسانية وأفقه الوجدانى، فكتب - على سبيل المثال- "كنتُ أحسبُ أنّ المكان يُعرف، بالأمهات ورائحة المريمية، لا أحد، قال لى إنّ هذا المكان يُسمى بلادًا ، وأنّ وراء البلاد حدودًا، وأنّ وراء الحدود مكانــًا يُسمى شتاتــًا ومنفى، لذا، لم أكن بعد فى حاجة للهوية، والهوية؟ قلتُ: فقال دفاع عن الذات، إنّ الهوية بنت الولادة، لكنها ، فى النهاية إبداع صاحبها، لا وراثة ماضٍ، أنا المُــتعدّد، فى داخلى خارجى المُـتجدّد، يُحب بلادًا ويرحل عنها، يُحب الرحيل إلى أى شىء، ففى السفرالحر بين الثقافات، قد يجد الباحثون عن الجوهرالبشرى، مقاعد كافية للجميع" (ديوان كزهراللوز- رياض الريس2005)
وأعتقد أنّ الشاعرة نداء خورى "فى ملف الهلال" تتميز بذلك البُـعد الإنسانى "أنا المُـتعدّد، المُـتجدّد" الذى عبّرعنه درويش. وفى قصيدتها "باب الشروق" عبّرتْ عن رفضها للثوابت "الثقافية" ومنذ الأبيات الأولى تدخل فى جدل "بلغة الشعر" مع كل ما هو مزيّـف فتعترف بأنها "ابنة الشرق.. وليدة البؤس حفيدة الخلفاء" وأنّ أمها ماتت مقتولة "قتلتها الأمة حين وُلدتْ من النساء" وقتــْـل النساء ليس بالمعنى المادى فقط وإنما بالتدنى "الحضارى" حيث القتل "فى ليل الحوارى والجوارى.. فى عتمة التعرى.. فى بلاط الأسياد.. فى ليل السلاطين" والقتلة "من الأجداد والأسياد والاستعباد" ولذلك فهى لا ترى أنها تعيش فى "وطن" وإنما فى "قبيلة" وتراث القبيلة تلضمه بتعبير"الشرق" الذى ناء "من التمر وأحمال البوادى ومن الصحارى، من بدء حمد الرب إلى جلالة رب الحمد، ومن صلاة الصبح إلى مغرب الأصالة" فى هذا المقطع إسقاط رمزي على حالة "التواكل" والاعتماد على الصلاة وتوجيه الحمد للرب دون عمل، وهذا سر شقاء "الشرق" الذى ناء "من التمر ومن الصحارى" وأنّ مصير"الشرق" مُـعلــّـق على "رحمة السلطان".
وآفة "الشرق" اختصاره فى المرأة فكتبتْ "الشرق امرأة علتها الليل، ضرتها الشمس، حرقتها تقتل، وباب الشرق يُغنى، يا فؤادى، لا تسل أين الهوى، كان صرحًا من خيال فهوى" أى أنّ "الشرق" سجن المرأة فى "الليل" وجعل من الشمس عدوة لها، أى أنها لا تخرج "من خدرها الليلى" وبالتالى فإنّ كل وظيقتها إمتاع الرجل. وإذا كان باب الشرق يُغنى "يا فؤادى لا تسل أين الهوى" فإنه "أيضًا" يُغنى "الغضب الساطع آتٍ وأنا كلي إيمان" فى هذا المقطع فإنّ الشاعرة امتلكتْ جرأة البوح بما ترفض الثقافة العربية السائدة الإفصاح عنه، وهو أنّ النضال ضد الصهيونية وضد إسرائيل صار"نضال الشعر والأغانى" والخطورة عندما تكتمل عناصرالجودة الفنية من كلمات وأداء، بل إنّ الموسيقى تقوم بدور غاية فى الأهمية، خاصة عندما يكون اللحن على درجة عالية من القوة والإبداع الفنى، فيُــحدث التأثير النفسى لدى المُستمع كما هو فى القصيدة الشهيرة التى غنــّـتها الفنانة اللبنانية القديرة فيروز، فتكون النتيجة "حالة استرخاء" ورضا عن النفس، وأنه تمّ تحرير القدس بالأغانى. وأعلم أنّ هذا التفسيرقد لا يُـعجب أغلب المُـثقفين، وأنّ الغضب "الساطع" المُـفترض أنْ يوجـّـه لإسرائيل، قد يوجـّـه لشخصى وللشاعرة نداء خورى، وأنا سأتقبل غضبهم بصدر رحب، بل إننى أعترف بأنّ كلمات الأغنية واللحن الفنى وصوت فيروز القوى، كل تلك العناصرالفنية الرائعة تجعلنى - فى كل مرة أستمع فيها لتلك الأغنية - أشعربحالة من النشوة والشجن، وإذا بخيالى يُــحلــّـق فى مملكة سماواتى، فأرى القدس وأرى المسجد الأقصى وقد تحرّر من قبضة إسرائيل، ولكن عندما أهبط إلى أرض الواقع أقول لنفسى يا ليت "إرادة الفعل" تتواكب مع حـُـسن الظن بتأثير"الأغانى" وأعتقد أنّ هذا ما قصدتْ الشاعرة وأفصحتْ عنه بقولها "على باب الشرق انحفر صراخ، مشلوخ من ركوع البشر" وكتبتْ "خـُـلقتْ أجيال فى الحرب، عُـلقتْ، والحرب لغات، ناس تكتب، ناس تقرا (مكتوبة هكذا بدون همزة والشاعرة متعمدة هذا) وناس تــُـعيد الحكى على النيات، شى عَـبَـرْ، شى هجر، شى باقى، يبحث عن أثر، خـُـلص الكلام والمعنى انكسر، باب الشرق مجنون"
والشاعرة فى جدلها مع الواقع المُـلطــّـخ بمساحيق التجميل، تتمنى واقعـًا أفضل يسوده الصدق، فكتبتْ "باب الشرق كذاب، كل يوم تطلع شمس، يبلعها غياب، ما تصدق وعدك، وعدك عتيق، وبلادك عباءة، صلاة شلحْها الزمن" هكذا بكل صراحة: البلاد مجرد (عباءة) والصلاة شلـحْها "عراها" الزمن، لأنه زمن النفاق العربى. وباب (الشرق كذاب) والكارثة أنه مثل (القدر) الذى لا فكاك منه فهو مكتوب ((على جبين الناس)) وهذا الشرق العربى لا يزال الناس فيه على إيمان ب "الحاكم الفرد" المُـخلــّـص وهو ما عبّرتْ عنه الشاعرة فكتبتْ "افتح بابك يا سلطان، افتح بابك واحمينا، صغار وتعبتْ أيدينا" ليس هذا فقط وإنما جماهير"هذا الشرق" لا يزالون على إيمان بتراثه الأسطورى، الخرافى عن "الغول" القاتل، والمطلوب من السلطان "حماية شعبه" حيث "نحن صغار وتعبتْ أيدينا" من الدق "على باب السلطان" وفى هذا البيت من القصيدة توحى الشاعرة "بلغة الفن" بآفة أخرى سائدة فى"هذا الشرق العربى" وهى (تــُـحفظ القضية) لأنّ (الفاعل مجهول) أما (الإيمان) ب (السلطان) الحاكم الفرد مُـطلق الصلاحيات فهو أخطر الآفات، التى تعوق مسيرة التقدم والحرية، حيث ثبات مقولة "بالروح بالدم نفديك يا فلان" وهى المقولة التى سخر منها وانتقدها الفيلسوف الألمانى "هيجل" الذى كتب "ملعون الشعب الذى يعبد البطل، حتى ولو كان بطلا بالفعل"
لفت نظرى أنّ الشاعرة نداء خورى "المولودة فى قرية فسوطة بالجليل" استخدمتْ بعض مفردات البنية اللغوية المصرية مثل "نقول مش معقول بالشرق، قتل الشرف مش معقول" واستخدمتْ حرف "الباء" فى البنية اللغوية المصرية فكتبتْ "باب الشرق كلمة بتخلــّـف كلام" وهذا الحرف يستخدمه شعبنا المصرى بكثرة للتعبيرعن حالة الاستمرارمثل: الواد بياكل.. بيذاكر.. الراجل دا بيستعبط.. إلخ كما أنها كتبتْ "ناس تكتب.. ناس تقرا" فحذفت الهمزة من كلمة (تقرأ) العربية وكتبتها كما ينطقها شعبنا المصرى، والدليل على أنها كتبتْ ب "المصرى" عندما قالت "خـُـلص الكلام" لأنّ ترجمتها إلى العربى ((انتهى الكلام)) أو لم يعد هناك كلام يمكن إضافته.. إلخ. وكتبتْ "الشرق كذاب" وكلمة (كذاب) بنية لغوية مصرية لأنها بالعربى (كاذب) وأعتقد أنّ الشاعرة نداء خورى فى جدلها مع الواقع الذى ترفضه ومع التراث الذى تنتقده، إنما تسعى لواقع جديد تسود فيه قيم التعددية والتخلص من حالة "الانغلاق" الثقافى المؤدى إلى "الجمود" وذلك بالانفتاح على كل ثقافات العالم كما كتب محمود درويش "ففى السفرالحر بين الثقافات/ قد يجد الباحثون عن الجوهرالبشرى/ مقاعد كافية للجميع" أما الهـُـوية فهى "بنت الولادة، لكنها فى النهاية، إبداع صاحبها، لا وراثة ماضٍ".