القاهرة 04 سبتمبر 2018 الساعة 09:45 ص
د. نادية هناوي
تبنى رواية العريضة للقطرية نورا آل سعد والصادرة في طبعتها الأولى عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت 2010على رؤية فنية ذات امتداد موضوعي, ينتمي إلى الواقعية النقدية الجديدة كمذهب أدبي وتيار فكري يؤمن بالنظر المنطقي الذي لا لبس فيه ولا إيهام, مع اعتماد الوضوح والالتزام تجاه قضايا الواقع.
ولعل حتمية المصادفة التي تستدعي حضور المفاجأة هي أكثر الوسائل إسهاما في تدعيم الرؤية الواقعية للصراع الطبقي في الرواية كانعكاس لوعي الإنسان بنفسه وبمسيرة مجتمعه.
وتقع شخصيات الرواية الرئيسة والثانوية المركزية منها والمساندة (عائشة وجابر بوسالم وشريفة وهدى ومنيرة وصالح وحسن وغيرهم ) تحت وطأة الواقع الذي يسيرها بقدرية تجعلها خاضعة لحتمية موضوعية, ومصادفات ليست في الحسبان تسهم في قلب المسارات وتحويرها, وربما تصادمها وتعقدها في خضم أتون حياتي معيش, يرسم لها خطواتها ويحدد لها تطلعاتها مكانا وزمانا.
وتبزغ العريضة كخيط رابط بين أجزاء الرواية بأحداثها وشخصياتها وزمانها ومكانها وكثيمة محملة ببنود تحقق تطلعات الشخصيات الضعيفة والمغلوبة باتجاه حياة جديدة ، هذا من جانب ومن جانب مضاد تكون هذه العريضة بمثابة مصادفة تستدعي القمع والرفض والمقاومة عند الشخصيات المتسلطة والنافذة والقوية.
ولفكرة العريضة صلة وثقى بشخصية المثقف الثوري اللامنتمي في دلالة على أن النظام البرجوازي قادر على غلبة الفكر التحرري وأن لا سبيل للتصالح بينهما.
وتؤدي المصادفات التي تجمع بين صالح وعائشة دورا مهما في تدعيم حقيقة أن الصدفة من الممكن أن تقلب المسلمات وتخلخل الثوابت, وأن ليس مستحيلا أمام التطلعات المشروعة من أن تغير المجتمع وتحل مشاكله وتعالج همومه.. وقد تم اعتماد شكل فني يقوم على تقسيم الرواية إلى أجزاء, كلعبة أسلوبية شكلية الغاية منها كسر تتابعية الأحداث باعتماد تداخل الأزمنة داخل الرواية؛ ليكون الزمن الماضي متداخلا بالحاضر, ومن ذلك مثلا أن اللحظة الراهنة في لقاء عائشة بصالح تمتد إلى ماض بعيد فتتداعى في داخل عائشة الأفكار على شكل مونولوج داخلي..
ولو كانت عائشة شخصية إيجابية لتركت المؤلفة لها أن تسرد الأحداث بضمير الأنا, لكن سلبية عائشة ورضوخها المستسلم للواقع جعلها أضعف من أن تسرد بنفسها, الأمر الذي استدعى راويا موضوعيا بضمير الشخص الثالث ليقوم بالسرد نيابة عنها, فذلك هو الأنسب للتعبير عن هذا النمط من الشخصيات.
وقد جاءت رواية العريضة على أربعة أجزاء لكنها بدت كلوحة تتكامل بهذه الأجزاء, أو كأنها أربع روايات كل جزء هو رواية بحد ذاته ببداية ونهاية وحبكة خاصة, وما يجمع الأجزاء مع بعضها هو الخيط الموضوعي المتمثل بالعريضة التي تعكس هموم شخصيات نسوية تعاني من تحديات الواقع الاجتماعي والنفسي, وتكون العريضة حاضرة في استرجاع عائشة لقصتها أما وزوجة، كما تكون حاضرة في قصة شريفة الأم ومنيرة الأخت وهدى بنت الأخت، كأربعة أجيال نسوية ظلت العريضة بالنسبة لها، مشروعا مطروحا لحياة حرة وجديدة .
ولعل التركيز على توظيف عنصر المصادفة أهم اشتغال سردي حقق للبناء الروائي الديمومة وساعده على تصاعد الأحداث ليتعقد صراع شخصياتها ويتأزم...
وعلى الرغم من أن الرواية اعتمدت البناء التجزيئي، إلا أنها استطاعت أن تعكس التجييل النسوي وفق انتهاج واقعي نقدي جديد, عالج قضايا موضوعية ذات صلة بالمرأة, تتعلق بالانتماء الطبقي والتطلع الثوري والعمل الحزبي والوعي الاقتصادي والاجتماعي.
وهذا ما جعل الرواية موضع الرصد علامة من علامات تطور الرواية القطرية عبر سعي حثيث نحو الارتقاء بالوعي لأجل تغيير المجتمع وتطويره, وهذا التوجه قد أفرز جملة نتائج تم تحصيلها في نهاية الرواية بمنطقية وموضوعية.
وما كان للرواية أن تؤدي هذا الدور لولا أن المصادفة كانت هي العنصر المراوغ والعمود الفقري الذي منح الرواية الحيوية والديمومة وحقق لها التناسق والتشويق والإثارة بعيدا عن الفوضوية والتعميمية.
أما خضوع الشخصية النسائية للمصادفة فإنه جعل منها فريسة التضاد الفكري بين عالم الشرق بذكوريته وهيمنته وعالم الغرب بتحرره وانفلاته، وهكذا تتعرض الشخصيات النسوية لمزيد من الضغوط النفسية التي تدفعها إلى الرضوخ لحتمية الواقع المعيش وقد جمعها هم واحد تمثل في فقدان الثقة في الرضوخ لسلطة المجتمع الذكوري ممثلا بالبيت والزوج والشارع والعمل.
وحمل الجزء الأول عنوان ( تكاذيب ) بعتبة استهلالية هي مقطع غنائي لفيروز يعكس ما ستفضي إليه شخصيات الرواية من مكابدة كونها تحمل في دواخلها تطلعات لا تقوى على البوح بها علنا, وقد كشف السرد الموضوعي عن تلك الدواخل ورسم عوالم الشخصيات السرية وبمنظور موضوعي مقتحم ومستبطن.
وتتعالى دراماتيكية الرواية مشوبة بالتوجس والخوف والخجل وما هذا إلا تعبير عن حتمية الصدفة, وإذا كانت أحداث الجزء الأول تتمحور حول عائشة فإن دورها في الأجزاء الأخرى سيضمحل شيئا فشيئا لاسيما في الجزء الرابع من الرواية، الأمر الذي يستوجب تدخل القارئ ليفك الاشتباكات ويعقد الترابطات ويجمع الشتات بما يحقق له الولوج الى خاتمة الرواية.
وإذا كانت الحتمية الواقعية قد خذلت تطلعات المجموع وأحلامهم فإنها أيضا خذلت عائشة التي كان في انتقالها إلى بريطانيا مزيد من التغريب الفكري والنفسي.
ويظل وعيها مشدودا إلى صالح وسحر اللحظة طاغ عليها ثم تعود بالزمن إلى لحظة زواجها وما عانته في سبيل نسيانه واجدة في الزواج تعويضا عنه, ولذلك شرعت تبني فلسفة خاصة للتحرر من قبضة حبه عليها, لكنها تظل في داخلها تصنع وجودها بنفسها وتحرك كل شيء من حولها وهي ثابتة في مكانها, ولم يكن هذا إلا مجرد طيف خيال غير واقعي ورد فعل ضدي جعلها تتماهى مع ما حولها بناءً على وعي جمعي وسلوك غيري .
ولا تخلو الاسترجاعات من مقاطع فلسفية كثيرة يقحمها الراوي ليكشف لنا كيف واجهت عائشة واقعها بالخضوع للحتمية الغيرية, وتتوزع الاسترجاعات الزمانية لمراحل حياة عائشة بين مكانين أثيرين هما قطر ولندن, وتظل المصادفة وحدها هي التي تجمع بين الأزمنة والأمكنة في ظل مجتمع ازدواجي يرى أن من السهل استجلاء صورة المرأة في الثقافة العربية أو استجلاء مفهوم الأنوثة عند المرأة, وهذا ما يوقع عائشة في مفترق طرق فيكون عليها أن تتصالح مع وعيها الجمعي ووعيها الفردي .
وبالمصادفة تظهر شخصية ( ميثة) صديقة عائشة لتمثل وجها سلبيا للتصادم بين الإخلاص والخيانة, مما يحمل على تصعيد الحبكة الروائية فيتبدد الحلم مرة أخرى ويتحول إلى كره ويتخذ الخجل شكل التشدد ومن ثم تعود عائشة أدراجها إلى قطر.
وحمل الجزء الثاني من الرواية عنوانا محرضا وإيهاميا هو( كأنه النشيج) وباستهلال شعري غنائي تبزغ المصادفات لتلعب دورا مهما في ذكريات عائشة عن مرحلة الطفولة في بيت عائلتها, ولعل أهم تلك المصادفات ما حصل لحظة تعرفها على صالح بالقرب من البحر وهذا ما ترك أثرا لا يمحى في ذاكرتها.
أما الجزء الثالث فحمل عنوان (الدكتورة منيرة ) في حين كان عنوان الجزء الرابع (الأعراف) مستهلا بمقطع من ابن عربي عن أصحاب الأعراف ثم بمتن سردي موضوعي استرجع قصة منيرة في دراستها وعملها وعلاقتها بعائشة وحبها ليوسف بن عمران براوٍ كلي العلم مقتحم يستبطن الدواخل.
وتجعل المصادفة الدكتورة منيرة التي هي أخت عائشة والأستاذة الجامعية الرومانسية والماركسية تتمتع بروح متحررة فتتمرد على لبس النقاب كما تكون لها أفكار جريئة.
ومثلما لعبت المصادفة دورها في رحلة العذاب الرومانسي للشاعر القطري محمد عبد الوهاب الفيحاني مع محبوبته مي, كذلك تكون المصادفة سببا في فشل علاقة منيرة بيوسف ولا يحصل التحول في حياتها من العلمانية والليبرالية إلى النزوع الديني، إلا بسبب المصادفة التي تجعلها أيضا تتأمل وقائع وثورات كاندلاع الثورة الإسلامية في إيران والغزو السوفيتي لأفغانستان وسقوط الاتحاد السوفيتي, ولكنها سرعان ما تركت ذلك وعادت إلى أيديولوجيتها العلمانية.
وعلى شاكلة هذا التذبذب الفكري نجد أن أولادها يقعون تحت طائلة المصادفة فيتخذون اتجاهات مغايرة, فابنها طارق يقع تحت تأثير الأفكار المتطرفة أما ابنتها سلوى فتؤيد تحرر المرأة القطرية, وهي التي درست في أمريكا واشتغلت في الصحافة, ولأن المصادفة ليست اشتغالا موضوعيا فحسب بل هي أيضا اشتغال فني؛ لذلك يكون توظيف أسلوب الحوار المباشر "الديالوج" في هذا الجزء حاصلا لأول مرة في الرواية.
وتبزغ شخصيات ثانوية جديدة منها شخصية هدى بنت منيرة لتخضع للعبة المصادفة في علاقتها بجون الأمريكي كحتمية واقعية وجهت الأحداث ورسمت للشخصيات مصائرها متخذة مسلكا رومانسيا روحيا عن الحب والحياة وأرسطو وفلسفته وما سمته الكاتبة أشواق الانخلاع
ولولا المصادفة ما كان لجون أن يندمج بالصحراء في قطر وصارت الصحراء تخيفه وتبتلعه, وطاردته الكوابيس فاعتزل الناس وترك المركز الذي أسسه للدراسات ورجال الأعمال لتكون نهايته الموت بضربة شمس في سماء الدوحة..
وبهذه الحتمية الواقعية ينتهي جون الذي كان بإمكانه أن يغنم الكثير مستغلا موقعه وعلاقاته لكن عدم بلوغه الرضا والقناعة هو الذي أسلمه للمصادفة؛ لتؤدي دورها في إشعاره بالنقص والخيبة والخذلان فتتصادم أحلامه بالواقع ما بين ماض مضى وحاضر واه ومكرر, وبذلك تتكشف خاتمة الرواية معلنة عن مقتها لحتمية المصادفة كونها تفضي إلى الحتمية والتكرار ولأن الدكتورة منيرة أيقنت أن للمصادفة دورها في صدم مثالية الحب وسريته لذلك استسلمت للتقاعد.
وبالعود على ما تقدم تتبلور بنائية رواية ( العريضة ) التي اتخذت من حتمية المصادفة محورا تدور حوله الشخصيات بسلبيها وإيجابيها وتدور حوله الأحداث بزمانها ومكانها، وما كان لهذه المصائر أن تكون بهذه الصورة لولا المصادفة التي أخضعت الشخصيات بتوانٍ للحتمية الواقعية وسلمتها بطواعية للمجهول.