القاهرة 28 اغسطس 2018 الساعة 11:42 ص
دراسة : د. منير فوزي
-1-
لا يتم تقديم الحدث في رواية "بغل المجلي" دفعة واحدة، وإنما يلعب السرد القصصي دوره في إعادة تقديم هذه الأحداث على مراحل، فالكاتب يستعين بالراوى العليم Omniscient narrator لكي يقنعنا من خلال لغة تشبه لغة البحث العلمي، أن ما يتم تقديمه هو حقائق تاريخية، تم التثبت من معظم ما جاء فيها، وتبدو الرواية ترجمة لحياة شخصية مهمة لا تلعب أي دورٍ على الإطلاق مع أنها أهم شخصيات الرواية، وهو ما يدخل هذه الرواية دائرة روايات اللا بطل Anti-hero ، والبطل المحورى كما هو واضح من عنوان الرواية هو: البغل، بغل المجلي، وهو بغل لا يفعل شيئا طيلة صفحات الرواية سوى أن يأكل وأن يمارس فعل إخراج الروث المقدس " رآه الناس جميعا تحت الشمس: بغلاً أحمر ، فاقع اللون، ذا غرة، وذيل طويل ينش به على جنبيه وكان إلى حدٍ ما لامعاً وعفياً" (1).
وتتوزع أحداث الرواية على أربعة عشر فصلا هى: (ما تيسر من تاريخ البغل - المهاطيل – الدرويش – سكينة – أبو البطاح – العمدة أبو دراع – حميدة –المستدرك من تاريخ البغل – الحضرة الذكية – سعدية الحلبية – المحجوب – عزت بك سلطان – الليلة طين – لحظة فارقة ).
ولمسيرة السرد في هذه الرواية اتجاهان، أولهما: أفقي يتتبع شخصية المجلي الذي بدأ حياته في خص على جانب المدق الذي يشق الزراعات " لم يكن غير قطعة من "الخيش" المتهرئ، موصولة بسقف من بوص الذرة، وبعض حطب السنط وجريد النخل، مجرد "خص" من طين مخلوط باللبن"(2). هكذا بدأ المجلي حياته في هذا الخص " ولم يكن من أحدٍ يعيره التفاتة إشفاق غير الدروايش العائدين من الموالد وموائد الرحمن" (3).
وبفضل قدراته غير المحدودة وبشبكة علاقات متسعة استطاع الرجل أن يتحول إلى أسطورة، وأن يحيل بغله من بغل مسروق إلى بغل سماوى تحل بروثه البركة، ولأنه يعلم جهل الناس وتصديقهم لأى شئ يقال؛ فقد قام بالاستيلاء على فرسة عبد النبى وأخفاها فى خصه حتى ولدت البغل الذي ادعى أنه قد جاءه - بعد ذلك- هدية من السماء " كنت نائما على جنبى اليمين.. ووجهى للقبلة .. وكنت على وضوء.. رأيت السماء تبرق.. انهمكت فى تأمل السماء حتى أنى شاهدت بغلا من نور يتشكل فى السماء.. يهبط رويدا إلى الأرض فى الحقيقة خفت.. وتملكتنى الرهبة.. ولكننى تعوذت من الشيطان، وقلت: يارحمن .. وفى الصباح ما إن فتحت عيني وجدت هذا البغل فوق رأسى" (4).
ولأن الناس فى حاجةٍ لقوى غيبية تدفع عنهم الأذى، وتكشف لهم المستقبل وتعينهم على تحقيق أغراضهم وتحمل أعباء الحياة، فقد قبلوا أن يكون هذا البغل "من بغال الملائكة ظهر فى قرية الطرابشة وهبط إلى الأرض، فى ليلة أربعة عشر، ودخل خص الشيخ المجلي، وقيل هو من بغال الجن، غير أن أحد الصالحين قال: يضع سره أينما شاء، وقال: البغل ولى، وقال آخر: ربما هو روح ولى تجسدت فى هذا البغل" (5). وعن طريق بركة هذا البغل الذي عده الناس ولياً، فإن صيت المجلي يعلو، ويتمكن بفضل الحيلة والإيهام وجهل الناس وميلهم لتصديق الخرافة أن يتسيد عليهم، وأن يتمكن من مالهم وقلوبهم، فيقتنى قصرا " سمعت أنه يفوح عطرا، وأنه يجلس وسط الورود والرياحين، وأنه يأكل الضأن، وينام على حرير، وسمعت أن خداما للبغل، وخداما للمجلى، وأخريات لزوجاته يعطرنها، ويسرحن شعرها، وسمعت أن أشجار حدائقه لا تحصى، كنعمة الله" (6).
وبفضل حيلة المجلي وبركة روث البغل السماوى فإن المعجزات لتقوم، فينجب المحجوب العنين، ويهتدى أبو البطاح الذي لم يكن يستطيع العيش بدون الخمر والحشيش والنسوان، وتزيد تجارته ويزداد ماله، ويسترد عزت بك سلطان ضابط النقطة زوجته نور الفؤاد بعد أن " دفن كثيرا من روث البغل فى أركان البيت الأربعة الخارجية" (7)، غير أن هذا التحول فى حياة المجلي وبغله والناس سرعان ما ينقض شأن كل الأبطال التراجيديين، فالبغل يموت ويتوافد الناس على قصر المجلي ليتبينوا صحة الخبر " أول فوج وصل إلى قصر المجلي كان أهل قرية الطرابشة جميعا، نساء ورجالا وعيالا، ثم توالت من بعدهم الوفود: العمدة أبو دراع وركبه، الدرويش الذي كان يمنى النفس بإقامة هانئة فى معية المجلي، وسكينة بحمارتها العرجاء التى كانت تمنى النفس بتبركات المجلي وبغله، أبو رقبة ومن معه من أبناء الحلال الذين تطوعوا للرفقة العسيرة فى الدروب والطرقات الوعرة والمدقات المتربة، عزت بك سلطان ضابط النقطة وعساكره، مشايخ الطرق الصوفية، بعض العمد والخفراء والوجهاء والدراويش، سعدية الكفيفة وصحبتها ... كل من سمع الخبر من القرى المجاورة وسمحت إمكانياته بالتحرك ليلاً"(8)، ويعلو إيقاع المأساة فالمجلي يمضى إلى خارج قصره؛ متخذاً طريقه باتجاه الجنوب والجماهير الغفيرة منقادة خلفه، وقد استولى عليهم شعور غريب يدفعهم لاقتفاء أثر الرجل، وحين وصلت المسيرة بعد الفجر بقليل إلى القناطر التى تربط شرق النيل بالصحراء غربها، هناك وقف المجلي عند منتصف القنطرة الرئيسة فاعتلاها وتأمل الجموع المحتشدة، واكتفى بنظرة اخيرة إليهم قبل أن يترك جسده يهوى إلى مياه النيل " اختفى الرجل من أمام نواظرهم، الرجل الذي أحبوه، وأخلصوا له، وتخاصموا حوله، وصدقوه، وقدسوه. اختفى بأوداجه المنتفخة، ووجه الأبيض المدور، وعينيه الواسعتين، ولحيته المهيبة الجلال. اختفى بقامته المديدة، وجلبابه الأبيض المزهر، وعمامته البيضاء المدورة، ولاسته الخضراء التى يلقيها فوق كتفه اليمنى. اختفى وتركهم ينظرون" (9).
وبموت المجلي يتشكل جانب آخر من الأسطورة، فمثلما كان المجلي فى حياته أسطورة، فإنه بعد وفاته يتحول إلى أسطورة أكبر، واختلف الناس حوله، فمنهم من أيد عودته " سيعود إليهم ليباركهم من جديد ، سيعود ليقيم مع خاصته فوق الأرض، المرابطين فوق القنطرة" (10)، ومنهم من عاد لكى يبدأ ما كانوا قد استقروا عليه بشأن تكفين البغل ودفنه.
والثاني: رأسي يتناول جوانب من حياة عددٍ من الشخصيات الروائية التي ارتبطت بصعود نجم المجلي، كالدراويش، وسكينة، وأبو البطاح، والعمدة أبو دراع، وحميدة، والمحجوب، وعزت بك سلطان، وعبد النبي، وغيرهم، مما كان لوجودهم دور في تطور أحداث الرواية، وتشابك أبنيتها السردية.
-2-
دحض الخرافة ونفي الأسطورة مطلب رئيس من مطالب "عبد الجواد خفاجي"، نتبين ذلك عند مطالعتنا لعتبات النص (الإهداء): "إلى كل أبناء الصعيد الذين تطحن القبلية عظام حياتهم. للأسف: الحياة خلف ظهوركم"، والقبلية التى يقصدها المؤلف هى تبعات التخلف وعدم إعمال العقل والفكر، والانقياد وراء الخرافة والأسطورة بدون تروٍّ "هى لحظة مؤسطرة، مشحونة باستلاب الذات، ربما سطوة المجهول، أو ربما هى الأسطورة التى لا تزال تزاحم عقيدة هؤلاء. هى سلطة روحية إذن" (11).
ويسم القبح معظم شخصيات الرواية وأحداثها، فعبد النبى الذي سنحت له الفرصة لاستغلال جحش الخواجا فهيم فى اعتلاء فرسته، لم يأخذ إذنه وفعلها من وراء ظهره، وحميدة تهرب من أهلها مع طالب الحلال الذي أحبته ورفضه أهلها " لأنه من عائلة بينهم وبينها حجر"(12)، وتعيش معه فى الذرة من غيط إلى غيط إلى أن تصحو ذات يوم ولا تجده بجانبها، ربما قتلوه، وساءت سمعتها أكثر عندما أنجبت منه فى الحرام طفلهما، فعرفها الأهل بأنها "صاحبة فضيحة"، وحين تفد على خوص المجلي لتطلب الماء وتشكو له حالها يطلب منها أن تبقى معه فهو فى حاجة لوليف، وتبقى فى معيته حتى وفاتها بعد ذلك بعامين، أما ابنها " المخصى " فقد أسند إليه المجلى خدمة البغل.
أما سعدية الحلبية فقد توطدت العلاقة بينها وبين المجلي " هى تعترف فيما بينها وبين نفسها أن المجلي مارس معها الحرام أكثر من عدد شعر رأسها، وفى كل مرة كانت تستولى على ما فى جيب المجلى من فلوس"(13). وزوجها أشد قبحا منها فهو يعلم بما بينها وبين المجلى ولا يمانع " صارحته مرة أن زوجها أبو ضيف يعرف، وأن الفلوس التى تأخذها منه تسلمها لأبى ضيف، وقالت إنه لا يمانع طالما يقبض الثمن" (14).
أما المجلي فهو القبح ذاته: شخصية وفعلاً، فهو يزنى ويسرق ويكذب ويمارس كل أفعال القبح، وكلها تحت ستار الدين، يحتمى به باستغلال جهل الناس وظنهم أن ولى من الصالحين، وأن بغله سماوى يشكل موته " إيذانا بانتزاع البركة من زراعاتهم ، وأموالهم وأعمارهم" (15).
أما الموت فيأخذ فى الرواية بُعدًا أسطوريًا لارتباطه بالمجلي الذي يختفي فى مشهد دراميّ، بعد علمه بموت بغله، وكأنما حياتهما (البغل والمجلى) لا بد مثلما ارتبطتا فى الحياة، أن ترتبطا فى الموت.
-3-
بقى أن نشير إلى أن "هناك مؤثرات من "جـون شتاينبكJohn Steinbeck " (1902-1968م) وبالتحديد في روايته "تورتيلا "Tortilla Flat(1935م) على رواية "بغل المجلي"؛ حيث نلحظ الاهتمام بالمهمشين الذين يلعبون أدوار البطولة في رواية "بغل المجلي"، وهم ذاتهم "البايسانيون "أبطال رواية "تورتيلا فلات" الذين تمتزج في أصولهم الدمــاء الأسبانية والهندية والمكسيكية والقوقازية، المقيمون في مدينة "مونتيري Monterey "الواقعة على ساحل ولاية "كاليفورنيا The coast of California"والمهمشون اجتماعياً وسياسياً، كما أن عناصر التشابه والمماثلة تمتد إلى بناء الرواية المعتمد على قصص قصيرة تحت عناوين مستقلة، يشكل مجموعها أحداث الرواية، وإلحاح مؤلفي الروايتين على الطابع التلقائي والمغامرات البسيطة، وتتبع أحوال البسطاء والمهمشين، واستعراض همومهم وآلامهم وجعلهم أبطالاً تراجيديين، تنتهي حياتهم بمآسٍ درامية وهو ما يتحقق في معظم أحداث الروايتين، والذي بلغ ذروته في المشهد الختامي لموت "داني Danny " في "تورتيلا فلات" وموت "المجلي" في "بغل المجلي" وتحول هذا الموت إلى ما يشبه الأسطورة.
وإن استعراض هذين المشهدين -على الرغم من طولهما- يعد ضرورياً لتبين إلى أي مدى توافقت ثلاثية (داني وأصدقاؤه وبيته) مع ثلاثية (المجلي وأتباعه وبغله):
"يقول أهالي تورتيلا فلات إن داني قد تبدلت ملامحه بسرعة. وإذا به يصبح ضخماً ومرعباً، تتوهج عيونه كالأنوار الأمامية لسيارة. ثم شيء مخيف بدا فيه. وقف هناك في غرفة بيته الخاصة. وأمسك بيده اليمنى رجل المنضدة المصنوعة من خشب الصنوبر، وحتى رجل المنضدة تضخمت، وتحدى داني العالم.
صاح: "من ينازل؟ ألم يبقَ أحد في العالم لا يخاف؟" خاف الناس، فقد أصبحت رجل المنضدة المخيفة الحية مصدر رعب لهم جميعاً. طوَّح بها داني إلى الأمام والخلف. فسقط الأكورديون في الصمت. وتوقف الرقص. وتجمدت الغرفة، وبدا كما لو أن الصمت يزأر في الغرفة كالمحيط.
وصاح داني ثانية: "لا أحد؟ هل أنا وحدي في العالم؟ ألا ينازلني أحد؟" ارتعد الرجال أمام عينيه المرعبتين، وراقبوا في ذهول مسار رجل المنضدة وهي تشق طريقها في الهواء، ولم يستجب أحد للتحدي.
بسط داني نفسه إلى الأعلى، وقيل إن رأسه قد لامست السقف، وقال: "إذن سأخرج إلى "الواحد" الذي يستطيع النزال. سأجد الأزلية الجديرة بداني". ومضى نحو الباب مترنحاً قليلاً، وأفسح له الناس الخائفون طريقاً واسعة. وانحنى برأسه ليخرج من الباب. بينما ظل الناس واجمين يصغون. سمعوا خارج البيت تحديه المدوي. وسمعوا رجل المنضدة وهي تصفر في الهواء كالشهاب. وسمعوا وقع أقدامه نازلة في الفناء. ثم سمعوا خلف البيت في الوادي استجابة رهيبة للتحدي جعلت أعمدتهم الفقرية تتجمد كما يتجمد النبات تحت الصقيع. وحتى الآن ما زال الناس عندما يتحدثون عن منافس داني يخفضون أصواتهم ويلتفتون حولهم خلسة. لقد سمعوا داني وهو يتقدم للنزال، وسمعوا آخر صيحة تحدٍ حادةٍ صدرت عنه، ثم سمعوا ارتطامه، ثم أعقب الصمت.
انتظر الناس برهةً طويلة كاتمين أنفاسهم كي لا يغطي اندفاع الهواء من رئاتهم على صوت من الأصوات. ولكنهم أصغوا عبثاً. لقد سكن الليل، وكان الفجر الرمادي يتحسس طريقه.
قطع بايلون الصمت فقال: "خطأ ما قد وقع هناك". وكان بايلون أول من اندفع خارجاً من الباب. إنه شجاع لا يلجمه خوف. تبعه الناس. وذهبوا خلف البيت حيث سمعوا دبيب وقع أقدام داني، لكن لم يكن داني هناك. ذهبوا إلى حافة الوادي حيث يوجد طريق متعرج وعر يقود إلى مجرى الماء القديم، الذي لم تعد يتدفق فيه أي جدول منذ أجيال عديدة. ورأى الناس بايلون مسرعاً في أسفل الطريق المتعرج، فتبعوه في بطء. وهناك في قاع الوادي وجدوا بايلون منحنياً على جسد داني المحطم الملتوي على نفسه، لقد سقط من ارتفاع أربعين قدماً".
أما في رواية "بغل المجلي" فيأتي المشهد الختامي على هذا النحو:
(في لحظة ما بدا المجلي وهو يعبر القنطرة كما لو كان رأس قاطرة تجر وراءها مئات العربات الفارغة. هل ينوي المجلي عبور القنطرة إلى الجهة الغربية من النيل حيث الصحراء الموحشة؟! هل هو مأمور في تلك اللحظة بالاندفاع المحموم إلى الأمام. لقد ودع المهرولون جميعهم الخضار والعمران، ولم يبقَ غير مسيرة ثلث الساعة ليجدوا أرجلهم فوق الرمال الناعمة الممتدة إلى بعيد، حيث الصخور والأفاعي والسباع والجبال. هل يتوقفون لحظة ليسألوه أو يسألهم. هل من أحد يتقدمه ليستوقفه؟ ثمة لحظة حرجة، وانقياد جميل بليد، ومهما بدا لاهثاً محموماً. هل يمكن للإنسان أن يندفع إلى مصيرٍ مجهول؟! ثمة ما يمكن أن يسأله المرء لنفسه في تلك اللحظة. إلى أين يقودنا هذا الرجل؟!
فيما بدا أن اللحظة كانت غير ذلك بالنسبة لهم. فلو كان بإمكانهم أن يسألوا أنفسهم لسألوا: من يكون هذا الرجل؟ ثمة جموع حشوية من دماء هجينة لا تألف بعضها، أو ربما لن تأتلف، تنسى الآن تنافرها وهجنتها وحشويتها وهي تنقاد دون أن تسأل: إلام ننقاد؟
هي لحظة مؤسطرة، مشحونة باستلاب الذات. ربما سطوة المجهول، أو ربما هي الأسطورة التي لا تزال تزاحم عقيدة هؤلاء. هي سلطة روحية إذن، وها هم يعبرون القنطرة وراء رجل قيل إنه فوق الدماء، وقيل إنه ليس من دمٍ ولحمٍ بشري! وقيل إنه المؤيد ببغله المعجزة، وقيل إنه ليس كبغال الأرض، وقيل إنه ما مات إلا لكي يحيا، وقيل أن...
توقف المجلي عند منتصف القنطرة تماماً، وكانت تباشير الصباح قد لونت الأفق الممتد، وبدا لهم المجلي وهو يصعد الجانب الأيسر للقنطرة. اعتلاها ووقف متأملاً الجموع المحتشدة الواقفة. كانت صدورهم جميعاً مختنقة من شدة اللهاث، وفيما بدا أنهم كانوا لا يودون غير الجلوس بعد كل هذه المسيرة الطويلة فوق أرض لم تكن ممهودة، ولم تكن مسكونة بغير الظلام والهسيس، وفصوص الطوب، والمطبات والحفر...
طأطأ المجلي رأسه قليلاً نحو الجموع المشدوهة الواقفة. رأوه يرفع ذراعيه عالياً، وقد انتفخت أوداجه، وسحب أنفاساً عميقة، وطار في الهواء.
كان بإمكانه أن يقول شيئاً، لكنه لم يقل. اكتفى بنظرة أخيرة إليهم قبل أن يترك جسده يهوي إلى مياه النيل).(18)
إن الرجلين يختفيان في إطار أحداث تبدو أقرب إلى الأسطورة، يمل "داني" حياة الدعة ويرغب في العودة إلى حياته البرية الأولى، حيث لا قيود ولا ضوابط، فيخرج إلى الأدغال يتبعه أصدقاؤه متحدياً قدره، وهناك يصرخ ويسقط من ارتفاع أربعين قدماً، ويقرر "المجلي" أن ينهي حياته فيقود أتباعه إلى الجهة الغربية من النيل حيث الصحراء الموحشة التي تحتشد بالأفاعي والسباع والصخور والجبال، وهناك يصعد إلى القنطرة القائمة على النيل ويلقي بجسده في أعماق المياه.
وكما انتهت حياة البغل الذي صنع أسطورة "المجلي"، وجعل الناس تلتف حوله، وتؤمن به، يقرر أصحاب "داني" - بعد رحيله- أن يتخلصوا من البيت الذي ورثه عن جده، والذي كان سبباً في التفافهم حوله ومبايعته قائداً لهم، فيقومون بحرقه.
وتجدر الإشارة –أيضاً- إلى تأثر رواية "عبد الجواد خفاجي" في بعض جوانبها الأخرى بالأديب "محمد مستجاب"(1938-2005م) وبالتحديد في روايته "من التاريخ السري لنعمان عبد الحافظ" كتوظيف لغة المفارقة الساخرة Irony، وتجربة كتابة السيرة الروائية في معالجة موضوعية، ورصد عالم الموت والخطيئة، ليلقي كل هذا بظلاله على رواية "عبد الجواد خفاجي".
-4-
وعند معالجتنا للبناء والحبكة في رواية "عبد الجواد خفاجي" سنجدها فى "بغل المجلي" لا تمضى على وتيرة واحدة ولا في اتجاه واحد؛ بل فى اتجاهات متعددة، غير أن المتلقي القارئ عند الانتهاء من قراءة العمل، سيجد أن كل جزء فيها متمم للآخر، وأن الأحداث تعد متماسكة بالرغم من تشظيها.
كذلك فإن لغة السرد في "بغل المجلي" يتم فيها استخدام مستوى أقرب إلى لغة البحث العلمي التاريخي، الذي يعنى بالتثبت من وجود أشخاص في مراحل تاريخية بعينها ويحاول أن يترجم لحيواتهم متتبعاً النشأة، وراصداً دورهم في حركة التاريخ ومجريات الأحداث، ويبدو التناقض بين ما يؤرخ لهم، وهم في الأصل شخصيات هامشية، وبين لغة السرد، التي تحتشد بالمفارقة والسخرية في إطار يبدو جاداً وموضوعياً.
غير أن أهم ما يميز الكاتب إدانته لسلطة المكان الذي يشكل نمطاً من الأنماط الثقافية التي تكرس التخلف، وتدفع إلى ممارسة البطش والقهر، وبالأخص عندما يتم توظيف الدين في ترسيخ هذه الأنماط، لتكتسب شرعيتها، واهتمامه كذلك بالمهمشين في جنوب مصر، واستعراض همومهم وقضاياهم الإنسانية في إطار موضوعي، يكشف عن تغلغل الخرافة والقبح في مجتمعاتهم، وتحكمها في كل مسيرة حيواتهم.
الهوامش:
(1) عبد الجواد خفاجي: بغل المجلي- الهيئة المصرية العامة للكتاب- القاهرة 2007م- ص:61.
(2) السابق- ص:23.
(3) نفسه- ص:23.
(4) نفسه- ص:61.
(5) نفسه- ص:63.
(6) نفسه- ص:24-25.
(7) نفسه- ص:88.
(8) نفسه- ص:91.
(9) نفسه- ص:101.
(10) نفسه- ص:103.
(11) نفسه- ص:100.
(12) نفسه- ص:50.
(13) نفسه- ص:71.
(14) نفسه- ص:71.
(15) نفسه- ص:19.
(16)John Steinbeck:The Short Novels, A Minerva Paperbacks, Random House, U.K Ltd, 1997, pp138-139.
(17) عبد الجواد خفاجي: بغل المجلي- ص:99-101.