القاهرة 14 اغسطس 2018 الساعة 11:26 ص
كتب ـ أحمد مصطفى الغـر
رحل.. وترك زهر اللوز وأثر الفراشة، ترك أشعاره على قلوب وضمائر الدنيا جداريات من حنان ووجدانيات ووطنية، إنه الشاعر الكبير "محمود درويش" الذي تأتي الذكرى العاشرة لرحيله لكن ميراث الأسئلة مازال بلا إجابات، ومازال الحنين لوصاياه الإنسانية لا يهدأ، هو "محمود درويش"، فبحساسيته العالية ومهارته الكبيرة في التصوير وقدرته الفائقة في توظيف الأصيل التراثي بلغة شعرية رائعة، تمكن درويش من الحفاظ على استقلالية الشعر من نير الخطاب السياسي وبالتالي استطاع الحفاظ على نقاوة القصائد، وأصالتها وحريتها، فقصائده أبعد من زهر اللّوز، حروفه تتشمّم منها رائحة أوراق الزّيتون، فهو رمز لجمالية شعرية تعتمد على بلاغة الصورة الشعرية التي لم يأت بها أحد من قبل، أثر درويش لن يقبل الغياب، فدرويش لم يدخل مسابقة أمير الشعراء أو غيرها من برامج ومهرجات الشعر ليحصل على لقب، لقد نجح من خلال شعره فقط أن يرسخ اسمه في ذهن المتلقي، فصنع من نفسه قامة تأبى النسيان. قال متحدثاً عنهما صديقه الراحل سميح القاسم: "أننا كبرنا بشكل غير لائق على الإطلاق، ومازالت في أرواحنا كلمات لم نصنع فضائها بعد".
على نحو مفاجيء اختفى من الحياة محمود درويش، ففقدت الثقافة العربية مشروعا شعريا كبيراً، وفقد الشعر شاعراً فذا وشخصية كارزمية تمكنت من النضال السياسي بالشعر الجميل، وفقدت القضية الفلسطينية أيقونة مهمة في تاريخها الطويل، هو المقاوِم الباقي حضوره في القصيد والإحساس والهويّة، لا يرهب المواجهة مع نفسه ومع الشعر أبداً، لا يحبّ أن يساومه التراث ولا الحداثة ولا ما بعدها في تجاربه الشعرية، شغل درويش منصب رئيس رابطة الكتاب والصحفيين الفلسطينيين وحرر مجلة الكرمل، وكان رئيساً للتحرير في مجلة شؤون فلسطينية، ومديراً لمركز أبحاث منظمة التحرير الفلسطينية، أقام في بيروت لفترة من العمر، لكن الحرب الأهلية اللبنانية التي اندلعت بين عام 1975م، أجبرته على ترك بيروت عام 1982م، أصبح درويش منفيًا تائهًا بين سوريا وقبرص ومصر وتونس وفرنسا، بحلول العام 1977م كانت نسبة مبيعات دواوينه العربية أكثر من مليون نسخة.
لا يمكن نسيان دور الشاعر والفيلسوف اللبناني "روبير غانم"، فهو واحد من أهم من ساهموا في اكتشاف درويش، حيث كان عندما بدأ في نشر قصائد لدرويش على صفحات الملحق الثقافي لجريدة الأنوار التي كان غانم يرأس تحريرها، كما ساعدته صداقاته بالعديد من الشعراء منهم الفيتوري من السودان، ونزار قباني وسليم بركات من سوريا، وفالح الحجية ورعد بندر من العراق، وغيرهم من أفذاذ الأدب في الوطن العربي.
كان درويش ـ وما زال ـ ملء السمع والبصر في المشهد الثقافي العربي عامةً، والفلسطيني خاصةً، فقد أعطى نكهة مميزة لشعر التحرر الوطني والنضال الملحمي في تقليده العربي المعتاد، حيث أخرج الشعر بعد الهزيمة المريرة مباشرة من التردد والخطابية الصارخة إلى سلاح رمزي لمجابهة الإستيطان الإسرائيلي، متجاوزاً نمطية البكائيات والندب السائدة بعد انهيار جيوش العرب، الشاعر "سعدي يوسف" قال يوما عن أهمية شعر درويش في ميدان الحرف والقصيدة: "إن درويش وزملائه من شعراء الأراضي المحتلة الأخرى تتمثل أهميتهم في لعب الدور الإيجابي في الستينيات من القرن العشرين في حسم المعركة الدائرة بين أنصار الشعر التقليدي العمودي، وبين أنصار شعر التفعيلة الذي كان ينظر إليه منذ نشأته عربيا بأنه حالة ارتداد عن قواعد التراث الشعري العربي، وهكذا فإن ارتباط شعر درويش وزملائه بقضية التحرر الوطني الفلسطيني, بالإضافة إلى توفر هذا الشعر على جماليات الشكل والمعنى, قد ساعد على قبول النقاد التقليديين بشعر التفعيلة ككل، أكثر مما كان الوضع عليه قبل بروز ظاهرة شعراء الأراضي المحتلة".
رموز عربية عديدة ساهمت في خلق وتطوير القصيدة العربية المعاصرة من السياب إلى أدونيس مرورا بنزار قباني والبياتي وغيرهما، لكن وبالرغم من كل ذلك فقد ظلت القصيدة الجديدة تعمل باستمرار على انتزاع شرعيها الشعبية والواسعة خارج المؤسسات الأكاديمية المتخصصة بصعوبة بالغة، وقد ساهم درويش بصورة متميزة في تحرير القصيدة العربية من انغلاقها ومحليتها ونموذجيتها، وقد خدمته القضية الفلسطينية إلى حد كبير، وجعلت منه شاعراً عالمياً، وفي المقابل فإن درويش خدم القضية أيضا من خلال شعره، بل إنه قد خصص معظم أشعاره لها، فقد أشعل درويش قناديل الأمل في ليل الثقافة العربية المترنحة تحت عاصفة الفاجعة والاحتلال، نتذكره اليوم، وكل سنة، نقرأ شعره، في محاولة للعودة إليه مجدداً من خلال كتبه المرصوفة على رفوف مكتباتنا في البيت، في ذاكرتنا يعلق وصيته: "وأنت تعدّ فطوركَ، فكّرْ بغيرك، لا تنس قوتَ الحمامْ..."، غاب درويش قبل عشرة أعوام ليحضر فينا، ويزداد حضور شعره أكثر وأكثف وأعمق.