القاهرة 14 اغسطس 2018 الساعة 11:05 ص
محمد غباشي
هي صورة من الميثولوجيا الشعبية المتوارثة في ريفنا المصري وما يقابلها في أماكن أخري تتمثل في صورة المرأة الجميلة التي تقوم بالنداء على شباب القرية ورجالها حين ينفردون بالعتمة أو بالأماكن البعيدة فيلبوا ندائها ويتبعوها؛ حتى تنال منهم وترميهم جثة هامدة.
وهذا بالضبط ما قامت عليه قصه الفيلم التي كتبها الأديب يوسف إدريس ضمن ثلاثية تحمل نفس الاسم وأخرجها المخرج الراحل حسين كمال, فبطلة الحكاية فتحية ( ماجدة ) والتي تحلم دوما بالذهاب لمصر ( النداهة )- مصر هي القاهره حسب تعريف أغلب المقيميين خارجها - والتي تراها في خيالها جنة الله على الأرض ويربطها بها القطار الذي يمر ببلدتها الصغيرة والذي يمثل لها الحصان المجنح في الأساطير, والتي تحلم أن يأخذها بعيدا عن عالمها وواقعها المتمثل في القرية الصغيرة التي تعيش فيها.
أما حكايات بنت خالتها العائدة من القاهرة في أولى مشاهد الفيلم على متن حصانها المجنح فكانت المادة التي نسجت فيها خيالها نحو مدينة الأضواء الساحرة التي تخطف أبصار الفقراء وأحلامهم بل وتشدهم إليها ببعض النعم المادية الملونة
(شيء من بعيد نادالي
وأول ماندالي ...جرى لي ما جرى لي
وموش بإيدي يابا.... )
وهذا ما دفع بالمخرج (حسين كمال ) أن يرافق أحداث الفيلم بهذه الكلمات التي سطرها (مرسي جميل عزيز ) ولحنها ( محمد الموجي ) وشدت بها الرائعة (ليلي جمال ) صوتا وأداءً ترافقا والحكاية المطروحة في الفيلم ...
الكثير من الحكايات التي عاشتها فتحية تمهيدا لتحقيق حلمها الكبير بالذهاب إلى مصر والعيش فيها, حتى وإن كان يراودها في وسط حلمها كابوس بشع, يعرضها لحالات اغتصاب متكررة من شخص لا تعرفه, لكنها تنساه في أغلب الأحيان لتعيش حلمها الذي دافعت عنه بعد جملة فاطمة (سلوى محمود ), العائدة من مصر بعد رحلة جميلة, لكنها كأغلب حكايات الغربة للبسطاء انتهت بمأساة حزينة, خيم عليها الألم والبغض للمكان الذي مدحته كثيرا في العلن, لكنها قد اختصرته بجملة :
( مصر بحر يا فتحية ..أوعي تغرقي فيه زي أنا ماغرقت ... حترجعي ندمانة زي ما أنا ندمت )
(لا ..لا .. ماتقوليش كده على مصر )
تلك الجملة التي رددتها فتحية دفاعا عن مصر أو بالأحرى دفاعا عن حلمها الذي تراه يتحقق هناك.
ترددت فتحية مطولا أمام عرض الزواج الذي قدمه لها (جابر ) خفير القرية (حسين الشربيني ) مشفوعا ببضعة قراريط من الأرض, وبين بواب العمارة (حامد ) الذي يعيش بالقاهرة (شكري سرحان), العائد إلى القرية باحثا عن عروس بعد وفاة زوجته والمعجب بجمال الصبية فتحية بل وانبهر بها.
لم يمهلنا الكاتب (يوسف إدريس ) ولا السيناريست (عاصم توفيق ومصطفى كمال ) لم يمهلانا طويلا لنعرف نتيجة الاختيار, بعد أن أخذت الظروف والمبررات طريقها لصالح (حامد البواب ) بعد أن زاد شرود فتحية, وانحيازها لحلمها في انتظار القطار الأمل الذي سيأخذها بعيدا عن هذه القرية, التي اتهمها أهلها بالجنون وبأن النداهة قد أعملت سحرها فيها, وأخذتها بعيدا عن واقعها
( مش فتحيه ندهتها النداهة )
قبل حامد بهذه الشائعات بل تهكم على ترهاتهم فهم لايعلمون ولا يفكرون مثله فهو يعيش بالقاهرة الساحرة, وعليه فقد تمت الموافقة والزواج بسرعة منظورة حتى يتمكن العريس من العودة لعمله الذي ينتظره هناك.
ونتوقف هنا قليلا لنقول أنها المرحلة الأولى أو الجزء الأول من الفيلم وأحداثه, التي مهدت لنا المرحلة الثانية والأهم في الأحداث التالية, والتي تبدأ بوصول فتحية وزوجها إلى القاهرة واندهاشاتها الأولى المعبرة عن حبها للمكان الذي كانت تحلم به, ليتأكد لديها أنها قاربت حلمها الأوحد لتعيش فيه, بما فيه من متناقضات لم تعهدها من قبل, فها هي غرفة البواب عالمها الأول بكل ما فيه من اتساع يحده الباب من جهة, والنافذة الوحيدة من جهة أخرى, والبراح المشفوع بالكهرباء التي تبدأ معها رحلتها الأولى في إنارة الغرفة, لينفرج الباب رويدا رويدا لكي تبدأ رحلة الخروج إلى العالم الأرحب, وهو عالم العمارة التي يتولي خدمتها زوجها حامد بسكانها وطلباتهم التي لا تنتهي, حتى ينفرج باب غرفة البواب ليدلها على سكان العمارة باختلاف أشكالهم وأنماطهم, والأهم فيهم هو الجار الوسيم المهندس ( إيهاب نافع ) الذي أتى بالعلم والتكنولوجيا من الغرب ووضعها في شقته, التي يتحكم بكل ما فيها بواسطة التكنولوجيا الغربية الحديثة وقتها عام 1970.
( ناداني من يميني ولسه بيناديني وقاللي حصليني على بلد العجايب ... ناداني من شمالي قال يا ام مهر غالي .. تعالي قوام تعالي خدي من الحب نايب ...)
كانت تركيبة سكان العمارة في ذاك الوقت خليط اجتماعي مختلف في قلب القاهرة, فهناك الشقة التي تقطنها المعلمة, أو نينة التي تنحدر أصولها أيضا من الريف ( نعيمة الصغير ) والتي تقوم بتعليم الصنعة للراقصة الشابة إلهام ( سهير الباروني ) يساعدها في ذلك الواد خوخة (سيف الله مختار ) بخفه ظله المعهودة, وهناك شقة الأستاذ أحمد ( طنطاوي ), والست علية (منى جبر ) والتي أحبت فتحية وعرضت عليها العمل لساعات معدودة في شقتها, وبدأت بتعليمها القراءة والكتابة بعد أن لمست حبها للتعلم ومحاوله تغيير حياتها للأفضل.
أما شقه مهندس الإلكترونيات علاء ( إيهاب نافع ) فكانت هي محور الحدث الأهم في الفيلم, فالمهندس الوسيم الذي أعجب بفتحية منذ شاهدها عند لحظه وصولها من قريتها, لم يستطع نسيانها رغم حياته الحافله بالنساء اللواتي انبهرن بالتكنولوجيا الموجوده ببيته, ومع ذلك فقد سيطرت عليه رغبة التملك لتلك القروية البسيطة التي يفوح منها عبق الصدق والبراءة, فيقدم لها الإغراءات تباعا, حتي يتحين فرصة عدم وجود الزوج, فيستدرجها ويقوم باغتصابها في لحظة وصول الزوج حامد, ليقف مدهوشا مصدوما مهزوما أمام المشهد.
في المشهد الأخير للفيلم يصطحب حامد زوجته فتحية ليعيدها إلى قريتها وأهلها موسومة بالعار إلى الأبد, لكن فتحية تقرر أن تهرب منه ومن قريتها ومن حلمها إلى شوارع وطرقات القاهرة بعد أن ندهتها النداهة
( وآه من الليالي ومن حكم الليالي )
عندما نبدأ بتحليل الفيلم سنجد مشاهده المرسومة بعناية فائقة قد اتحدت مع الأغنية التي صاحبت الأحداث, مشفوعة بأماكن التصوير المحددة والمختارة بعناية, مع تركيبة الملابس وألوانها التي تتوافق وشخصيات الفيلم بالموسيقي التصويرية المناسبة جدا لحالة التمثيل الواعية عند الفنانة ماجدة, ولا نغالي إذا قلنا أنه من أفضل أدوارها, بالإضافة إلى الفنان شكري سرحان الذي أدى دوره بمهارة وخبرة ملحوظة, وكذا بقية الممثلين المشاركين, كل حسب دوره, أما اختيار النجم إيهاب نافع بأداءه البلاستيكي ربما كان مقصودا أو لحسابات إنتاجيه معينة كونه زوج البطلة ومنتجة الفيلم.
وتجدر الإشارة هنا لاختيار الفنانة المنتجة ماجدة لموضوع الفيلم, الذي قام على أحداث قد أفرزت التباين بين التكنولوجيا الحديثة, بكل مقوماتها والتي قامت باغتيال البراءة الإنسانية الصادقة, هذا من ناحية, ومن ناحية أخرى فالمدن الكبرى أو العواصم الموغلة في الوحشية الرأسمالية قد تكون فخا ناعما جاذبا للبسطاء, ببريقها الأخاذ دون معرفة الحقيقة, فهم بعيدين عن فك شفرتها حتى يدفعوا الثمن.
استطاع المخرج تحريك ممثليه بحركة واعية رصدتها كاميرا العبقري عبد الحليم نصر, وجاءت المونتيرة رشيدة عبد السلام لتكمل اللوحات التشكيلية التي شاهدناها بشكل تتابعي خلال عرض الفيلم, بداية من قطار فتحية المجنح في قريتها, وانتهاءا بمحطة قطارات محطه مصر مسرح الأحداث.
وعليه فهي مشاهدة ممتعة لفيلم استطاع أن يثير فينا تساؤلات عدة تبدأ وتنتهي عند الشخصيات التي قدمت الحالات النفسية المختلفة والنماذج الاجتماعية المرصودة في ذاك الوقت, وعلى رأسهم فتحيى التي ندهتها النداهة.
بيانات الفيلم :
فيلم مصري : إنتاج ماجدة - 1975
التأليف : يوسف إدريس
السيناريو والحوار: عاصم توفيق – مصطفى كمال
التمثيل : ماجدة – شكري سرحان – إيهاب نافع – نعيمة الصغير- سلوى محمود - سهير الباروني – حسين الشربيني وضيوف الشرف – شويكار – ميرفت أمين ومنى جبر وغيرهم
الموسيقي التصويرية : إبراهيم حجاج
غناء : ليلى جمال
كلمات أغنية الفيلم المرافقة : مرسي جميل عزيز
اللحن : محمد الموجي
التصوير :عبد الحليم نصر - مصطفى فهمي
مونتاج: رشيدة عبد السلام
الإخراج : حسين كمال