القاهرة 10 اغسطس 2018 الساعة 05:57 م
د. سعاد مسكين ـ المغرب
تروم هذه الدراسة النقدية إلى مقاربة المشغل السردي لدى القاص عبد الله المتقي بغاية معرفة الأنساق التخييلية واللغوية والمرجعية التي حكمت تجربته السردية على اعتبار أن ما راكمته تجربته من منجز يستحق الالتفاتة من أجل استنطاق خصائص الكتابة لديه، والتعرف على الميكانيزمات التقنية والحكائية التي عمد إليها من أجل تشكيل عوالمه القصصية.
وعليه كان لا بد من الوقوف عند المحاور الخمسة الآتية:
- شهرزاد لم تمت.
- الطفولة
- الجنون
- ماء الكتابة
- الوعي بالكتابة
1- شهرزاد لم تمت: تمثل الدادة "الجدة" مفتاح الحكي عند القاص عبد الله المتقي، معينه الذي لا ينضب من الحكايات: حكايات الغول، وهينة، واحديدان، الفقيه الذي مسخ لقلاقا، يرد على لسان السارد في قصة رقية لفقيه: "يجن الليل ونتكوّر جوار جدتي، مثل كتلة لحم واحدة، وحين تنام أختي، تمنحني جدتي مفتاح ذاكرتها اللذيذة... أرى هنيّة تتوسل الغول فوق سرير من قصب، وأبكي من الضحك لشغب احديدان. ماتت جدتي...ضاع المفتاح"(1).
تمثل الجدّة الإرث الثقافي والاجتماعي الذي سيطاله النسيان إن لم تحفر الذاكرة في أتونه كي تستخلص منه عبق التاريخ البدائي البسيط والحالم، وتستولد منه زاد الحكايات المنسية لأجل انبعاثها من جديد، يقول السارد على لسان الجدة في قصة حنين: " أنا متحف منسي... ذاكرة منسية... حزمة حكايا سرية... لذلك تهشمت كما كأس حياتي وبقيت الشظايا هنا وهناك... مهملة... حلقات مفقودة... وتعفنت مثلما جثت ضحايا الحرب"(2).
هكذا إذن لم يدرك شهرزاد الصباح، بل ظلت قصصها تحكى على لسان شهريار (السارد)، حكي من الدرجة الثانية، يستحضر صور الحكاءة (الجدة) كما علقت بمتخيل السارد الطفولي. وبذلك استطاع القاص عبد الله المتقي أن يتشبت بمحراب الحكاية عبر حفاظه على الطابع السردي الحكائي، ومحاولة تكييف الذاكرة الحكائية مع سرد تجريبي حديث يعرض لتجارب إنسانية راهنة ويعريها باستخدام إرث تراثي يعكس الوجدان الجماعي الذي يسعى إلى اقتناص لحظات صافية ونقية. يقول السارد في قصة play : "تمة جدة في زاوية معتمة، تفرك حكاياتها بالتيد والصابون حتى لا تتعفن" (3).
2- الطفولة: يحفر القاص في تجاعيد الذاكرة ليتوقف بشكل مستفيض عند مرحلة الطفولة باعتبارها مرحلة" البكارة، ومتعة الاستكشاف وإضفاء الألوان الزاهية على زمن يبدو مكتفيا بذاته" (4). زمن تتعالى عليه ذات القاص باستخدام صورة الطفل بنسقيها الواقعي والمؤمثل كي تستطيع تصريف الرغبات الداخلية واللاشعورية ضدا على القيم الثابتة، ونكاية بعالم "التعقل"، جاء في قصة لوحة:
" أختي ترسم بالفحم طفلا على الرصيف، وتنام فوقه...
يقبلها الطفل بشفتين مرتعشتين
تفرح وتتلذذ كثيرا في الخيال
وتنتهي الحكاية هكذا:
تصفع أمي وجهها
تصرخ
تضرب فخذيها
وتنزع أختي من ضفائرها بقسوة. (5).
تلتقي لغة الطفولة مع لغة الحلم بما تمثله من رؤيا خارج مجال الصحو المألوف، لكونها استجابة للرغبات الظاهرة والمستبطنة لثنايا اللاشعور.
في محطات أخرى يُحوّل القاص صورة الطفل إلى علامة تمرر صوتًا إيديولوجيًا ينتقد المنظومات السياسية والمؤسسات المجتمعية (6)، أو يمثل وعيًا فكريًا يطرح قضايا الوجود، وقلق الحياة(7)، أو صوتًا سرديًا يسخر من الواقع المكبل بالقوانين والعادات(8).
إن اهتمام القاص بالطفل وتطفيل السرد في قصصه يمنحه فرصة إعادة ربط الصلة بالحياة عبر الدخول العميق إلى الذات بحثًا عن الجميل والمفرح، واستقصاءً للمعنى في هذه الحياة العبثية.
3- الجنون: إنه ضرب من الجنون حينما تجسد الكتابة فعل الوجود ضد العدم، وفي الآن نفسه، تمثل الغياب عبر استحضار الموت الإكراهي، ولا غرابة من احتفاء الكاتب بالموت في أعماله الثلاثة(9) لأن معظم شخوص قصصه ترى في الكتابة خلاصا يخرجها من آلام الدنيا التي تحس فيها باندثار الذات، وغياب قيمة الإنسان بسبب التجاهل والنسيان، أو بسبب الدمار والحروب.
لقد عمد القاص في تمثيله لصور انكسار الإنسان إلى توظيف رؤية خاصة يمكن أن نسميها" رؤية الانتهاك" باعتبارها من جهة تخترق الحياة، وتقر بأن الموت بقاء من نوع آخر، ومن جهة أخرى تخترق الحكي الذي شكل لحظة تكوينية للإلغاء، إلغاء القوالب الجاهزة، و اللغة الثابتة، وخلق عالم مغاير، يخضع للعب اللغوي، والدلالة المستترة، والجنون في الكتابة.
يشترك الجنون والكتابة في قدرتهما على التعبير بحرية عما هو قائم بعيدا عن قيود الإيديولوجية والمؤسسات باعتماد طرائق مختلفة في اللغة والتخييل، تُمكِّن الأثر الأدبي من أن يجسد "عالم "اللاعقل" المحدِّد لمنطقة من عدم انتظام السلوك أو عدم التكيف مع قيم العائلة أو الدين أو المدينة البورجوازية"(10)، فلنتأمل قصة لوحة التي جاء ذكرها في محور الحديث عن الطفولة(11) إذ يتجسد الجنون فيها عبر استخدام تشكلات لغوية تفجر تصورات غير حقيقية، تعكس تناثر التمثلات الذهنية بين مختلف شخصيات القصة، لا نملك تجاهها أي مبرر منطقي بين الأفعال وردود الأفعال، لكن يظل الناظم المعقلَن يتمثل في تجسيد الانكسار النفسي، والعنف الجسدي، وأفول الأحلام التي تبنيها الذات وهي في لحظة توحد مع نفسها، أو مع الصور الاستيهامية التي تتخيلها.
هكذا إذن يتلاقى الجنون مع الكتابة في تجربة اللغة، والاشتغال التخييلي، ويدفعان المنتَج الأدبي والقصصي إلى أن يخلق لنفسه قواعد خاصة، تنتهك التعقل الواقعي، كما تنتهك حتى طرق الكتابة ذاتها، بغرض الانتصار لقيم التغيير والتطور الإبداعي.
4- ماء الكتابة: لقد نزح القاص من غواية الشعر، وفتنة الصورة الشعرية الإيحائية مما أثر على ماء الكتابة لديه، ماء ملون بألوان زاهية، كلون الفراشات الجميلة. لذلك يحتفي القاص بلغتين: اللغة الشعرية، ولغة الألوان.
1-4- اللغة الشعرية: تعددت الوسائل الفنية التي استخدمها القاص قصد تشييد لغته الشعرية بدءا بالتكرار اللغوي، وإسقاط أدوات الربط، مرورا بالانزياحات الأسلوبية، والوصف المكثف. أساليب تحقق انتهاك جسد النص عبر تقابل عالمين عالم واقعي مرفوض، وعالم آخر يستعاد تشكيله عبر الكتابة، وفي إعادة التشكيل توظيف لغة عابثة قوامها اللعب اللغوي، والتورية البلاغية، نمثل لذلك بقصة (كرز) إذ في بداية القصة يحيل على الفاكهة الشهية واللذيذة، وفي نهايتها يفارق إحالته ويصبح معادلا موضوعيا للجسد:
أنا أحب الكرز... أنا أتلمظ الكرز
وكانت طامو تحكي لي كثيرا عن الكرز
حتى صرت أراها كرزا
لذيذة وطرية
في عينها كرز
في فمها كرز
فوق نهديها كرز... وأحيانا أذوق الكرز (12).
بقدر ما يمثل التكرار ظاهرة بلاغية تفيد تثبيت المعنى، وتأكيد الفكرة، فإنه في الآن نفسه يخضع القصة لإيقاع شعري خاص، إيقاع صوري، يفرض استكناه معانيه تأملا ذهنيا يحتكم إلى إيقاع داخلي، إيقاع نفسي أكثر منه موسيقي، لنطلع على قصة رجل خارج جلده، وهي تصور حالة الرجل المتقاعد الذي تآكل زمنه بسبب توقف عقارب الزمن لديه، فيتباطأ السرد بعرض متواليات تصب مجملها في رحيل عمر الكائنات:
في البلكون
هبت ريح الشمال
ثم أمطرت برقا
رعدا
ماء
خوفا
وأطل الرجل المتقاعد من الشباك
رحل الأطفال
رحلت الشمس
رحلت العصافير
رحلت المبادئ
كل شيء قابل للرحيل تحت الشباك
فقط،
عربة تخترق الشارع الفارغ
وثمة قمامة نسيها الزبال
وعينين صامتتين في الشباك (13).
تدعونا المؤشرات النصية لهذا المقطع أن نرى التأثير الجلي للقصيدة على الكتابة السردية لدى القاص، إذ يؤثر التعبير بالصورة عن التعبير بالحدث، فينحو إلى استثمار كل المستويات اللغوية لينفخ فيها روح التصوير والكثافة والترميز ابتداء من الصوت المنغم إلى التكوين الكلي للنص، وإن كنا لا نعلم إلى أي حد يخدم المنحى الشعري القصة المغربية الحديثة؟
2-4- لغة الألوان: لا يخلو عمل القاص من استخدام الألوان أثناء إضفائه النعوت والأوصاف على الموجودات والشخصيات، وإذا ما قمنا بجرد للألوان التي استخدمها القاص، نجد:
السلسلة اللالونية: الأسود، الرمادي، الأبيض.
الألوان الأساسية: الأحمر/الأصفر/ الأخضر/ الأزرق
ظلال الألوان: البنفسجي، البني، الكاكي، قوس قزح.
تشتغل هذه الألوان داخل أبعاد دلالية ذات أنماط متباينة:
- النمط الترابطي: يتم عبر إدراك دلالة اللون ومعناه في اتساق مع الفكرة أو الصورة التي يود القاص أن يعبر عنها، فالسواد عنده يرتبط بالغياب والموت، والأصفر دليل على تأمل لحظات الشيخوخة والبرودة، ويعبر الأبيض عن فكرة النقاء والصفاء.
- النمط النفسي: نمط يحدد دلالة الألوان في علاقتها بالأحاسيس الداخلية والذاتية، فغالبا ما يرتبط اللون الأحمر بالسعادة، والفرح، ولحظة الانتشاء واللذة، لذلك يعدو لونا شبقيا مرتبطا بالحياة والقوة.
النمط الوصفي: يشكل فيه اللون دالا، يعين صفات الأشياء والموجودات، فاقترن اللون الأخضر لدى القاص بالكيف،السجارة، المونتانا لإبراز ما تشكله هذه المنبهات من قدرة على الابتهاج، وقوة التفكير، وحدة البصر.أما اللون الرمادي، فألصق بحاملين هما: القطة والقبعة لأداء دلالة التخويف من انقضاء العمر، ودنو الآجال.
لا يمكن إفراغ تعدد الألوان من محتوى تكريس ثقافة الاختلاف في المخيال القصصي، فالحياة لا يمكنها أن تكون لونا واحدا، ولا يمكن أن يكون المبدع صورة طبق الأصل لمبدع آخر، ولعل هذا ما تؤكده قصة اختلاف:
في دكان بائع الطيور
كان المنظر كحديقة أندلسية،
وكان صوت الطيور صاخبا ومتلاطما
هي: علام تتشاجر الطيور؟
هو: بل علام تتفق؟(14).
5- الوعي بالكتابة: لا تحتوي القصص ذات النفس القصير جدا عند عبد الله المتقي على بيان أو خطاب مقدماتي يكشف عن تصوره للقصة القصيرة جدا كما وجدناه عند حسن البقالي(15)، وأنيس الرافعي، (16) وإسماعيل البويحياوي(17)، وعمر العلوي ناسنا(18)، إلا أن مجموعته الأخيرة الأرامل لا تتشابه تُوطأ بمدخل تصوري حول القصة المغربية الجديدة، والتغيرات التي عرفتها بدءا من مرحلة السبعينيات إلى الآن، ويتضمن دعوة صريحة إلى ضرورة اختلاف تجارب الكتابة بين المبدعين إذ يقول: "لندع الناس تكتب، تغامر، تشاغب، تفتض بكارة الأشكال الراسخة، فلكل كاتب الحق أن يخلق ما يستطيع من الأشكال التي لا توجد في الأدب"، لكن دون غرور، وكتابة النصوص الوحيدة في العالم 19).
يدعونا هذا التصريح إلى السؤال: ما الذي يضيفه القاص عبد الله المتقي للقصة القصيرة الجديدة من خلال عمله القصصي الأخير الأرامل لا تتشابه؟
إن مقارنة بسيطة بين منجزي القاص: القصصي القصير جدا والقصير فقط تجعلنا نبني الاستنتاجات الآتية:
- حافظ المنجز القصير جدا على حكائيته أكثر من منجزه القصير الذي جاء مفعما بالشعرية والشعرنة.
- احتفاء السرد القصير جدا بالحدث في حين أن القصة في المجموعة الأخيرة ابتلعت لسانها واحتفت بالصورة لأنها انبنت على المرايا المتشذرة من الذاكرة، فكان الحكي عبارة عن صور، وأحلام، وشذرات مشهدية.
- ارتباط القص القصير جدا بالواقع، في حين أن الأرامل لا تتشابه سبحت في متاهات الخيال، والأحلام، والغرائبية.
وختاما، ننهي بقول على قول: يؤكد الكاتب في مقدمة عمله القصصي الأخير الأرامل لا تتشابه أن للقصة القصيرة الحديثة أزمنة متعددة: زمن النصوص التي تمارس الاحتيال على القارئ.
زمن النصوص التي تكافح لتصل إلى لغة اللؤلؤ التي تترك لدغة جمالية في الروح.
زمن النصوص التي تلعب وتشاغب بين البراكين، تغمس أصابعها في النار كما بروميتيوس والقديسين، نكاية في الظلام.
زمن الكتابة العجيبة التي تقلق وتستفز وتخادع وتتثير الضحك.
غفل الكاتب عن ذكر زمن آخر في القراءة، زمن يبحث عن الأثر الفني الذي يرسخ في أذهاننا إما لفرادة الحدث، أو للعمق الإنساني الذي يحتفي به العمل، فكم من قصص قرأناها واعتلاها النسيان، وأخرى ظلت خالدة في الذاكرة والوجدان، حتما كلنا نتذكر خيرون بطل قصة تقليدية لأمين الخمليشي، ومؤؤؤثى لبوزفور، هي نصوص تجريبية وحداثية، حتما ليست النصوص الوحيدة في العالم ولكنها نصوص- ونظيرها قليل- توحدنا مع عالم القصة المغربية. نريد أن تكون علاقتنا بالقصة المغربية مثل قصة الرجل والقطة أقصد الرجل والقصة ذاك الرجل الذي أحس بالوحدة الموحشة في أيام باردة فلم يجد سوى القطة/ القصة تؤنس كيانه الوحيد. هي ذي القصة/القطة التي نبحث عنها، وسنظل نبحث عنها باستمرار.
===
هوامش
1- عبد الله المتقي، الكرسي الأزرق، منشورات مجموعة البحث في القصة القصيرة، كلية الآداب بنمسيك، الدار البيضاء، ط:1، 2005،(ص:17).
2- عبد الله المتقي، الأرامل لا تتشابه، منشورات وزارة الثقافة، الرباط، ط:1، 2013،(ص:43).
3- عبد الله المتقي، قليل من الملائكة، التنوخي، الرباط، ط:1، 2009، (ص:38).
4- محمد برادة، لغة الطفولة والحلم، (ص:31).
5- قليل من الملائكة، (ص:55).
6- الكرسي الأزرق: قصة مساء، قصة مساء العيد، قصة منصور.
7- قليل من الملائكة، ماء الفلسفة.
8- الأرامل لا تتشابه، قصة جغرافيا، لصوص.
9- الكرسي الأزرق، قليل من الملائكة، الأرامل لا تتشابه.
10- فريديريك غرو، ميشال فوكو، ترجمة: محمد وطفه، المؤسسات الجامعية للدراسات والترجمة، بيروت، ط:1، 2008،(ص:25).
11- قليل من الملائكة، لوحة، (ص:55).
12- الكرسي الأزرق، كرز،(ص:84).
13- الأرامل لا تتشابه، رجل خارج جلده، (ص:25/53).
14- قليل من الملائكة، قصة اختلاف،(ص:45).
15- حسن البقالي، الرقص تحت المطر، منشورات سندباد للنشر، القاهرة، ط:1، 2009.
16- أنيس الرافعي،ثقل الفراشة فوق سطح الجرس، قصص مينمالية، دار التوحيدي للنشر، الرباط، "ط: 1،2008.
17- إسماعيل البويحياوي،طوفان، منشورات سندباد للنشر، القاهرة، ط:1، 2009.
18- عمر العلوي نانسا، خبز الله، منشورات من المحيط إلى الخليج،ط:1، 2010.
19- الأرامل لا تتشابه، (ص:10).