القاهرة 07 اغسطس 2018 الساعة 10:40 ص
د. هـناء زيادة
مؤخراً شهدت مدينة ماكاو الصينية افتتاح فندق جديد من تصميم المصممة المعمارية الراحلة "زها حديد"، لم تتمكن "زها" من رؤية مشروعها الخيالي يتم إنجازه وتحقيقه على أرض الواقع، فقد غادرت دنيانا قبل ان تراه حقيقةً، خاصةً وأن هذا المشروع كان قد وُصِفَ سابقا لدى إطلاقه بأنه "مشروع مجنون"، وقد حمل اسم "مورفيوس"، وهو يتألف من بنى فولاذية ذات تصاميم استشرافية تميزت بها زها حديد، ويضم المشروع إضافة إلى الفندق الرئيسي، مجموعة مطاعم ومتاجر وغيرها من المنشآت الفارهة، بتكلفة إجمالية بلغت 1,1 مليار دولار.
هذا المشروع الجديد الذي رأى النور بعد أن كان يُظن أنه من المستحيل تنفيذه، قد صُمّمَ ليكون أشبه بـ"قفزة في الفراغ"، كما أن خطوط الفولاذ الخارجية تدعم المبنى بما يسمح بكسب مساحة في الداخل مع تقليل عدد أعمدة الدعم اللازمة، وهى أمور كانت تزيد من تعقيداته وتصعب تنفيذه على أرض الواقع, فأعمال المعمارية البريطانية الجنسية والعراقية المولد "زها حديد" هى أقرب إلى قطع فنية، صممتها فنانة مرهفة الحس، وقد أثّر عملها على مدن العالم، وقد صُدم الجميع بوفاتها المفاجئة العام الماضي، ولكن تأثير أعمالها على المجتمع سيبقى واضحاً لأعوام؛ حيث كانت تطلق العنان لخيالها أثناء إنجازها لتصاميمها دون تغييب الصرامة العلمية، كما تحمل عنصر المفاجأة فتنزاح عن المعتاد والمتعارف عليه في مجال المعمار، فالصروح المعمارية التي أنجزتها برؤية فنية متكاملة مكنتها من أن تصبح جزءاً من الحضارة والتاريخ الإنسانيين.
لقد تأثرت "زها" منذ نعومة أظفارها بالجمال الذي شحذ لديها الميل للـهندسة المعمارية، ونظرا لشغف والديها بهذا الفن، فقد كانا يلفتان انتباهها لأعمال الكبار ويصطحبانها إلى المعارض الضخمة، فتأثرت وهى لاتزال طفلة بـ"فرانك لويد رايت"، وبهرتها الأشكال والأشياء التى تشاهدها وتنطبع فى ذاكرتها، لذا فإن أهم ما يميز تصميماتها لاحقا هو أنها تحتوي على خصوصية عمرانية في طابعها المستقبلي، فتصميماتها تحمل اتجاهات فنية وفلسفية فذة.
هذه التصاميم وبحسب تعبير "زها" عنها أنها "تتفاعل مع المدينة وتمنح الناس مكاناً يتواصلون فيه، فالذين يتابعون أعمالي يعرفون أن خلق أماكن عامة يمكن للناس استعمالها بحرية، كما تسمح للمدينة بأن تنساب بطريقة سلسة وسهلة"، ولمنح البناء قيمة تعبيرية خاصة، قامت في بعض الأحيان باستعارة مفردات وأشكال تراثية لتوظيفها في هذا النوع من العمران، كما أن التفكيكية كانت واضحة جدا في هذا العالم الخيالي الذي تدور فيه تلك التصاميم، حيث تبدو الأبنية وكأنها فُككت وأعيد جمعها لتسبح في الفضاء متحدية قانون الجاذبية.
قبل أشهر قليلة من وفاتها حصلت على جائزة أفضل تصميم لإنجازها تصميم مركز حيدر علييف فى باكو، أذربيجان، وكانت أيضا أول امرأة تحصل على الجائزة الأولى فى المنافسة، وعقب حصولها على الجائزة، قالت في أول تعليقاتها: "خبر سعيد، فالأمور هذا الصيف كانت صعبة، وهذا الخبر يخفف من وطأتها، وأظن أن أعظم إنجازاتي لم يُنجز بعد، فلا يزال لدي الكثير من الأفكار التى أحلم وأتوق إلى تجسيدها وسكبها فى الحديد والحجر لتُسحر النظر".
لم تصل امرأة في تاريخ فن العمارة لتلك المكانة في هذا المجال قبل "زها"، حيث تعد الرائدة الأولي لفن العمارة منذ بداية العمارة إبتداءاً بأمحوتب الأول أول معماري في التاريخ مروراً بكل الرواد الذين جاءوا بعده على مر التاريخ، فلقد نجحت "زها" في جعل مرافق المدينة مفتوحة وشفافة أمام سكانها، تجنح لما هو تخييلي وتجريدي، وللحفاظ على خصوصية إنجازاتها العمرانية فإن تصميمها إنشائياً يعتمد على تثبيتها على دعامات عجيبة ومائلة، مما يجعلها تتمتع بانسيابية، ويجعلها تتحدى الجاذبية لدرجة أنها تشبه سفن الفضاء، ومن تصاميمها المشهورة، سواء تلك التي نُفذت أو التي لا زالت تحت التنفيذ: جسر أبوظبي، محطة مترو الرياض، وأوبرا دبي، المسرح الكبير فى مدينة الرباط، مركز فاينو للعلوم ومركز الفنون الحديثة في روما، مركز حيدر علييف في باكو، والمبنى العائم في دبي وجسر الشيخ زايد في الإمارات، محطة إطفاء الحريق في ألمانيا، المسرح الكبير في الرباط، مشروع القبة الألفية في لندن، محطة قطار ستراسبيرغ في ألمانيا، والمبنى الإداري ل(BMW) في ألمانيا, والبيت المثالي في ألمانيا ضمن معرض الأثاث، ودار أوبر قوانغتشوا بالصين، ودونج ديمون بلازا في كوريا الجنوبية، وفندق الخيال بإسبانيا، ومنصة التزحلق في أنسبروك، ومدرسة الفن المعاصر في أوهايو، وغيرها من الصروح التي يضيق المجال عن ذكرها.
لقد قامت "زها" بتحويل الأشكال الاستاتيكية إلى ديناميكية فى تصميماتها، عن طريق إضافة عناصر مكملة للشكل للانتقال من الإحساس بالسكون إلى الحركة؛ فسيدة العمارة الأولى قد نجحت في ملامسة بوابات المستقبل بأناملها الكريستالية، ونجحت في عزف معزوفة من شكل وخط وزوايا تتلاشي فيها الحدود، وتسبح في إيقاع متنوع يموج بالحركة وينقل المشاهد بسلاسة إلي موجات لانهائية من المنحنيات المتداخلة.
لقد تأثرت "زها" بأعمال المهندس المعمارى الكبير "أوسكار نيمايير"، خصوصا إحساسه بالمساحة، فضلا عن موهبته الفذة، فأعماله هى التى ألهمتها وشجعتها كثيرا على الإبداع، وهذا ما جعلها تبدع هذا النوع من العمارة الذي تم تطعيمه بالخيال وبخصائص مستقبلية، قد وُزِعَ على بلدان عدة حول العالم، في اليابان وأستراليا والعالم العربي وأوروبا وأميركا، تصاميمها بدت محلقة، عبارة عن قطع فنية ضخمة، شكلتها بحس فني عالٍ، فقد حاولت تطويع وتبسيط المستقبل الذي يتجاوز مجال الرؤية بالعين المجردة، وتقديمه بطريقة فنية تمزج فيها الرؤية العلمية مع التصور والفلسفي والفني، لتبدو أعمالها وكأنها سابحة في الفضاء، كما استلهمت حركية الأشكال والخطوط، كما اهتمت بدمج عدة ملامح في التصميم من أجل تخفيض الطاقة اللازمة لتبريد المبنى، بحيث يتضمن فتحات قابلة للتعديل في الواجهات من أجل توفير التهوية الطبيعية عندما يكون الطقس بارداً كفاية، أما الحرارة الزائدة المتولدة عن تكييف الهواء فتستخدم للمساعدة في تزويد الماء الدافئ. وبالإضافة إلى العمران فقد صممت "حديد" المجوهرات والأثاث والأحذية، فهى تعتبر أن الفن والهندسة والموضة كلها أشكال وجدت للاستعمال من أجل المستهلك، وبالتالى فإنها كلها تهتم بمنحه السعادة وتحسين كل جوانب حياته، وفكرتها هى البدء بأفكار تقليدية فى التصميم ثم حملها إلى مستوى جديد مطبوع بالعصرية والغرابة.
بالرغم من النجاح الذي حققته "زها حديد" من خلال تصميماتها الفريدة والعجيبة، إلا أنها لم تسلم من سهام النقد، فالبعض اعتبر أن تصاميمها صعبة التطبيق وصادمة، ووصل الأمر بالبعض بأن قالوا أنها تصاميم فجة ومستفزة ومربكة بصرياً، وتكاليف إنجازها باهظة، لكن هذه الإنتقادات لم تمنع من الإعتراف بأن الأبنية التي أنجزتها زها حديد، تبدو وكأنها نزلت ضيفة من الفضاء على الأرض وقد استمدت جماليتها من ذاتها, وخير دليل على عبقريتها هو ذلك العدد الكبير من الجوائز والأوسمة التقديرية التي حصدتها "حديد" عن تصاميمها الفريدة، نذكر منها: جائزة الدولة النمساوية للسياحة، كما حصدت جائزة "توماس جفرسون للهندسة المعمارية" سنة 2007م، كما تم اختيارها كرابع أقوى امرأة لعام 2010م حسب تصنيف مجلة التايمز، وحصلت على وسام التقدير من ملكة بريطانيا، وتم منحها وسام الشرف الفرنسي في الفنون والآداب، و حاصلة على جائرة بريتزكر وهي أهم وأرفع جائزة تمنح للمعماريين بل وتسمى جائزة نوبل للعمارة، كما أطلقت عليها اليونسكو لقب "فنانة السلام".