القاهرة 07 اغسطس 2018 الساعة 10:40 ص
كتب: طلعت رضوان
من بين الأعمال الأدبية العالمية الخالدة رواية (تورتيلافلات) للأديب الأمريكى جون شتاينبك (1902- 1968) لأنه جسّـد مظاهر البؤس فى المجتمع الأمريكى، وبالتالى يكون صوّر(الوجه الآخر) الذى تحرص الإدارة الأمريكية على إخفائه.
أبطال الرواية مجموعة (من المهمشين) والغيرمعترف بهم رسميـا, وفى الصفحة الأولى تكون البداية القوية، نتعرف على شخصية (دانى) السكير والبوهيمى الكبير وهو يشتم الإيطاليين، لأنه كان يعتبرهم قراصنة, وبالرغم من أنه ورث بيتيْن، فإنّ (ميله للسرقة) تغلــّـب عليه، فسرق أربع بيضات وقطعة من اللحم ليشترى الخمر، وقال إنّ اللحم ((من لحم خنزيرالرب)) وأنّ ((يسوع يتعاطف مع أمثالى)).
والشخصية الثانية (بيلون) الذى سرق إوزة سيدة فقيرة، ولما أظهر ندمه، هوّن (دانى) عليه الأمر قائلا ((لقد بذلنا أرواحنا من أجل بلادنا..والآن لا نجد سقفــًـا فوق رؤوسنا)) (فى إسقاط على نظرة الحكومة وإهمالها لمن دافعوا عن الوطن من الفقراء) ثم تذكر أنه ورث بيتيْن، فقال له (بيلون) أنه عندما تكون النقود معه فإنه سوف يقتسمها مع أصدقائه. انتبه (دانى) لتلميحه فقال: يا بيلون إنّ ما أملكه هو ملكك. وإذا كان لى منزل .. يكون لك منزل .. اعطنى جرعة من الخمر. فقال (بيلون): هكذا لن أصير صعلوكــًـا فقيرًا. اتفق الصديقان على الأجرة التى لن تــُـدفع ولم يهتم (دانى) حتى بعد أنْ أجـّـر(بيلون) غرفة لصديق ثالث. وأيضًـا لم يدفع رغم الوعد بذلك.
وعندما رأى (بايلون) ديك الجيران وحده، أظهر شفقته عليه خوفــًـا من أنْ تدهسه سيارة، فقبض عليه وذبحه. وحتى عندما عمل (بيلون) فى بعض المتاجر، وأصبحتْ معه النقود، وبعد أنْ قرّرسداد قيمة الإيجار، فإذا به يشترى جالونيْن من النبيذ وقال لنفسه: إنّ النقود لن تــُـعبرعن مودتى لصديقى ولكنها الخمر. و(بيلون) بالرغم من (صعلكته) كان يعشق جمال الطبيعة والطيور كما الصوفى، وقال: هذه الطيورتطير جهة الرب..أيتها الطيورالعزيزة كم أحبك..إنّ أجنحتك تــُـهدهد قلبى..كما تــُـهدد يد المسيح رؤوس الأطفال..ومع ذلك فإنّ بوهيميته الفطرية جعلته يـُـظهرما فى وجدانه الساخرمن المقدسات فقال: كيف إنّ صلوات الملايين لابد أنْ ((تتصارع ويـُـدمربعضها بعضًـا وهى فى طريقها إلى عرش الله)) ثم قال لصديقه (بابلو): كم كنتُ سعيدًا عندما كنتُ طفلا..لم تكن هناك مسئولية..ولم أعرف الخطيئة. فقال (بابلو) ومنذ ذلك الحين لم نعرف السعادة. وعندما ذكــّـر(دانى) صديقه بالإيجارفإنه شبـّـهه باليهودى البخيل.
وبعد ظهوربابلو(الشخصية الثالثة) ظهر(يسوع ماريا) الشخصية الرابعة الذى اشترى الملابس الحريرية الداخلية لفتاة بارات تبيع جسدها، فقال له بايلون: هل تعتقد أنّ الرب منحك النقود لتشترى الملابس الداخلية لإمرأة قذرة.
سيطرتْ على الأصدقاء فكرة سرقة إدارة المساحة، المخبوء فيها كنزمن الذهب, فقال بيلون: كيف قادتنا أحلامنا؟ إنّ عقوبة هذا العمل السجن..وإذا كان الهدف سداد الإيجارلداني، فإنه لن يفرح فهو طوال حياته تــُـصيبه الثروة بالجنون, ثم كان التطورالدرامى عندما باع داني البيت الذى منحه لأصدقائه الذين أصعقتهم المفاجأة، ولما كذبوا المشترى أظهر لهم المبايعة الموثقة. وبعد أنّ باع (داني) البيت شرب الكثيرمن الخمرالذى أنهى حياته، فتذكرته الحكومة بصفته أحد (جنود الجيش الأمريكى) وأقامت له (جنازة عسكرية) ليس ذلك (فقط) وإنما تولــّـتْ الحكومة (تحنيط جسده) فى إسقاط ساخرمن الحكومة، وبشكل فني ودون مباشرة من المبدع الكبير.
وفى إشارة دالة من المبدع فإنه صوّر(داني) قبل وفاته فى صورة إنسان متوحش، عندما حاول الاعتداء على فتاة هوى، ولكنها قاومته ورفضتْ الخضوع لقسوته، ورفضت أنْ يكون الحب بالاغتصاب، فشعر((بالحيوان الذى بداخله وقد تحوّل من ذئب متوحش، إلى دب عاطفى كثيف الشعر)).
ولذلك كان المبدع موفقــًـا عندما ذكرما حدث من تطور درامى فى شخصيات الصعاليك، حيث أنهم- بما فيهم داني- لجأوا إلى العمل فى تنظيف الأسماك، بدلامن سرقة دجاج الأرامل, وأنّ ما حدث ((كأنه انقلاب حكومى، أو انقلاب فى الدورة الشمسية)).
وكما فى معظم الأعمال الأدبية الأوروبية، من سخرية ونقد لسلوك اليهود داخل مجتمعاتهم التى يعيشون فيها، كذلك فعل شتاينبك عندما جعل بيلون يـُـشبـّـه صديقه (الذى عطف عليه وأعطاه بيتــًـا) فقال: ستنتهى حريتى..((ولن ألبث أنْ أصبح عبدًا بسبب منزل هذا اليهودى)).
وعندما طلب داني الإيجار، فإنّ بيلون قال لصديقه (بابلو) تعال نشتغل لنجلب المال لهذا السيد اليهودى. وعندما تعامل مع السيدة (توريللى) صاحبة مغسلة تنظيف الملابس، ورأى قسوتها- حتى مع زوجها- وبعد أنْ تأكد (بيلون) من خداعها، جلس يفكركيف يتعامل ((مع هذه السيدة اليهودية)) وحتى (توريللى) الذى لم يسلم من لسان زوجته، فإنه كان مثلها فى تعامله مع الآخرين، ولذلك- أيضًـا- شبـّـهه بيلون باليهودى فى بخله وجشعه.
وصعاليك الرواية (الذين التقطهم المبدع من واقع المجتمع) لهم فلسفتهم فى تبريرسرقاتهم، من ذلك أنّ بيلون عندما سرق ديك جارته خاطب الديك قائلا: أيها الديك العارى المسكين. كم يكون الجو باردًا بالنسبة إليك فى الصباح الباكر؟ أليس الله رؤوف بعباده؟ فكان الحل أنْ ((يعطف عليه)) وينقذه من البرد بأنْ يذبحه ويأكله.
وعندما رقد بيلون على شاطئ البحر، وجد قاربـًـا ليس به أحد يقترب منه فقال لنفسه: إنّ الله أرسل لك هذا القارب .. فهل تعتقد أنّ الرب المبارك فعل ذلك لتتمكن أنت من شراء ملابس داخلية حريرية لامرأة قذرة من نساء تعليب الأسماك؟ لا. لقد فعل الله ذلك حتى لا تموت من النوم على الأرض فى العراء. وهكذا فى كل صفحات الرواية، فإنّ سلوك الشخصيات المُـنافية للأخلاق الحميدة المُـتعارف عليها، تجد تبريرًا جاهزًا وفق (فلسفة الصعاليك) ولكنهم- بالرغم من ذلك- فإنهم فى لحظات يعودون إلى الطبيعة الفطرية لكل البشر. ومن أمثلة ذلك أنّ بيلون عندما تذكرطفولته، تذكربالتالى سعادته. وقال لصديقه بابلو: لم أكن أعرف الخطيئة.
وهؤلاء الصعاليك لا يتوقفون عن السخرية، حتى فى المواقف الحزينة، ففى جنازة دانى قال صديقه يسوع ماريا: من الأفضل أنْ نــُـغنى بضع أغنيات حزينة. اعترض بابلو، وقال: لكن دانى لم يكن يحب الأغانى الحزينة..كان يحب الأغانى المُـبهجة..خاصة التى تدورحول النساء المرحات..فوافق جميع الأصدقاء وقال أحدهم: نعم كان دانى عظيمًـا فى موضوع النساء.
وكما بدأ المبدع روايته بخبر وفاة جد (دانى) الذى أوصى بحقه فى منزليْن، فإنه أنهى الرواية بما حدث بعد وفاة دانى، حيث أنّ أحد أصدقائه، ألقى عود الثقاب الذى أشعل به سيجارته على جدارالبيت الذى كان يقيم فيه دانى. واستقرعود الثقاب المشتعل على جريدة قديمة قرب حائط المنزل. عزم الأصدقاء بالنهوض لإطفاء عود الثقاب، ولكنهم سرعان ما تراجعوا عن عزمهم وظلوا جالسين فى أماكنهم. وتلاقتْ عيونهم بابتسامات البائسين اليائسين. وتطلعتْ عيونهم لمراقبة اللهب المتصاعد من بيت صديقهم دانى..فكان تعليقهم: إنها إرادة الآلهة التى تتعلــّـل بالحجج البسيطة، مثل إلقاء عود ثقاب مشتعل. وقال أحدهم مُـتفلسفــًـا: ذلك هوما كان ينبغى يا أصدقاء دانى (الحكماء) لقد انقطع الرباط الذى كان يجمع بينكم. وفقد المغناطيس الذى كان يجذبكم. وسوف يمتلك المنزل أناس غرباء، أو ربما أقارب دانى..وإذن من الأفضل أنْ ينتهى ذلك الرمز للصداقة (المقدسة) رمز هذا المنزل الجميل الذى كان ينبض بالرقص والمعارك، أما دانى فبسبب بؤسه هاجم الآلهة وهوعلى فراش الموت.
وكانت آخر كلمات فى الرواية: جلس الأصدقاء وعلى وجوههم ابتسامات غامضة. ونظروا إلى تصاعد النار إلى سقف البيت كالأفعى، وشقــّـتْ السقف وزأرتْ كحيوان جائع..وعندئذ (فقط) نهض الأصدقاء كالحالمين وغادروا المكان. بينما تحوّل البيت إلى كومة من الرماد.
وأعتقد أنّ شتاينبك فى هذه الرواية البديعة- ومن خلال الإسقاطات الكثيرة- استطاع تقديم الوجه الآخرلأمريكا، وجه المُـهمشين وبؤسهم، وهو الوجه الذى صوّرته السينما الأمريكية (الجادة) فى أكثرمن عمل، مثل فيلم (الوجه الآخرلأمريكا) .