القاهرة 05 اغسطس 2018 الساعة 09:28 ص
د.هويدا صالح
هل تعي الحكومة المصرية، وكل مؤسساتها الذهنية التي تحكم الشعب المصري؟! هل يعي القائمون على البلاد وعلى رأسهم رئيس الدولة ذهنية المصريين والتركيبة النفسية لهم؟ هل يقوم النظام المصري أو أي جهة تابعة له بتحليل خطابات مواقع التواصل الاجتماعي (السوشيال ميديا) لمعرفة كيف يفكر المصريون؟! هل ثمة وعي بما يمكن أن يثير تعاطف المصريين أو يجعلهم يتعاملون مع أمر ما بحياد أو بعدم حماس؟
إذا أردت أن تحشد لأمر ما، وأن تجعل الناس تتعاطف معه، وتتبنى خطابه، حتى لو كان هذا الأمر ضد قيم الحق والخير والجمال الواضحة والبينة، ليس عليك سوى أن تظهر أن الحكومة ضد هذا الأمر، أو أن هذا الأمر صرخة في وجه النظام، ساعتها سوف يلتف حوله الجميع، ولن يفلت من هذا الفخ أحد حتى النخبة المثقفة وأنا منهم!.
بمجرد انتشار الفيديو الشهر"أطفال التهريب في بورسعيد" والمذيعة التي تتحدث باسم المحافظة ومن وراءها الحكومة تحاكم المهربين الصغار أخلاقيا وتؤكد على أن ما قاموا به حرام أو يتعارض مع مصلحة البلد، وبمجرد أن واجهها أحد الصغار (محفوظ) بأنهم يهربون ملابس بسيطة لا تتعدى المائة وخمسين جنيها، وأن هناك من يهرب بالملايين حتى اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي، بمشاركة الفيديو وسب المذيعة والمحافظ والحكومة ورئيس الحكومة، بل ورئيس الدولة! وأصبحت الحكومة المتمثلة في جهة منع التهريب، وهم على حق تماما، مجرمة، والصغار الذين يتخفى وراءهم حيتان كبيرة للتهريب تستغل جهلهم وحاجتهم للمال على حق!.
ما الذي قلب موازين الحق والخير والجمال لدى المصريين؟ كيف أصبح الباطل( مافيا التهريب التي تحرك وتستغل هؤلاء الصغار ) على حق، والحق( الحكومة والمحافظة وجهة منع التهريب والتي تحدثت بصوتهم المذيعة ) على باطل؟! كيف تعاطفنا جميعا مع الطفل محفوظ الذي تحدث عن المهربين الكبار والمهربين الصغار؟ كيف خدعتنا براءته وذكاء عينيه وهو يتحدث عن أنه يسعى من أجل أمه وأبيه وأخواته البنات، واتضح أن الأمر غير ذلك وأن هذا الصغير من أسرة ميسورة في سوهاج، فهو ابن لأب يمتلك عددا من الأفدنة ويمتلك فرنا بلديا وما إلى غير ذلك، وأنه جاء إلى بورسعيد سعيا وراء إثبات رجولة لم يطالبه أحد بإثباتها؟ كيف خدعنا الصغير؟ هل لأنه تحدث بقوة وجرأة في وجه (الحكومة )؟ أم لأنه تحدث عن قدرة المهربين الكبار بالمرور ببضائع بالملايين في حين أن الهيئات الرقابية تقبض على مهربين صغار؟ ماذا لو لم يتحدث محفوظ عن الكبار الذين يخدعون الحكومة؟ ماذا لو لم يوهمنا أنه فقير ذهب للبحث عن مائة وخمسين جنيها يشتري بهم لأخواته البنات ما يفرحهن؟ ماذا لو لم يكن بكل هذه البراءة وهذا الذكاء وهو يتحدث؟ هل كانت السوشيال ميديا سوف تشتعل غضبا من أجله وتصب جام غضبها( تعبير نمطي وكلاسيكي لكنه يناسب الحالة) على الحكومة؟ هل كان الأمر سيمر مرور الكرام لو لم يواجه محفوظ الحكومة بهذه الجرأة؟ هل كنا سنسمع أصلا عن هذه المذيعة أو هؤلاء الأطفال أو حتى يفتح ملف التهريب؟.
لو أنني من القائمين على هذا البلد لقمت بتحليل كيف يفكر المصريون( السوشيال ميديا أنموذجا طيبا للتحليل) وعرفت كيف أستثمر كل هذا التعاطف مع الحكومة وليس ضدها! لو أنني من القائمين على هذا البلد لعقدت دورات تدريبية مكثفة لموظفي الحكومة الذين يتعاملون مع الجمهور وعلمتهم كيف لا يستفزون الناس، وكيف لا يؤدون أداءات فيها عدائية ضد الشعب، وكيف يقدمون خطابات تكسب تعاطف الناس مع الحكومة وليس العكس.
باختصار نحن شعب يصنع أبطالا من ورق، ليس لشئ إلا لأنهم ضد الحكومة والنظام! نحن شعب نصنع أبطالا شعبيين يشبهوننا ويتحدثون باسمنا ويسبون الحكومة نيابة عنا، ويظهرون فشلها حتى لو لم تكن فاشلة، وضعفها حتى لو لم تكن ضعيفة، وتواطئها حتى لو لم تكن متواطئة.
الغريب أن مواقع التواصل الاجتماعي قادرة قدرة عجيبة على تزييف الحقائق، وأنها قادرة على أن تصنع من الباطل حقا، ولا ينجو من ذلك حتى المثقفين، ولو فكر أحد من هؤلاء المثقفين أن يتوقف قليلا أمام الصورة ويحللها منطقيا بوسائل تحليل الخطاب التي يمتلكونها سوف يتهم فورا بأنه في صف الحكومة، وفي هذا عيب كبير على المثقفين الذين يفترض بهم أنهم واقفون طوال الوقت ضد الحكومة، ألم يقل أنطونيو جرامشي في كتابه الأشهر(دفاتر السجن) أن المثقف يجب أن يكون على يسار السلطة ناقدا لمواقفها؟!
إن مواقع التواصل الاجتماعي قادرة على حرق أشخاص وأفكار وتحريك قضايا وملفات وتفجير أوضاع، والقليل جدا من يعطي لنفسه فرصة التروي والتأمل والانتظار حتى تتضح الصورة كاملة كي يتمكن من الحكم عليها!!
إن مواقع التواصل الاجتماعي منصات لتزييف الحقائق والوعي بقدر ما هي منصات للدفاع عن الحق، والقليلون جدا هم من ينجون من فخاخها، ومن يبغي النجاة من فخاخ محرقة مواقع التواصل الاجتماعي عليه أن ينتظر ولا يبدي رأيه متسرعا في أي قضية حتى تتضح كل أبعادها، لربما ساعتها وفر على نفسه المشاركة في صناعة وعي زائف تجاه الكثير من القضايا!