القاهرة 17 يوليو 2018 الساعة 12:41 م
محمد غباشي
لا نمل من تكرار سيرة فنان الشعب سيد درويش وعطاؤه الفريد, وهو من استطاع أن يحدث انقلابا في الموسيقي العربية - رغم سنوات عمره القصيرة - بل واستطاع أيضا أن يغير مفاهيم ومسارات التلحين والتأليف الموسيقي بعد أن كانت أداة للتطريب والترفيه, فكان أول من وضع قالب النشيد في الموسيقي العربية, والذي قال عن نفسه: ( أنا خادم الموسيقي ).
كان يستقي الألحان والموسيقى من الشعب, فيصيغه ويرسله مره أخري للشعب ..
كأغلب المبدعين تبدأ حكايتنا هذه مع واحد منهم, ولد متدثرا بالفقر الأسري ملتفا بعباءة الظروف القاسية من نير الاحتلال الإنجليزي وسوء الأحوال الاقتصادية, ومن ثم كان مجيئه للدنيا في السابع عشر من مارس في العام 1892, في حي كوم الدكة بمدينة الاسكندرية, وهو حي شعبي متواضع يزخر بالأزقة والحواري الضيقة, العيش فيها أشبه برحله كفاح يومية لقاطنيها ..
الأب يعمل نجارا بسيطا يدعي درويش البحر, والأم فقيرة بسيطة لاتملك من غنى الحياة إلا اسمها ملوك, وبنتيين في عمر الزهور ..
أسمياه " السيد " تيمنا بالسيد البدوي العارف بالله وكي يكون واحدا من الأئمة أو المشايخ حفظة القرآن في ذلك الوقت.
في الخامسة من عمره ألحقه والده درويش البحر بكتّاب "سيدي أحمد الخياش", وتلقى فيه خلال عامين ما مكنه من حفظ القرآن الكريم, ثم انتقل إلى مدرسة "حسن حلاوة" القريبة من منزل الأهل, وتصادف أن كان فيه مدرس يدعى "سامي أفندي" له شغف بحفظ الأناشيد، وقد تعود أن يلقنها لتلاميذه الصغار, وقد وجد ضالته في تلميذه الصغير "سيد درويش" ولاحظ استعداده الطيب لتلقى هذا النوع من الأغاني والألحان واستيعابها وإجادتها، فأوكل إليه أمر تدريب أقرانه وتلقينهم على الرغم من صغر سنه.
في عام 1899 توفي والده قبل أن يتجاوز السابعة من عمره فغادر كتاب "حسن حلاوة" إلى مدرسة بحي رأس التين عرفت باسم "شمس المدارس", وفي هذه المدرسة التقى مجددا بـ"سامي أفندي" معلماً, وحالفه التوفيق حين وجد ناظر هذه المدرسة "نجيب أفندي فهمي" شغوفا بتلقين تلاميذه ألوانا من الأناشيد التي كانت مألوفة في ذلك الوقت, واستمر تدريب الفتى سيد على عدد كبير من ألحان عصره, فوجد فيها صدى لهواية كانت تجيش بها نفسه، يذكيها ما كان يقوم به من تجويد للقرآن.
وفي عام 1905 التحق بفرقة المعهد الديني في الإسكندرية, وكان مقرها مسجد سيدي المرسي أبو العباس, وبعدها انتقل إلى الفرقة الثانية في المعهد وكان مقرها مسجد الشوربجي، الذي استمر يؤذن فيه طوال العام الدراسي.
بدأ سيد درويش تعلم أصول المقامات الموسيقية الشرقية على أيدي المحترفين من شيوخ الفن فالتحق بمدرسة "الكلية الحرة" ليدرس العلوم الموسيقية, كان يستمع للشيخ أحمد ندا, والشيخ إسماعيل سكر, والشيخ حسن الأزهري, وغيرهم من مشاهير القراء والمنشدين يداعبه الأمل في أن يجد نفسه في مستقبل أيامه واحدا من هؤلاء.
ولكن الحاجة الملحة اضطرته إلى البحث عن مجال آخر للرزق، خصوصا بعد وفاة والده وواجبه تجاه أسرته وزوجته التي تزوجها في عمر السادسة عشرة, فقام بإحياء ليالي الموالد والأفراح حتى التحق بفرقة "كامل الأصلي" بجهة الناضوري، وهي فرقة تهريج مرتجلة لم يكتب لها الدوام، فسرعان ما انحلت وعاد الفتى أدراجه إلى الحيرة والبحث.
كثيرا ما كان سيد درويش يستمع لغناء الشيخ علي الحارث الذي كان يجمع بين ترتيل القرآن وإنشاد المدائح النبوية, وكذلك إجادته لغناء القصائد والموشحات والأدوار القديمة, ولعل هذا ما يفسر تحول "سيد درويش" من الاتجاه السابق إلى هذه الألوان الجديدة من الغناء, ولكنه سرعان ما هبط إلى مستوى لم يكن لائقا به كقارئ ومجود ومنشد, فعمل في إحدى المقاهي المتواضعة, وكان لزاما على الفنان الشاب أن ينتقل من المدائح والمقطوعات الدينية إلى اللأغاني الشائعة التي كانت تتردد في بعض مقاهي القاهرة من مثل "اللاوندية", وهي أحيانا ما تكون أغان وطقاطيق ذات مستوى متدنٍ, وأحيانا قصائد وموشحات وأدوار فنية قيّمة.
وهكذا واجهت تلك العبقرية منذ نعومة أظفارها التحديات والمفاجآت التي كادت تهدد بالقضاء عليها في مهدها, لكن الشخصية الفذة التي كان يتمتع بها هذا الفنان جعلته قادراً على تحمل الصعاب ومواجهتها, فهو لم يكن يبالي أو يستنكف عن العمل مهما كان نوعه، وربما كانت الحاجة الملحة تدفعه إلى كسب قوته وقوت أسرته, فزاول مهنة مساعد بناء ودهان جدران المنازل, وكان يردد على أسماع زملائه عمال البناء الأغاني والأهازيج التي كانت تبعث فيهم النشاط وتدفعهم الى مواصلة العمل ومضاعفة الإنتاج, هنا تلوح الفرصة النادرة إذ يصادف وجوده في العمل جلوس الممثل أمين عطا الله في مقهى يجاور البناء فيصغي الأخير باهتمام إلى غناء الأول, وتلفته طريقة أدائه غير المألوفة, وسرعان ما يقرر أمين عطا الله مع أخيه سليم مدير فرقة التمثيل والغناء، ضم هذا الشاب إلى الفرقة ليقوم فيها بالتمثيل والغناء, وانضم "سيد" إلى الفرقة ورحل معها إلى الشام, وكان ذلك في مطلع عام 1909، أثناء معاناة زوجته آلام الولادة حتى وضعت له في أثناء الرحلة أبنه "محمد البحر".
ولم تكن الرحلة ناجحة إذ استغرقت أقل من سنة اضطر بعدها للعودة إلى الإسكندرية بعد أن مدته أسرته بالنفقات اللازمة للعودة, وكانت الفائدة الوحيدة التي جناها من تلك الرحلة سماعه موسيقى تلك البلاد, واتصاله بالشيخ عثمان الموصلي الذي أخذ عنه وعن غيره في هذه الرحلة وفي الرحلات التي تلت الكثير من أصول هذا الفن.
عاد "سيد" من رحلته اليائسة هذه ليستأنف عمله في المقاهي مرة أخرى, وراح ينتقل من مقهى إلى آخر حتى بلغ به الحال الغناء في أحد البارات، الأمر الذي أزعج زوج شقيقته الكبرى -المعلم رفاعي علي - فأقسم ألا يدخل "سيد" منزله إلا اذا اعتزل الغناء نهائياً.
ونظراً لما يكنه الشاب لشقيقته من حب ضحى بهوايته, وقبل العمل كاتبا في محل تجارة الأثاث الذي كان يملكه زوج شقيقته, لكنه لم يستمر في عمله الجديد أكثر من أربعة أشهر حتى سنحت له الفرصة للقيام برحلته الثانية إلى الشام عام 1912, فكانت رحلة ناجحة مثمرة وتعتبر نهاية عهد وبداية عهد في حياته.
فقد تجددت صلته بعثمان الموصلي والشيخ علي الدرويش والشيخ صالح الجذبة, وأقام معهم سنتين كاملتين يحفظ عنهم ويستمع لهم ولما ينشده غيرهم في تلك البلاد, وهو في هذا كله يحفظ ويختزن ويستوعب في حفظه وذاكرته, ما أتاح له بعد ذلك التمتع بخبرة واسعة بأسرار الموسيقى الشرقية من عربية وفارسية وتركية, استثمرها لاحقاً في خدمة الغناء المسرحي.
عاد بعدها إلى الإسكندرية عام 1914 وهو أكثر نضجاً في فنه وأعمق معرفة, فكانت وسيلته الأولى لكسب العيش عند إقامة حفلات الغناء التي كانت في ذلك الحين تقام فقط في المقاهي, وعمل على استكمال تخته, فضم إليه مجموعة من العازفين منهم الشيخ علي ابراهيم على آلة الرق, وكان واسع الدراية بالموشحات والأدوار القديمة والمقامات العربية، فاستفاد "سيد درويش" منه استفادة كبرى, كذلك انضم إليه عازف الكمان جميل عويس الذي كان ملماً بأصول التدوين الموسيقي فلقن الشيخ "سيد" كثيرا من مبادئ تلك الأصول, كما انضم إلى الفريق عازف القانون أحمد شبانة, وعازف العود محمد عزت, وأكمل "سيد درويش" إجادة العزف على آلة العود بفضل توجيهات الحاج سالم حتى أصبح بمقدوره العزف أثناء غنائه بمصاحبة صديقه القديم المنشد محمود مرسي, وبدأت ثمار عبقريته في الظهور فصار يقدم الألحان التي يؤلفها ويقوم بأدائها أحياناً أو تؤديها إحدى المطربتين المعروفتين آنذاك "تفيدة الاسكندرانية" و"نعيمة المصرية" وغيرهما, ومن الملاحظ بأنه لم يكن يؤلف الألحان إلا لمناسبات واقعية، ولذلك جاءت جميع أغانيه معبرة وصادقة، واعتبر كل لحن من ألحانه تأريخاً لحدث معين.
كان هذا القسم الأول في حياة فنان الشعب, والذي أعتبر تمهيدا للعبقرية القادمة إلى القاهرة دون الدخول في تفصيلات حياتية خاصة, أبرزها على الإطلاق علاقته بالراقصة جليلة, التي أحبها حبا جارفا, وكتب ولحن وغني لها أعمالا سجلت في تاريخ العاشقين.
لذا فعند وصوله للقاهرة, لم يعرف للهدوء مكان ولا الراحة لقلبه سكن..
انهالت عليه الأعمال الفنية من تلحين لمسرحيات تعود لأشهر الفرق المسرحية مثل: فرقة نجيب الريحاني، وجورج أبيض، وعلي الكسار، ونخبة من المشاهير الذين أعجبوا بأعمال سيد درويش الفنية، كما حظي درويش بشرف العمل مع الفنان سلامة حجازي الذي أعجب بألحانه وطلب منه من يلحن له رواية فيروز شاه لفرقة جورج أبيض.
عاش سيد درويش حياةً فنية خلّدها بالأدوار الرائعة التي قام بها من يا فؤادي ليه بتعشق، ويلي قوامك يعجبني، وفي شرع مين، وغيرها من الأعمال الفنية التي وصل صداها للعالم وأصبحت مادةً ثقافيةً يتعلم منها كلّ فنان, السيد درويش البحر، الاسم الكامل الذي حفر في ذاكرة التاريخ الفني واحد وثلاثين سنة قضاها في صناعة فن جديد اسمه السيد درويش.
في عام 1917 انتقل الشيخ سيد إلى القاهرة بعد أن نضجت موهبته في اللحن والغناء فدانت له الفرصة عندما لحن وغني "يافؤادي ليه بتعشق" من مقام العجم فسطع نجمه في الأوساط الفنية آنذاك, وأسندت إليه عدة أدوار تمثيلية وغنائية بنفس الوقت في أغلب الفرق المسرحية المختلفة على مسارح القاهرة’ حتي جاءت ثورة 1919 فلحن وغنى " قوم يامصري " التي ألهبت حماس الجماهير وصارت نشيدا يتغني به جميع المصريين.
واستمر الشيخ سيد في أداء دوره الفني في الموسيقي والموشح والدور والطقطوقة والمونولوج الشعبي والأناشيد الوطنية وغيرها, بالإضافة إلى دوره الكبير في تلحيين الأوبريت, والتي وضع موهبته العبقرية فيها كأوبريت " العشرة الطيبة " التي أحدثت انقلابا في عالم الألحان المسرحية, بجانب "الباروكه" و"شهرزاد" وغيرها, مما تعدى العشرين أوبريت كما قام بتلحين الفصل الأول من أوبريت "أنطونيو وكليوباترا" الذي استكمله بعده الراحل محمد عبد الوهاب .
كان هدف درويش الخروج بالموسيقى المصرية من ربقة الموسيقى والألحان التركية التي سار على دربها أغلب الموسيقيين وقتها, فنحا بها ناحية مصرية خالدة, سواء أكانت ألحانا شعبية أو طربية أو الحان أوبرالية ضخمة.
انتهت حياة هذا الفنان الخالد يوم 10 سبتمبر من عام 1923, وهناك روايات كثيرة عن سبب وفاته, ومنها أنه توفى بسبب جرعة زائدة من مخدر الحشيش, ولكن أحفاده نفوا تلك الرواية مستندين على خطاب بخط يده يقول فيه لصديقه أنه اقلع عن السهر وكل ما يصاحبه, وينصح صديقه بالتخلى عن السهر وموبقاته, واستندوا فيها أيضا على ما تم ذكره فى مذكرات بديع خيرى أن الشيخ سيد أقلع عن المخدرات, ويظهر ذلك جليا فى أغانيه التى تنصح الشعب بالابتعاد عن المخدرات أما الرواية المؤكدة بالأدلة أن سبب الوفاة هو تسمم مدبر من الإنجليز, أو بسبب الأغاني التي رسخت في أذهان الشعب والتي حثته على الثورة ضد القصر والإنجليز.
ترك لنا سيد درويش قوالب مختلفة من الإرث الموسيقي فيما يتعدي المائتي وخمسين لحنا مختلفا, فقد لحن أربعين طقطوقة وموشح, وثلاثين أوبريت, والعشرات من الأدوارالغنائية أهمها علي سبيل المثال :
أوبريت شهرزاد, العشرة الطيبة, الباروكة ..
أنا المصري, زوروني كل سنه مرة, طلعت يامحلا نورها, أنا هويته وانتهيت, ياعشاق النبي, ضيعت مستقبل حياتي, ياشادي الألحان, ياورد علي فل وياسمين, قوم يامصري, أهو ده اللي صار, ياعزيز عيني, يابلح زغلول, على قد الليل مايطول, والله تستاهل ياقلبي, السقايين, سالمة يا سلامة .. وغيرها الكثير والكثير..
كفانا فخرا أن يكون سيد درويش حاضرا في كل حين, حين يقف الكل احتراما وتبجيلا للنشيد الوطني:
بلادي بلادي...... لك حبي وفؤادي
إحدى وثلاثين سنة عاشها خالد الذكر سيد درويش فما أقصره من عمر, وما أكثره من إنتاج.