القاهرة 17 يوليو 2018 الساعة 12:29 م
د/ صلاح فاروق العايدى
عندما فكرت أن أبحث في موضوع "أدب المرأة فى شمال سيناء" توقفت أمام نماذج شعرية لثلاثة من الصديقات ذوات الصوت المعروف فى عالم الشعر فى شمال سيناء ، الأمر الذى جعلنى أتوقف أمام عدد من الملحوظات ، وهى التى سوف تكوّن متن هذا الحديث .
أولا ــ فكرة أدب المرأة تنصرف فى معناها العام ــ وكما هو شائع ــ إلى ما تبدعه المرأة من نماذج أدبية ، سواء منها الشعر أو القصة أو الرواية ، أو غيرها من أشكال الأدب . وأيّا يكن الأمر ، فالمتوقع هنا أن يقف القارئ أمام هذه النماذج بالدرس والتحليل ؛ مبديا رأيه فيما قرأ ، ومحدّدا " إذا استطاع " موضع هذه الأعمال من السياق العام للإنتاج الأدبى .
وبالتالى ، فنحن أمام أعمال قد نتفق أو نختلف حولها ، مبدين استحساننا أو مبدين غير ذلك . وهذا الأمر فى ذاته مطلوب كشكل من أشكال التواصل الأدبى بين الأصدقاء ، لولا أننا قرأنا هذه الأعمال فى مناسبات عدة سابقة ، أى أن معرفتنا بها جيدة ، ولا أحسب أننى سأضيف كثيرا إلى ما سبق قوله فى هذا الشأن .
ثانيا ــ وإذا كانت الأعمال المقدمة كلها شعرا ، وتنتمى إلى شعر العامية تحديدا ، فهذا يعنى أن المرأة المبدعة فى شمال سيناء لا تهتم بفن القص ولا الرواية ولا المسرح ( وهذا ملحوظ مع غياب مثل هذه الأعمال حتى اللحظة من أعمال مبدعات من نوع الروايات الرائجة الذائعة بين أيدى الشباب . وهى عامة هجرت العريش وسيناء من زمن ، وانتقلت إلى القاهرة بأضوائها وضجيجها ) ، فضلا عن عدم اهتمامها بشعر الفصحى ؛ أيا يكن النموذج أو المستوى الفنى الذى ينتمى هذا الشعر الفصيح له . وبالتالى ، فنحن نظلم المرأة كثيرا ــ فى شمال سيناء ــ إذا تحدثنا عن قصيدة العامية فحسب ، ولكنها كل ما قدّم حتى هذه اللحظة ، وهى أيضا كل ما أعرفه من إنتاج المرأة فى شمال سيناء بحكم معرفتى وصداقتى لتلك المبدعات .
وعلى أية حال ، فسوف أعود إلى دلالة الاقتصار والتركيز على شعر العامية لدى المرأة المبدعة فى شمال سيناء ، وسأقف حينها على أبرز الدلالات الثقافية فى هذا الشعر . لكننى قبل ذلك ، سأقف عند مفهوم أدب المرأة بشكل عام ، فى ضوء ما هو معروف عنه لدى باحثى الأدب ومفكريه ونقاده .
والمصطلح الشائع فى هذا الشأن هو " الأدب النسوى "وليس أدب المرأة . وهو مصطلح شديد الاتصال ومنبثق مباشرة عن مصطلح آخر هو " النقد النسوى " الذى يحدّد فرعا من فروع النقد الأحدث ظهورا فى عالم الأدب ضمن منظومة فكر " ما بعد الحداثة " ؛ الفكر الذى يقوم على فكرة هدم المركز وفضح سلطة " المستعمر الأوروبى والامريكى " ، فى مقابل " مركزيات الهامش " وتأكيد هوية الثقافات الشعبية وغير الرسمية على وجه الخصوص .
ومن هنا ، فإن مصطلحي " الأدب النسوى ، والنقد النسوى " شديدا الاتصال بمنظومة النقد ما بعد الحداثى ؛ النقد الذى يضم قضايا وتوجهات متنوعة ، منها فكرة النقد الثقافى الذى أتناول من خلاله موضوع هذه القراءة .
ومن هنا ، فإن الأدب النسوى ونقده يتصلان ضرورة بمنظومة فلسفة العلم ، كما يتصلان بعلم التاريخ فى ضوء مناقشة قضايا الوجود وقضايا المعرفة ونظريات الكون ، تحت العنوانين المعروفين فى هذا الشأن : "الأبستمولوجيا والكوزمولوجيا " .
وخلاصة الأمر فى هذا الشأن ، أن أصحاب هذا الاتجاه من الأدب النسوى ونقده ، يدافعون عن فكرة جوهرية ، مفادها أن معارفنا جميعا وحياتنا ــ ومنها الشعر والأدب ــ تتغير مفاهيمه وطرق عرضه وممارسته حال إعادة النظر فى ذلك كله من منظور عين المرأة ورؤيتها للحياة والمجتمع ، وهذا الاعتقاد مبنى على أساس أن كل علومنا ونظم حياتنا مبنية على رؤية الرجل وعينه الخاصة .
ومن هنا ، فإن ثمة صراعا دائما بين النظرتين ، تتجلى فى إبداع هذا وإبداع تلك ، أو بالأحرى ، تتجلى فى الإبداع ، أيّا يكن جنس المبدع ؛ رجلا أو امرأة . وبالتالى ، فلا غرابة فى أن نجد مبدعا يتحدث بلسان المرأة ، لكنه فى الحقيقة يتحدث بعين الرجل . والمثل الأبرز لذلك فى أدبنا المعاصر ، يتجلى فى شعر نزار قبانى . أما الحديث عن المرأة بلسانها ، وبعينها ، فهو من النادر . وقد لا نجد له فى أدبنا المعاصر سوى أمثلة قليلة ، من قبيل أدبى غادة السمان ونوال السعداوى . والأكيد فى هذا الشان أن ذكورية الرجل وعينه هى التى تطغى على الإبداع ( العربى ) ، سواء فيه ما كان مبدعه رجلا أو امرأة .
رابعا ــ أما كون النماذج التى قُدّمت لى تنتمى إلى شعر العامية ، فلهذا الأمر دلالة ثقافية واضحة ، تتمثل فى الفارق الطبيعى بين عالمى شعر العامية وشعر الفصحى . وليس فى هذا الفارق تقليل من شأن العامية ، أو مبالغة فى رفع شأن الفصحى ، مع الأخذ فى الاعتبار بتطورات العامية فى أدبنا المعاصر .
وحتى نتفهّم الأمر فعلينا أن نقف بلمحة عند التيارات الرئيسة فى هذا الشعر . وبإيجاز يمكن القول : إن شعر العامية ينقسم إلى تيارين كبيرين : الأول يعود بمصدره وبتاريخه إلى النماذج الأولى من هذا الشعر ، حين ظهرت نماذج منه ، بلغت فيما يُقال : ستة ، إبان العصر " العربى الوسيط" ، خاصة فى مصر وبعض نواحى الشام . وهى الألوان الشعبية التى انحصرت مع مرور الوقت ، ولم يبق منها إلا الزجل ، بعد أن استولى على أبرز خصائص تلك الألوان وجعلها فروعا على أصله الأوّل ، كما فى المواويل الشعبية ونحوها . واللافت هنا ، أن هذا الزجل تطور مع تطور القصيدة المعاصرة نفسها ، وإن احتفظ بروحه ووظائفه الأساسية من حيث توجيه كامل طاقته التعبيرية إلى القضايا الوطنية والاجتماعية على وجه الخصوص.
أما التيار الثانى من شعر العامية ، فهو الذى سار جنبا إلى جنب مع تطور القصيدة العربية ( الحداثية ) . ومن هنا أصبحت هذه القصيدة "أو كادت"منقطعة الصلة بأصلها الزجلى. وبالتالى انفتحت أمامها طاقة التعبير ، لتصبح قصائد إنسانية بالدرجة الأولى ، ولم تعد ذات وحدة تركيبية ثابتة أو محفوظة متوقعة وواضحة ، كما فى الأصل الزجلى الأوّل .
خامسا ــ وبالتالى ، فنحن هنا أمام قضيتين ثقافيتين بالدرجة الأولى :
الأولى ــ الشكل ومدى قدرته على التعبير .
الثانية ــ صوت المرأة وعينها فى هذا الشكل .
أما عن الشكل ، فأحسب أننى ألمحت إلى الأصل الزجلى فى هذه النماذج ( وأعنى هنا نماذج موضوع هذا الحديث من أدب المرأة فى شمال سيناء ). وهو الأصل الذى يمثّل سلطة ثقافية قاهرة ، تدفع المبدع / المبدعة إلى الخضوع لمتطلبات هذا الشكل ( الزجلى ) نفسه ، تحقيقا لشروط التواصل الأدبى مع المتلقى المُتوقَّع .
والحقيقة أننا أمام درجات وقدرات متنوعة من حيث القدرة على مواجهة هذا التسلّط الثقافى لنموذج الرجل ؛ ممثّلا فى إبداعه الزجلىّ الأوّل . فبعض النماذج تكاد تخضع بالكامل لهذه السلطة ، وتحاول تنويع تجاربه تأسيسا على أدوات هذا الشكل ذاته . وفى صدارة تلك الأدوات التداعى الصوتى والفكرى ، سيّما فى صيغة الموال التى نجدها لدى فاطمة نبهان .
أما البعض الآخر ، فيوشك أن يعلن تمرّده على سلطة هذا الشكل بالكليّة ، استجابة لسلطة الحداثة الشعرية نفسها وتطوراتها الكثيرة ، على نحو ما تدل عليه إيمان معاذ فى أول قصيدتين من ديوانها : حالة من الجنون . أما رانيا النشار ، فقد راوحت فى استجابتها بين الخضوع والتمرد لسلطة الزجل فى ديوانها : أوجاع .
وأود هنا أن أنبه إلى أن سلطة الرجل لا تعنى الشكل البسيط فحسب ، وإنما تعنى الاعتماد على شفويّة الثقافة ، أى إعادة صياغة ما يراه المجتمع ويعبر عنه فى حواراته اليومية أو فى إعلامه ، فى صورة جمل شعرية تؤكد القيم الفكرية ذاتها ، كما تؤكد المواقف التى يتخذها المجتمع تجاه قضاياه العامة ، سواء أكانت وطنية أو اجتماعية أو وجدانية خالصة .
ولعل ممن يعبرن عن هذا الخضوع الكامل للثقافة الشعبية أو الثقافة الرائجة من حيث طبيعة النظر لقضايا الساعة ما تكتبه وتقدمه واحدة أيضا من مبدعات شمال سيناء الأحدث ظهورا على الساحة ؛ أعنى مرفت أبوفخر .
فكل ما تقدمه هذه المبدعة يخضع خضوعا مطلقا لتكرار الأفكار الشائعة عن قضايانا العامة ، مع وضع هذه الأفكار فى صياغات ( شعرية ) ، تخضع بدورها لما هو شائع عن الشعر والفن عموما . الأمر الذى يجعل شعرها ــ سواء منه المكتوب بالعامية أو الفصيح ــ يثير كثيرا من الجدل حول الصحة الفنية لصياغات هذا الشعر .
سادسا ــ والعجيب الملحوظ ، خاصة لدى فاطمة نبهان ورانيا النشار ، أن كلتيهما اعتمدتا اعتمادا كبيرا على صوت الرجل ، حتى إن بعض القصائد توهم قارئها أن شاعرها رجل وهو يشكو اللوعة فى تجربة حيّة مع المرأة الغادرة .
أما فى حالة التعبير عن هذه اللوعة تجاه الرجل الغادر ، فالتعبير فيه يكاد يقتصر على إظهار الخوف من رحيل الرجل والوعد بالبقاء مستعدة لعودته فى أى لحظة ، فيما تكون المرأة أما ووطنا وجنة لذلك الغادر الرجل !!
وهذا المعنى متكرر لدى الشاعرات الثلاثة . ولذلك ، فإنهن حتى فى حالة التعبير عن موقف التمرد والملل من ذلك الغدر الذكورى ، فإنهن فى هذا التعبير يلتزمن بالبقاء مستعدات لعودة ذلك الرجل ، مهيئات لمتعته فى أى وقت . وهذا فى حقيقته رؤية ذكورية بامتياز ، فرضها الرجل بسطوته على المجتمع ، لكن العجيب أن ترى أصداءها مترددة فى أدب من المفترض أنه يعبر عن المرأة وقضاياها .
سابعا ــ ومع إعجابى وتقديرى لإبداع الشاعرات الثلاثة ، إلا أن ما يجب أن نلحظه فيما كتبنه جميعهن أن أدوات التعبير التى اعتمدنها فى إبداعهن تنتمى انتماء كاملا إلى بلاغة الرجل" وإن أجدن استعمالها " وبالتالى انحصر الخيال فى تعبيرهن فى صورة خيال الرجل ، خاصة فى الاستعمال المتكرر لرموز الكتاب والكشاكيل والبحر. وهى رموز ذكورية ذات تاريخ طويل فى ثقافتنا العربية ، بداية من الشعر الجاهلى ممثلا فى بيت زهير بن أبى سلمى الأشهر : " تلوح كباقى الوشم فى ظاهر اليدِ " .
ومن هنا انحصرت قضايا المرأة التى عبرت عنها هذه النماذج فى قضية وحيدة ؛ أو معنى وحيد ، مفاده حق المرأة فى التعبير ورغبتها فى الانعتاق من سلطة الرجل . غير أن هذه القضية ذاتها " لو لحظت صاحبات هذه النماذج " هى من ابتكار الرجل نفسه ، وفى التعبير عنها والإلحاح عليها هو فى نفسه تأكيد لسلطة الرجل . الأمر الذى يجعلنا نقول : إن فى هذه النماذج تعبير عن طاقات شعرية كبيرة ، خاصة فى شمال سيناء ، وهى بالتأكيد تحمل من القدرات الفنية ووسائل التشكيل ما لا نستطيع التقليل شأنه وجهده . لكنها بالكاد لمست روح المرأة ونظرتها المغايرة للعالم ، على الأقل تلك الروح والنظرة التى قرأنا عنها فى أنثوية العلم وفى نساء متوحّشات وفى شعر شمبورسكا ، وحتى فى دلالات الطوطم الأولى فى تلك المجتمعات الأممية ( نسبة إلى الأم ) ؛ أى المجتمعات التى تبنى بالكلية على المرأة ونظرتها فى الحياة ، لا مجتمعات الذكورة التى تحدّد وظائف وأدوارا بعينها للمرأة ، لا تتجاوزها ولا ترى لنفسها غيرها فى المجتمع .