القاهرة 10 يوليو 2018 الساعة 10:15 ص
هالة موسى
في عصر الصورة والطفرة الهائلة التي حققتها الصورة السينمائية يأتي كتاب "الرقابة على السينما.. الحدود والقيود" للناقد الفني حسين بيومي والذي صدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عن سلسلة "فنون" ليطرح أسئلة مغايرة عن الرقابة على السينما، وحدود تلك الرقابة التي تضع قيودا عليها.
يقدم حسين بيومي في هذا الكتاب عددا من الآراء والتجارب العملية لخبراء ومسؤولين، حول مفهوم وواقع الرقابة على السينما، وهو لا يسعى لتقديم إجابات نهائية وقاطعة، كما طرح في مقدمته للكتاب، إنما يطرح مزيدا من الأسئلة في محاولة جادّة لاستكشاف ومناقشة القضية بشكل معمق بين من يشكِّلون الرأي العام من السينمائيين وعموم المثقَّفين لبلورة هذه القضية في ضوء التغيُّرات الاجتماعية السياسية.
يرى الكاتب أن الرقابة على السينما لها عدة صور وأشكال: أولها رقابة المؤلف على نفسه، وهي تسمى" الرقابة الذاتية"، والنوع الثاني هو رقابة جهة الإنتاج سواء كانت تخضع لمعايير وقيم السينما السائدة أم أنها تمتلك جرأة اقتحام مساحات جديدة من الإبداع، أما الشكل الثالث من الرقابة هو رقابة الجمهور، وجمهور السينما الذي يعتبر الأكثر تعددًا من حيث تنوع الثقافة، وتدرج القدرة على التلقي والقابلية للتأثر، وهي شرائح متفاوتة الكثافة من كل الطبقات تجمع بين رجل الشارع وصاحب القلم، وبين الفتاة مراهقة، والرجل.
أمّا الشكل الرابع، وهو المؤثِّر بدرجة أكبر من الصور السابقة، فهو رقابة الدولة على السينما، التي تتمثَّل في جهاز إداري، ومجموعة من اللوائح والقرارات والقوانين الرقابية، تشكِّل معـاً الحدود التي يتحتَّم عدم تجاوزها.
وقد شهدت الرقابة على مستوى العالم تغيرات وتطورات في قيودها وحدودها، تحت تأثير عوامل كثيرة، منها التطور الاجتماعي والسياسي، ونمو الوعي لدى الجمهور، ومساحة الديمقراطية السياسية، وحالة المجتمع في زمن الحرب أو السلم.
والأمر مرتبط في معظم الأحوال بمساحات الحرية الفردية والحريات العامة في المجتمع، فكلما زادت المساحة المتاحة للتعبير قلت الحاجة للرقابة وتضاءلت ضرورتها، والعكس.
وكانت المجتمعات الليبرالية هي الأكثر تطويرا لمفهوم الرقابة، في حين ظلت النظم الاستبدادية الأكثر تشددا فيما يتعلق بحريات التعبير، وبالتالي التمسك برقابة صارمة للدولة أوالحزب على السينما.
ويؤكد بيومي أن السينما العربية عرفت الرقابة مبكِّرا، حتى قبل أن يوجد إنتاج سينمائي قومي، بهدف رقابة ما يعرض من أفلام أجنبية، والسيطرة على ما قد يكون فيها من تحريض ضد النظام السياسي أو الدين.
وفي معرض رصده لآراء النقاد السينمائيين والفنيين في فصل بعنوان"الرقابة أجهزة لقمع الشبكة المعرفية"، يقول الناقد صبحي شفيق: تأليف فيلم ليس كتأليف كتاب، الكتاب لا يحتاج إلا إلى رزمة ورق وقلم، أما تأليف فيلم سينمائي حقيقي يحتاج إلى أموال طائلة, ومن عندهم الأمول الطائلة هم الذين يحددون نوعية الإنتاج فالشبكة من احتكارات السينما هي في رأيي الرقابة الأولى على السينما، وبنود رقابة هذه الشبكة تتمثل في المواصفات التالية، وبدونها لا يصرح بإنتاج أي سيناريو: خلق نجوم يتحولون إلى أوثان، تعلق الوجدان الديني الغيبي "وقد وضع هذا المفهوم بذور العداوة لديننا الإسلامي"، إبراز مفهوم "السوبرمان" أساس النازية والفاشية، بخلق نجوم تقهر الأسود وتدك المباني بقبضة من يدها.
ويتحدَّث المخرج توفيق صالح عن تجربته الشخصية مع الرقابة ويرى أنها كانت تخضع للأهواء الشخصية، ولم يكن ثمة معايير توضع ليسير عليها الرقباء، بل كانت تأتي وفق الشخص أو الجهة المسؤولة أو من يتقدَّم بالعمل الفني.
في حين أن مخرجة الأفلام التسجيلية عطيات الأبنودي تسرد لنا في شهادتها تجربتها مع الرقابة، وتقول:"منذ خروج أول أفلامي التسجيلية "حصان الطير" عام 1971 (10 دقائق/ أبيض وأسود / إنتاج جمعية الفيلم المصرية) واجه الفيلم انقسامـا في الرأي بين النقاد السينمائيين، ما بين الترحيب الشديد والتفاؤل بميلاد جديد للسينما التسجيلية المصرية، إلى التشهير بأن «حصان الطير» ومخرجته يسيئان إلى سمعة مصر والمصريين بتصوير هؤلاء البؤساء في ورشة لصناعة الطوب، أما الرقابة فكان اعتراضها على لقطة لا تستغرق ثوان على الشاشة لطفل في لقطة قريبة يأكل أكلا فقيرا وأنفه تسيل أمام أعيننا. ولم أحصل على تصريح بسفر الفيلم لعرضه في مهرجان "قليبية للسينمائين الهواة" في تونس إلا بحذف اللقطة.
ولا يكتفي حسين بيومي بذكر آراء السينمائيين والنقاد بشكل مباشر، بل يورد آراء في الرقابة من خلال قراءته في الأمر، فيخبرنا في دراسة بعنوان "لمحات من تاريخ القمع للسينما المصرية" عن رأي المخرج هاشم النحاس، وينقل عنه قوله :"ثورة 1952 كشفت عن نظرتها المتدنِّية للسينما، بوضعها ضمن (الملاهي) وألحقت الرقابة على الأفلام بوزارة الداخلية، حتى تضع أصحابها في موضع الشبهة من البداية، وتعزل فنان الفيلم عن أصحاب الرأي".
كما يشير بيومي إلى رأي باحث آخر هو الناقد والسيناريست أحمد عبد العال الذي يرى أن "استقراء تاريخ السينما في مصر يكشف عن مجموعة من الحقائق، أولها أن ثمة توافقـا مذهلا بين ما يُطرَح على الشاشة، وبين احتياجات السواد الأعظم من الجمهور من جهة، وبما يتعارض تماما مع مصالح هذا الجمهور، ويتناقض مع همومه ومشكلاته من جهة أخرى، وثانيها: أن هامش الحرية والتعبير الذي تسمح به الرقابة أحيانا كان مرهونا دائما بموافقة السلطة, وثالثها: أن الرقابة على السينما خضعت عبر تاريخها لعدد من القواعد التي لم تتطوَّر".
ويناقش الكاتب نشأة الجهاز الإداري الذي خصصته الدولة للرقابة على السينما، فيرى بيومي أن معايير وقرارات الجهاز الإداري للرقابة على السينما وموقف الدولة من السينما كأحد أهم الوسائط المعرفية التي يتعامل معها جمهور المشاهدين قد أخذت من أول قرار رسمي قد صدر في 3 يوليو 1945، وهو يقضي "بتشكيل لجنة عليا للحكم على الأفلام، وتمثل اللجنة العليا عدة وزارات: الداخلية، والخارجية، والدفاع الوطني، والتعليم الوطني... إلخ، وممثلو هذه الوزارت يشكلون حسب القرار 50% من أعضاء اللجنة، أما ال50% الثانية فتكون من ممثلي العملية السينمائية: المنتجون، والموزعون، والمستثمرون، والفنانون، وكتاب السيناريو والفقهاء".
وقد أجرى المؤلف عدة حوارات مع مسؤولين سابقين تولوا مسؤولية جهاز الرقابة على المصنفات الفنية، فنقرأ حواره مع الناقد الفني علي أبو شادي الرئيس السابق للرقابة على المصنفات الفنية، يقول أبو شادي:"عندما توليت مسئولية الرقابة وضعت قاعدة بسيطة جدا هي أن أعمل بهدوء وأكسب خطوة جديدة في كل مرة، لأنني لو قفزت إلى الخطوة الأخيرة مباشرة سأتحول إلى كيان "صادم" جدا وسوف تلتهمني التيارات المعادية، مثلا حذفت ستة مشاهد من فيلم "دانتيلا"، وبالإمكان السماح بعرضها بعد فترة، لكن المهم اختيار الوقت المناسب لعرض هذه الجرعة الكبيرة من الجنس، واليوم لو عرضت كاملة ستثير صدمة كبيرة".
ويسأله حسين بيومي عن المواءمات السياسية التي كان يضطر إليها رئيس جهاز الرقابة على المصنفات الفنية، ويجيب علي أبو شادي:" أزعم أنني أديت واجبي كاملا في حدود ما استطعت، وحدود الظرف التاريخي الذي أعيش فيه، وأيضًا في حدود إمكانياتي وقناعاتي الشخصية، وقد تركت الغلبة دائمًا لحق الاختلاف وحرية الآخر في أن يبدع حتى لو كان هذا الحق وتلك الحرية ضد اقتناعي الشخصي سياسيا وثقافيا، ولم أتدخل مطلقًا كناقد في مستوى الأعمال الفنية، كنت أحيانًا أوافق على بعض هذه الأعمال وفي داخلي شعور بأنني أخون نفسي".
ويتابع حسين بيومي أسئلته عن مدى توافق قرارات جهاز الرقابة مع القانون، فيجيب أبو شادي:" جعلت صورة الرقابة كما يجب أن تكون، أي تتعامل بالقانون فقط وليس بأي شيء آخر، وتحمي المبدع كما تحمي المجتمع، وقد دخلت الرقابة بإيماني المطلق بالديمقراطية وحرية المبدع - قدر استطاعتي واستطاعته - وحقه في الاختلاف معي ومع الدولة والقانون أحيانًا، وفي إطار ذلك يحكمنا قانون صارم جدًا في بعض الحالات ومرن جدًا في بعضها الآخر، وأزعم أنني خلال 39 شهرًا هي مدة عملي بالرقابة تغير شكلها جوهريًا، وأتحدى من يقول أن شخصًا واحدًا شكا من تعاملي معه على المستويين الشخصي والموضوعي".
وفي حوار آخر ورد في الكتاب مع الناقد الراحل مدكور ثابت رئيس الرقابة على المصنفات الفنية الأسبق، وسؤال عن مدى اختلاف الرقابة من مجتمع لآخر يجيب ثابت:" بالتأكيد حتى إذا افترضنا أن كل إدارات الرقابة تتبنى حرية التعبير فإن الحرية ذاتها حرية ترتبط بالعقد الاجتماعي الذي تنشأ فيه هذه الحرية، وبهذا فالحرية في مصر غير الحرية في باريس، بدليل أن عناق فتى وفتاة في العلانية في أحد شوارع باريس هو منظر مألوف لجميع المارة في هذا المجتمع، في حين أن نفس المنظر يصعب أن يقوم به من يطالب بالحرية في مصر، ولا يستطيع أن يحققه في ميدان التحرير مثلا، وبالتالي فهذا الاختلاف في مفهوم الحرية من مجتمع لآخر يعني أن الرقابة مختلفة من مجتمع لآخر أيضًا".
لكن مع موجة الأفلام التي أثارت ذعر المجتمع مؤخرا والتي تتعامل بجرأة غير مسبوقة سواء على مستوى التصوير والمشهد أو على مستوى لغة الحوار بين الشخصيات نتساءل عن أهمية وجود رقابة تخضع هذه الأفلام للمساءلة، ونتمثل ما رأيناه مؤخرا من اعتراض على بعض الأفلام السينمائية التي طرحت ، والتي يتهمها البعض بأنها وراء ما انتشر في المجتمع من صور سلبية سواء شيوع بعض الألفاظ الخارجة والتي لا تناسب طبيعة المجتمع المصري، أو انتشار ظاهرة مثل التحرش الجنسي التي بدأت تطول كل الفتيات اللائي يمشين في الشارع غير آمنات على أنفسهن، وأخص بالذكر ظاهرة أفلام "السبكي" التي بدأت تنتجها شركة السبكي للإنتاج السينمائي في السنوات الخمس الأخيرة، ونتساءل هل مطلوب من جهاز الرقابة على المصنفات الفنية أن يتدخل برفض هذه الأفلام أو مشاهد منها التي تساهم وبشكل كبير في انتشار ظواهر التحرش والعنف؟ أم نطالب بالحرية التامة للإبداع ونسمح للغث والجيد أن يتجاورا ونكتفي بدور الجمهور الذي نراهن على وعيه، ونترك له الرقابة الشخصية على هذه الأفلام، بأن يقوم بمقاطعتها، مما يضطر المنتجين إلى البحث عن أفلام نظيفة لا تكرس للعنف ولا للقبح؟ إنها معضلة كبيرة تطرحها هذه الموجة من الأفلام.
وقد أثار فيلم "حلاوة روح" الذي قامت ببطولته الفنانة هيفاء وهبي وأنتجته شركة "السبكي"، جدلا كبيرا بين المشاهدين، فوجدنا آراء متطرفة تطالب بمنع الفيلم، بل منع أحمد السبكي من إنتاج مثل هذه الأفلام من البداية، وآراء أخرى أقل تطرفا ترفض القيمة الجمالية المتدنية للفيلم ومع ذلك تطالب بالحرية المطلقة للإبداع، فالمجتمع ليس قاصرا حتى نجعل من جهاز رقابي وصيا عليه يختار له ما يشاهده وما لا يجب أن يشاهده.
ومن هنا أتساءل هل ثمة حاجة إلى البحث عن مفهوم آخر غير الرقابة لضبط العلاقة بين المنتج وصانع الفيلم والمتلقي ؟ حتما هناك حاجة للبحث عن مفهوم آخر للتعامل مع الأمر دون الحاجة إلى الرقابة، فداخل كل إنسان رقيب يمكن له أن يفرق بين الجيد والرديء، والمجتمع قادر على أن يكون لدى أفراده حالة من الوعي برفض القبح ، فتكوين ذهنية واعية تستطيع التمييز هو الخطوة الأهم التي يجب أن يشتغل عليها الجميع.