القاهرة 03 يوليو 2018 الساعة 11:24 ص
ريم أبو الفضل
تشكل السرديات التقليدية بعض ملامح المجتمعات، بينما سردية السيرة الذاتية هي من تمنحها معالمها الحقيقية، وتكسبها الحياة حيث ترتكز على رؤية مجتمعية غير فردية وإن بدت في ظاهرها سيرة ذاتية.
وبينما أسس "فيليب لوجون" في السبعينات لرواية السيرة لذاتية بكتابه " أدب السيرة الذاتية في فرنسا" واصفا إياها بالمحكي الاسترجاعي الذي يقوم به شخص واقعي مرتكزا على حياته الفردية، وعلى شخصيته بصفة خاصة.
إلا أن المقال يستدعي ذكري لمقام الدكتور "طه حسين" المؤسس الفعلي للسيرة الذاتية الذي سبق "لوجون" عام 1929 .
جسد "محسن عبد العزيز" في بطله نموذجا روائيا واقعيا يجمع تحديات إنسانية فعلية في أوج تصاعدها، تتوفر فيها الديناميكية بما فيها من إمكانات وتناقضات.
كما لم يجعل من نصه منصة خطابية، بل دفع به للتفاعل مع القضايا المتولدة من تغيير الوضع الاجتماعي وبمقتضى ذلك قدم الوعي المعكوس كنموذج "الشيخ هلال" الذي كان يضع ميكرفون في الأعياد على السيارة ويطوف بها، ليغيظ النصارى،واعتبار ذلك رصدا لتحولات المجتمع، وإشكالية تبدل القيم في مجتمع يتناقض مع نفسه في نموذجمشايخ الجمعية الشرعية.
وبينما ميّز "إدوين موير" بين رواية الشخصية ورواية الحدث إلا أن رواية "شيطان صغير عابر" جمعت بين رواية الشخصية من خلال البطل السارد ورفاقه وشخصيات قريته التي غاص بداخلهم من خلال أحداث فيصلية كانت موازية للتاريخ حينها "فترة التسعينات".
كما ينقلنا لتجربة إنسانية وانطباعها على الذات وجملة التجارب التي عاشها في القرية والعمل، فكان السرد رأسيا من خلال الشخصية وأفقيا من خلال الحدث
فتعدد الشخصيات واختلافها أعطى العمل بعدًا وعمقًا.
أحلام مجدي أبو مندر في العمل والكرة والهجرة، و التي تبخرت وكانت رمزا لأحلام الشباب حينذاك.
"عبد الرشيد" السائق الذي نسب الكاتب له جملة يخاطب فيها ربه بخفة ظل ممزوجة بسوء أدب "أوعي تفتكر إن أنا بتوضى" .
"الدمنهوري"الذي أطلق صيحة يسامح فيها محمدين وهو متشحا بكفنه الأبيض.
ثم كانت معاناة المكوث في القاهرة والتزامات المعيشة وغواية العمل بالصحافة والحديث عن فساد الصحافة ممثلا في "رافع" حتى يطلق الكاتب جملة قاسية حين لم يجد حلمه إلا كابوسا.
لعب المكان دورا رئيسيا في الرواية عبر دلالاته، واتخذ قيمته من خلال علاقته بالشخصية والحدث، فثمة علاقة تأثير وتأثر بين المكان والشخصية, حتى يصير أحيانا المكان قطعة شعورية من الشخصية كما في المندرة التي أصبح البطل ملتصقا بها، ومن قبلها البيت الذي رفض مغادرته بعد وفاة أمه والشارع الكبير والحارة، وصولا للباب الذي كان يرميه بالحجارة عند غضبه من أمه فبدت الأماكن في الرواية وكأنها خزانة للحالة الشعورية للبطل.
لا يمكن اعتبار الرواية "بيكاريسكية" رغم معاناة البطل حيث لم يكن صعلوكا، كما احتوت على شخصيات نبيلة مثل الجدة والشيخ محمد أبو عبد السلام ،وغيرهما، ولا يمكن إدراجها تحت أدب المعاناة رغم أن البطل يتيم،ولكن يمكن اعتبارها رواية تستمد آفاق جغرافيتها من طبيعة الواقع الاجتماعي مهما كان انتماؤها الطبقي، وذلك لتلك الإنسانية العالية التي انطوت عليها الرواية من خلال البطل في علاقاته وحبه البريء ووصفه لأبيه حين يدخل الغيط حافيا وكأنه أمام في صلاة والنباتات حوله والمكاشفة والصدق الذي يواجه به أهل القرية أطفالهم حتى عن الموت.
وكأن القلب الذي نزف دمًا حين تفوه بالدعاء على أمه مازال مفتوحًا نازفا، فيغمس فيه "محسن عبد العزيز" قلمه بدلا من محبرته ثم يكتب كلماته ليس لنقل الألم ساردا، ولكن لسرد الصدق الذي لامس قلوبنا وآلمها.