القاهرة 12 يونيو 2018 الساعة 11:29 ص
طلعت رضوان
اقتربتُ من الأديب مكاوى سعيد خاصة عندما كان يعمل مع الناشرمحمد صلاح، فأصدرا كتابى (الثقافة المصرية والأصولية الدينية: قبل وبعد يوليو1952) عام2010. وكنتُ كلما ذهبتُ إلى (زهرة البستان) أجد مكاوى سعيد. وأشارأصدقاؤه على رصيف المقهى حيث يجلس ويكتب على اللاب: هذا هومكتب مكاوى سعيد. فكنتُ أقول لنفسى: هذا كائن خـُـلق ليُـبدع وسط الناس. ولما قرأتُ روايته (تغريدة البجعة) وجدتُ الكثيرمن التشابهات بينه والراوى الذى أدمن التردد على المقاهى والبارات. وهذا ما أتاح له التعرف على العديد من الأشخاص الذين تراوحتْ معرفته بهم بين الصداقة العميقة، والتعارف العابرواختارله الكاتب شخصية المبدع الذى يكتب الشعر. والمهتم بالقضايا العامة. وانخرط فى بداية حياته بأحد تنظيمات اليسار. ولكن كل هذا لم يحقق له الاستقرارالنفسى أوالعقلى. وفى لحظة صدق مع النفس قال ((لم أفعل شيئًا صائبًا فى حياتى. أهدرتُ كل الفرص التى كان من الممكن أنْ تُغيّرمصيرى)) وقد يكون رأيى ضرب تخيل، أوأقرب للترجيح.
فى الرواية علاقة الراوى بحبيبة عمره هند. علاقة رومانسة فى مناخ واقعى. واقعية تتردى لدرجة الإنحطاط ، واقعية يغلب عليها تجاهل أى بُعد إنسانى فى علاقة البشربعضهم ببعض) هند أحبّت الراوى بتلقائية وصدق. أحبّتْ فيه الإنسان العاطفى المحب للبشر. وأحبّتْ فيه الشاعر الواعد. عفوية حب هند ملأتْ روح الراوى بطيفها النورانى. فجأة يضرب القدرالغاشم ضربته القاتلة. تموت هند فى لحظة عبثية، إذْ تسقط عليها دانة من مخلفات حرب أكتوبر1973 كانت تذكارًا أراد طلبة الكشافة الاحتفاظ بها فى الجامعة.
تعرّف الراوى على ياسمين. طلبتْ منه أن يُبدى رأيه فى أشعارها. عقله المضطرب وحياته العبثية جسّدا له روح هند فى وجه وجسد ياسمين. يُصدّق الراوى نفسه ويعتقد أنّ (هند) قد عادت ((بنفس نحافتها وبملامح قريبة منها)) ويقول لطبيبه النفسى ((هل تعلم أننى أحيانًا أستكمل حوارات مع ياسمين كانت قد توقفت بينى وبين هند منذ عشرين عامًا ؟))
وفى ثنائية حب أخرى جمعتْ بين عصام وسامنثا. عصام مصرى فمن هى سامنثا؟ إنها سيدة أعمال سنغافورية. فقيرة المفاتن. وعندما طلبتْ الطلاق عاد عصام إلى مصروهويبكى، وساءتْ حالته النفسية والعقلية، لدرجة إهماله الفن التشكيلى الذى أبدع فيه، تطرف فى الزهد تطرفًا فاق التصوف والدروشة. وصل التطورالدرامى لنهاية التى لم يتوقعها القارىء. تموت سامنثا فجأة. وقبل وفاتها (أثناء إجراءات الطلاق) أصرّتْ على أنْ تُبرىء عصام من أية حقوق لها. وأكثرمن ذلك أنها عرضتْ عليه أنْ يُقاسمها مالها كما تنص شريعتها البوذية، لذلك كان الكاتب بارعًا عندما جعل وجه سامنثا أحد الوجوه التى يراها الراوى ويحبها (مثل وجه أمه) وهويلفظ أنفاسه الأخيرة.
أما فى ثنائية الحب بين زينب عشيقة الراوى: زينب هربتْ من جحيم الفقر فى الصعيد إلى جحيم الصعلكة فى القاهرة. تــُـحاول أنْ تُجرّب حظها فى الصحافة الخاصة بنظام القطعة. تعشق الحياة بحلوها ومرها. ترفض أنْ تأخذ ولاتُعطى. لذلك فهى تهب جسدها للراوى عن طيب خاطرمقابل عطفه عليها. ولأنها عاشقة للحياة. شـدّ إنتباهها شخص أجنبى بملابس مهلهلة يحمل على ظهره جيتارًا خشبيًا. ولكنه يختفى. ظلّتْ تجوب شوارع القاهرة وباراتها لعدة أيام. أخيرًا وجدته. إنه خوليوالمكسيكى الملحن وصاحب فرقة شعبية متجولة. وعندما رأى زينب، أيقن أنها بشارة السماء. وبعد أنْ سافرإلى بلده أرسل لها دعوة لزيارة المكسيك. وفى الليلة السابقة على السفررفضتْ المعاشرة الجسدية مع الراوى. فرغم أنها لم ترتبط برباط الزواج الرسمى بخوليوفإنّ الحب طهّرها وخلّصها من حياة الصعلكة. وعندما عرض عليها الراوى بعض النقود رفضت وقالت له إنّ خوليو أرسل لها مبلغًا كبيرًا وتذكرة الطائرة.
وثنائية ثالثة بطلها أحمد الحلو وزوجته شاهيناز. بدأ أحمد حياته ماركسيًا. وشاهيناز رغم أنها من أسرة ثرية، كانت تُفضل تدخين سجايركليوباتره التى يُدخنها أحمد. وكانت تسير وهى تضع تحت إبطيها مجلد رأس المال لماركس. وبعد أنْ انتقل أحمد من الماركسية إلى الأصولية الإسلامية، انتقلتْ معه شاهينازبالتبعية. علاقة الحب بين هذا الثنائى علاقة ملتبسة. شاهينازهى مجرد (ظل) لحبيبها وزوجها أحمد. وإذا كان أحمد فى تحوله الجديد قـدّم استقالته من الحكومة (الكافرة) وفضّل أنْ يبيع البسبوسة وشرائط الأدعية والقرآن، فإنّ شاهينازتنقبتْ وتفرّغتْ لإعطاء دروس دينية للأطفال فى مدرسة (إسلامية) بعد أنْ كانت تحمل الكلاشنكوف. وكان أحمد يقول عنها إنها برعم الثورة من أجل الكادحين.
وفى ثنائية حب رابعة بطلها كريم (أحد أطفال الشوارع) كريم أحبّ زميلته وردة. وفى لحظة غضب شوّه وجهها. أبلغتْ وردة عنه ودخل السجن بسببها. ولأنّ الراوى كان وثيق الصلة بأطفال الشوارع بسبب الفيلم التسجيلى المزمع إنتاجه، فإنه كان يتابع تطورالعلاقة بين كريم ووردة. فذكرأنه رغم أنّ كريم ((ثأرلنفسه وطردها من وسط البلد. كنتُ حين أنكأ جرحه وأحدّثه عنها يكاد يبكى. وكان يتابع أخبارها دون أنْ تدرى مخافة أنْ يؤذيها أحد فيهرع لنجدتها)) فقال الراوى ((لأولاد الشوارع قلوب أيضًا. وعندما يحبون لايحتمون خلف رمزية الشعر. أولاد الشوارع ليس لديهم ما يتخلون عنه))
ذكرالكاتب على لسان الراوى قصة الحب العميقة التى عاشها الفنان المكسيكى (دييجو ريفيرا) وزوجته الفنانة التشكيلية (فريدا كالو) التى أقعدها المرض وأصبحت عاجزة عن الخروج والتواصل مع العالم. فماذا فعل الزوج العاشق؟ رسم على أسقف الشقة وجدرانها وأعمدتها كل الأشخاص الذين كانت تحبهم زوجته. والأماكن التى كانت تشتاق اليها: المزارع والسماء والنباتات التى تحبها. والحياة الطبيعية لسكان المكسيك التى تعشقها إلخ)) وأعتقد أنّ قصة الحب بين الفنان دييجوريفيرا وزوجته قد (عمّقت) علاقات الحب داخل النص الروائى، رغم أنها قد تبدودخيلة على السياق العام للرواية. ولكن إذا علمنا أنّ الرواية تخلومن أية أخبارعن زينب بعد سفرها إلى المكسيك، فإنّ الكاتب قـدّم البديل. وكأنّ قصة الحب الحقيقية التى جمعت بين الفنان دييجووزوجته فريدا، سوف تتجدد بين زينب وخوليو. الكاتب هنا استخدم الإيحاء الذى هوأكثرعمقــًـًا من الإفصاح.
بناء الرواية تشكّل على نظام الدوائر. وداخل الدوائرثنائيات الحب المتنوعة. وداخل هذه الدوائربعض المحاورالتى أبرزتها الرواية. فنجد محورأطفال الشوارع. والبطلة هى مارشا الأمريكية التى تستميت لإنتاج الفيلم التسجيلى عن أطفال الشواع، ليس حبا فيهم وإنما مقابل الكثيرمن الأموال من جهات أمريكية وأوروبية.
محورآخرهوانتقال بعض اليساريين المصريين من الماركسية إلى الأصولية الإسلامية. فى هذا المحورركّزالكاتب على شخصية أحمد الحلوالذى بدأ حياته ماركسيًا وتم إعتقاله عدة مرات، وانتهى إلى أصولى يرى أنّ المجتمع المصرى يعيش مرحلة الجاهلية الحديثة. وأنّ الكفرانتشربين الناس. وأنّ أموال الدولة والشركات حرام. الفريق الآخرمن الماركسيين المتحولين هم الذين تخلوا عن هموم العمال وفضّلوا ممارسة الأنشطة الطفيلية. وإذا كانت الأصولية الدينية تُشكّل خطرًا على أى مجتمع عـصرى، فإنّ الاقتصاد الطفيلى لايقل خطورة. وعن العلاقة بين الأصوليات الدينية والرأسمالية الطفيلية كتب د.مراد وهبة ((إنها وحدة ضد الحضارة الإنسانية. الأولى تمنع إعمال العقل والثانية ترفض القيم الحضارية لأنها تنمورأسماليـًـا بدون تنمية. وأنّ الأصولية الدينية تقتل الإبداع والتقدم، والرأسمالية الطفيلية تُفكك المجتمع)) (جرثومة التخلف– مكتبة الأسرة عام 98 ص 155 ، 167 ، 180)
نسج الكاتب شخصية الراوى بلغة الفن. فقد انطبعتْ العبثية على علاقاته بأقرب الناس إليه. فهويعامل أمه بجفاء، ويعترف هوبذلك ((ظلّتْ أمى حبيسة الشقة لعاميْن. وتكالبتْ عليها الأمراض والعلل. كنتُ أتركها للجيران يرعونها ويهتمون بها. وأعود ليلا مترنحًا ومنتشيًا. ألقى عليها نظرة واحدة من بعيد دون أنْ أجرؤحتى على الاقتراب منها وتقبيلها)) ولكن عندما بلغه خبروفاتها تغيّرتْ حالته الشعورية تمامًا، فينتبه إلى أنها (( لن توقظنى بعد اليوم. رفعتُ الملاءة البيضاء التى كانت ترقد تحتها بأمان. احتضنتها وقبّلتها وقاومتُ الجيران الذين كانوا يدفعوننى بعيدًا وهم يصرخون فى وجهى: حرام. أحيانًا كثيرة أتمنى أنْ أدفع عمرى كله مقابل أنْ تعود إلى الحياة ولوليلة واحدة. أحملها فوق ظهرى وأطوف بها العالم)) ورغم مرورالشهورعلى وفاتها، كان كلّما دخل الشقة يستنشق رائحة أمه. ويستحضررائحة طبيخها وذكرياته المخبوءة معها. وعندما أدرك أنّ نهاية حياته تقترب، كتب لأولاد شقيقتيْه شهادات استثماربمالغ كبيرة. وأكثرمن ذلك فإنه ينتشل كريم من حياة التشرد والصعلكة، ويشترى له محلا تجاريًا ليبدأ حياة جديدة مستقيمة ومستقرة.
وكما فعل الراوى كذلك كان يفعل مكاوى سعيد وهوما شاهدته بنفسى.