القاهرة 05 يونيو 2018 الساعة 11:47 ص
د. حسام جايل
في حكاياتها الصغيرة التي تحمل عنواناً رئيسياً هو "تاء التأنيث الساكنة" تقدم لنا الكاتبة د. فاطمة الصعيدي سيرة ذاتية مغلفة بالأدب القصصي الجميل؛ يذكرنا بما فعله عباقرة الأدب العربي طه حسين في الأيام، والعقاد في أنا، وأحمد لطفي السيد في حياتي إنها تكتب عن نفسها من خلال الناس، وتكتب عن الناس من خلال الكتابة عن نفسها وعن عائلتها في أسلوب سهل وبسيط وشائق.
إن العنوان الذي اخترته "وهو تاء التأنيث الساكنة" يشي نحويّا بالثبات والسكون والاستسلام؛ غير أن الحكايات الصغيرة في المبنى الكبيرة في الدلالة تجعل هذه التاء دائمة الحركة والنشاط، فالخروج والحركة والسيرة شغلها الشاغل ص 14.
ورغم أن" ناس زمان قاعدين جوه دماغ الكاتبة" ص34، إلا أنها تحار في البدء: من أين أبدأ؟ من بيت جدي .. من بيتنا .. من مدرسة أبو الغر الابتدائية للبنين.. من الكرم حيث مدرستي الإعدادية.. من الوكالة،دكان البقالة الكبيرة في قريتنا ص8.
ذلك أن الحكايات كبيرة والدلالات كبيرة وهي تتساءل لتشي بقيم كل هذه الأشياء وأنها متقاربة في دلالتها وقيمها.
ونلحظ في هذه السيرة القصصية الحضور الطاغي للأب متمثلاً في بدأ الحكايات به ص14،وأن أول كلمة نطقت بها الصغيرة كانت كلمة "على" اسم أبيها، وكذلك تنتهي الحكايات بكلمة الأستاذ محدثاً أهل قريته عن الحرب: سمعتم سيرتكم جت في الراديوص104. كما أن كنية الفتاة أنها بنت الأستاذ، ولا يكف حضور الأب عن ممارسة تأثيره في الكاتبة أو الصغيرة في التوجيه والتعليم والحب في مواطن كثيرة.
إن الصغيرة / الكاتبة لا تكتب من خلال الرصد، بل من خلال التوحد من الأشياء والتماهي معها؛ كما تحدثنا عن تماثل وحدتها مع وحدة اللمبة الكشف المتروكة وحيدة في جزء موحش من البيت لكنها جريئة ومتوهجة.
كذلك تتوحد مع كيسها الذي ترفض تعليقه في رقبتها، وتصر على إمساكه بيدها ويبلغ ذلك التوحد مداه في محاورة طويلة بينها وبين الحمار الذي أقلها مرتين مرة إلى الحقل مع جدها لأمها، ومرة بمفردهاص56،60. ويدل ذلك على أن الصغيرة لا تنفك تشيد بعالم البراءة والنقاء الذي كانت تعيشه في تلك الأيام، وصرنا جميعا نفتقده الأن.
إن الصغيرة التي تتميز بلماضة لافتة للنظر؛ لا تكف عن ممارسة براعتها في هذه الحكايات القصيرة من تصوير الأشياء ورسمها بدقة وإتقان: مثل رسمها لعالم الطفولة؛ كتصوير قرص الشمس البازغ،ص11. وكذلك تصوير العصافير الواقفة على أسلاك الكهرباء ص11، أو سؤالها متى يقول الراديو: هنا كفر الزيات،ص13. أو نظرتها للنيران المشتعلة داخل الفرن،ص13. وتصويرها لأبلة فهيمة، وأبلة فضيلة وغير ذلك الكثير. ويتبع هذه عنايتها باختيار الشخصيات النموذج والمتفردة في عوالم القرية، وفلسفة هذه الشخصيات والسؤال اموجودي الكامن خلف كل منها. ورغم أن هذه الشخصيات هامشية في الحياة وفي الحكايات هنا؛ لكن الكاتبة تبحث وتحدثنا عن التأثير العميق لهذه الشخصيات في حياتنا؛ بحيث يصبح سلوك هؤلاء المهمشين هو المتن لحياة القرية. وقس على ذلك.
ومن هذه الشخصيات؛ شخصية أم الحرس زوجة الشيخ الذي يحفظها القرآن في الكتاب تلك السيدة التي تستغل أطفال الكتاب في أعمالها المنزلية، وتجيد الكاتبة رسمها الشكلي والجسدي،ص37. ثم تنقل إلى شخصية صلاح إشعر الذي يقوم بعمل المنادي على الموتى، وعلى اللحم، وكل ما من شأنه أن يجتمع الناس له، وتسأل الكاتبة كيف له أن ينادي عليه وهو من كان ينادي على الناس الموتى؟ ص43.
ثم تنتقل بعد ذلك إلى شخصية فيشة "صاحبة الأخبار أو المعددة" وهي النسخة الأنثوية من صلاح إشعر نظراً لما يميز المرأة من مهارات نسوية لا يستطيع صلاح العمل بها؛ فهي معددة وخاطبة، وتقوم بكل ما يتصل بالحزن والفرح على السواء. ويكون إتقانها لعملها حسب مكانة الشخص المتوفى، أو المتزوج، وبحسب قيمة ما تتقاضاه.ص45.
ولا عجب أن تقوم الكاتبة في حكاياتها بسرد حكايات هذه الشخصيات ( أم الحرش، الشيخ ليل، صلاح إشعر، فيشة، الهلالي، بائع الملح، المطرب) في تسلس وترتيب مقصود؛ حيث يشغلون مساحة متسلسلة من الحكايات من ص 37 إلى ص 56 دلالة على أنهم يشكلون متنا لحياتنا رغم أنهم هامشيون في نظر المجتمع.
إن الكاتبة لا تكتب لتحدثنا عن نفسها كما أوهمتنا في المقدمة؛ لكنها تكتب لتحدثنا عن الوطن من خلال نفسها ومن خلال الهامشيين والحقول والقرية والمترو، ومن خلال ألقابها التي تعددت وكثرت؛ فكان منها: ( بنت الأستاذ، حفيدة الأستاذ، الصعيدية، اللمضة أم نص لسان، المصراوية، بنت مصر، البندرية ص 94) وكل لقب يحمل دلالة ثقافية واجتماعية تشي بالتغيير والتحول كما يشي بمضمرات تلمح بها الكاتبة.
ولأن الوطن هو محور الحكايات في واقع الأمر؛ فإن الكاتبة لا تكف عن ممارسة الإدانة الناعمة؛ سواء من خلال طرح الأسئلة كما في سؤالها عن سبب تسمية الشيخ ليل بهذا الاسم ص41. أو سؤالها عن أخبار فيشة، أو أسئلتها الكثيرة لجدتها وجدها وأبيها. أو سؤالها لنفسها ص39. أو عن طريق المفارقة والتوازي: مثل وقوع الجدة من على السلم واستحضار المشهد في سلم المترو في القاهرة. أو عن طريق الثورة الصامتة عند الأم التي تأتمر بأوامر الجدة أم الزوج وتشتعل أو تزداد نيران الفرن اشتعالا بدلا أو معادلا موضوعيا لاشتعال داخلي لنيران الأم الطيبة ص18. أو عن طريق استحضار ماض جميل: مثل شرب التلاميذ للبن شركة مصر للألبان ص85، أو صورة عم بسطاويسي ص84 أو مقتل الهلالي ص 47.
إن كتابة د. فاطمة الصعيدي تتميز بالجمل الموقعة المموسقة، والتعابير السلسة. فهي تستخدم أسلوبا بسيطا فصيحا مع الحرص على استخدام مفردات وتعابير من بيئة القرية: مثل الوتدو" خلي العيال تاكل وتغور" و غيرها ص 27و48. أو الموال الذي كان يتغنى به الهلالي ص48 أو المطر ص 49..إلخ.
كذلك تجيد الكاتبة رسم الصور كما في قولها" وفي عينيها غضب يزيد من اشتعال النيران المنبعثة أمامها ص27 وغير ذلك كثير.
كما تتميز كتابتها بشيء من لوازم الكتابة النسوية؛ وهي: التفاصيل أو المقدرة على سرد التفاصيل الكثيرة في شيء من التشويق والإثارة والتلميح والجاذبية : مثل رسم صورة أم الحرش والمطرب، والحديث عن الجدة وعن المدرسة وعن كتاب الشيخ عبد الصمد وتلاميذه، والمقارنة بين البيت اللبني القديم والبيت الخرساني البارد. ورسم صورة الخال ودراسته وعلاقته بالأدب.
إن الكاتبة- كما قلت- تكتب بحثا عن بكارة الحياة التي كانت. وعن الوطن المفقود الذي نحلم به أن يكون أجمل مما هو عليه ومما كان عليه.
إنني أنتظر الأجزاء التالية لهذا الجزء على شوق ، وأدعو الكاتبة العزيزة إلى الاستمرار في هذا الإبداع المتميز.