القاهرة 22 مايو 2018 الساعة 11:27 ص
أسامة الحداد
مع صعود قصيدة النثر إلى واجهة المشهد الشعري - في ظل صراع اجتماعي وسياسي بين قصيدة النثر والأشكال الشعرية السابقة عليها- قدم شعراء قصيدة النثر أنماطا شعرية متنوعة واقتراحات عديدة لكتابتها وحملت قيما جمالية ومعرفية متعددة ... إن قصيدة النثر نص متمرد يبحث عن حريته ويصنع فضاءاته، ويتجاوز المعني كفكرة مسبقة، ويسعي لفرض أداءه الشعري على اللغة، وينتصر للإنسان برغباته وخطاياه وهزائمه وصراعاته المتعددة مع الذات والعالم ... وفي السنوات القليلة الماضية بدا صعود وتعدد الأصوات الناعمة في قصيدة النثر كظاهرة في المشهد الشعري الآني وتجاوز أغلبهن الهامش الضيق في الصراع الاجتماعي والعاطفي لرحابة الإنسانية وفق مفاهيم تشاركية بعيدا عن صراخ المرآة ضد التمييز، وهذا لايعني أن هناك قصيدة ذكورية وأخرى أنثوية بقدر ما يكشف عن تحولات داخل البني الاجتماعية والثقافية تتشكل الآن عقب ثورة يناير وثورات الربيع العربي والأحداث التي أعقبتها – فضلا عن دور مواقع التواصل الاجتماعي في كسر عزلة وتهميش المرآة - وتكشف عن تطور تأخر كثيرا وجاء مواكبا ومتزامنا مع خطاب سلفي لا يري في المرآة غير جسدها كعورة ويلقي بخطاب رجعي لقمع المجتمع وانقسامه، وهو خطاب شعري تقدمي يسعي للمواجهة بترسيخ الوعي ضد تهميش المرأة وقهرها والتأكيد على إنسانيتها وأن قهرها هو قهر للمجتمع ...
وبعد جيلي الثمانينيات والتسعينيات حيث كانت الأصوات الشعرية النسائية قليلة نسبيا مع وجود شاعرات لهن خصوصيتهن قدمن منتجا شعريا متميزا مثل غادة نبيل وإيمان مرسال وهدى حسين وعلية عبد السلام وبهية طلب وأمل جمال وبعدهن بقليل نجاة على وجيهان عمر وهبة عصام ظهرت موجة جديدة من الأصوات الشعرية المتميزة من الجيل التالي لهن يقدمن نصوصا تحمل أنساقا جمالية ومعرفية متنوعة واقتراحات شعرية متباينة بين نصوص تنطلق من المعرفي إلى الإنساني وأخري رؤيوية وبعضها شفاهي يعني بتفاصيل اليومي والمعتاد وهناك من تنحو قرب السوريالية الجديدة وأغلبهن تنطلق نصوصهن من مخيلة حرة تقدم خطابا جماليا يواجه قسوة العالم وإشكالياته المتشابكة شديدة التعقيد ويتقدمن خطوة واسعة ضد قهر المرأة بخطاب شعري يبتعد عن ظل الرجل وقضية التمييز ضد المرأة، وبالتزامن مع هذا يأتي ديوان الشاعرة زيزي شوشة الأول غرباء علقوا بحذائي لتقدم خطابا شعريا يحمل تفرده وخصوصيته عبر مجموعة شعرية يمكن القول أنها قصيدة واحدة ممتدة وأن عناوين القصائد ليست أكثر من إشارات جانبية وأن تقسيم النص إلى قصائد الليل وقصائد الغرفة مراوغة ولعبة شعرية تكشف عن الليل كزمن والغرفة كجغرافيا للمكان تعيش الذات الشاعرة داخلهما وتسعي للتخلص من قيودهما وسلطويتهما ....
وهو ما يكمن داخل النص كخطاب مسكوت عنه فتقول في قصيدة " أتحاشى الضوء الساذج "
أنا المنحنية دائما،
المنتحرة يوميا بجرعة زائدة من الحياة
المرتجفة في الأماكن المفتوحة
هنا مفتاح للقراءة وباب للمزيد من التأويلات فما يبدو كدلالة مركزية هو لعبة تراوغنا بها الذات الشاعرة فالليل والمفردات التي تخصه والغرفة جميعها أطر لخطاب شعري يبحث عن الحرية ويحاول اكتشاف الحياة إنها مغامرة ضد الخروج للنهار تسعي خلاله الذات الشاعرة للانفلات من سلطات متراكمة والتخلص من القيود كافة من خلال الصراع مع الذات والآخر / الآخرون والحزن الذي يبدو جليا داخل النص هو احتفاء بحياة بديلة والموت ليس سلبيا وهذا ليس تأويلا بقدر ما هى رؤية للخطاب الشعري في ديوان زيزى شوشة الأول غرباء علقوا بحذائي والذى تضمن قسمين " قصائد الليل " و"قصائدالغرفة " ونلمح من الوهلة الأولي ثمة اختلافا على مستوى الشكل وآلية السرد بين قسمي الديوان حيث تأتي النصوص بشكلها الحر المعتاد وبجمل قصيرة في قصائد الليل واسخدام المونولوج والدفقة الشعرية والشعورية وبإيقاع سريع ومجاز ممتد يعني بالجمالي والتى تضم 11 قصيدة بينما جاءت عددا من قصائد القسم الثاني الذي تضمن 22 قصيدة بمستوى آخر للسرد حيث يغلب السرد الحكائي كما جاءت بعض القصائد على شكل السطر الشعري وكتابة الكتلة وبجمل طويلة وممتدة مع استخدام جمل نثرية وتوظيفها داخل النص، وما بين الليل ومرادفاته، والغرفة يتشكل جسد النص الذى يتدفق برغم قسميه كقصيدة ممتدة تحمل تفاصيل الحياة والأسرة وتواجه قسوة العالم وتبحث خلالها الذات عن تحققها ووجودها،إنها في صراع متواصل مع الذات التى تراها فى تحولاتها وتشاهدها في خطاب يبدو ذاتيا غير أنه أقرب إلى الاعتراف ومواجهة الأنا وتقديم تصورات عنها كذلك، وكأنها مرآة تعكس صورتها كما في قصيدة " صورتها في المرآة " :
على حائط غرفتي،
صورة لأمرأة مجهولة،
عيناها مثبتتان على وجهي،
فمها يتحرك كثيرا،
لكنني لا أسمع أبدا
صوتها الضائع في الظلام )
إنها صورة أخرى للذات في تحولاتها وانقسامها إن ثمة صراع لذات مشطورة منقسمة ومتشظية ليست الكونت المشطورصديق إيتالو كالفينو ولا السارد ومثيله دميان عند هيرمن هيسة، بل الذات مع تصوراتها وتاريخها، وكأنها ذوات متعددة كنتيجة لقسوة العالم ومسوخه، إن تحولات الذات لم تكن في تصور ذات مقابلة تواجهها بل في الأشياء والموجودات أيضا حيث تتبادل والغرفة أدوارهما في لعبة شعرية تسرد خلالها تاريخها الشخصى مع أسرتها وعذاباتها وتناقضاتها، في قصيدة سيرة ذاتية لغرفة ضيقة وكأنها تصرخ في وجه العالم ضد تشيوء الإنسان، واستعباده وهزائمه، والتاريخ الشخصي يمكن تعميمه أنه لا يخص الذات وحدها بل يخص الآخر صديقتها التي تشاركها الغرفة، وكأن هذه السيرة الذاتية لصديقتها أو بالأدق لذاتها الأخرى التى تبحث عن وجودها وتحققها، وتؤكد على مواجهة قسوة العالم وعنفه بالوردة التي تمثل قيمة جمالية في ذاتها في قصيدتي "مثل وردة بيضاء" و"وحدهم يعرفون معنى الوردة" فتقول ( سأصاحب وردة تُذّوب اسمي في دمها المغموس في الطين )
وهي القصيدة التي تكرر فيها " سأصاحب وردة" في تأكيد واضح على التمسك بقيم الجمال والبراءة، ومع الوردة تكون الطفولة التى تحاول استعادتها ونصرخ " طفولتي هناك" في قصيدة بالعنوان ذاته .
وكان للموت - ومرادفاته كالخروج والهروب والتلاشي والحنين إلى الأب الذى غيبه الموت وهو يعاني من البلهارسيا – حضوره الطاغى داخل النص ليس بمفهوم العديد الذى هو من الموروثات الشعبية ولا الخوف منه، بل مواجهته بالليل كتفاعل تناصي حيث الموت هو الأبيض هو الخروج للنهار والحياة هي الليل وهو ما يشير للتفاعل مع نصوص سابقة، ويعيدنا لأمل دنقل في ديوانه أوراق الغرفة 8 وهو يقول : فلماذا إذا مت اتشحتم بالسواد ؟ ...أو مقولة هنري ميللر : العماء هو الحقيقة الوحيدة في هذا العالم ...، والتفاعل النصي والممارسة الدلالية من سمات الكتابة الإبداعية الآن فالنص لا يأتي من فراغ وكل لفظة لها حمولاتها التاريخية والمعرفية ولسنا بحاجة لإعادة مقولات كريستيفا حول التناص أو بارت ونظرية النص وما تكشفه الكتابة الإبداعية من هوية خلافية وتمايز للنصوص.
إنها مغامرة ضد الخروج إلى النهار الذى لم يعد هو الموت بمعناه المتوارث والمتدوول، فالحياة التعيشها الذات هي الموت ومواجهتها والصراع معها بالتشبث بالليل والغرفة الضيقة .
وأخيرا لايمكن التوقف قبل الإشارة إلى التخييل والمجاز واستخدام المفارقة بمستوياتها المتعددة فقد حمل الخطاب الشعري في بنيته وهى النسيج المعقد للنص صورا بصرية ممتدة واستخدام للمفارقة واللعب بها مثل :
( هل تسمحين لي بإن أزرع صوتك في حنجرتي الخرساء ؟ )
أو( الجدة المحبوسة في الصور القديمة،
الأم التي تتلاشي في الأماكن الغريبة،
تاركة عيناها على الجدار،
وقدميها للطريق ... )
أو( أنا في غرفتي البعيدة،
الليل ملتف حول عنقي،
المدينة تتساقط أشلاء،
وطفولتي هناك
تبحث عني! )
إضافة إلى المجاز الكلي الذى لا يسع قصيدة بل يشمل الخطاب الشعري داخل الديوان، لتؤكد أن الشعر هو القول المخيل كما قال أرسطو في كتابه فن الشعر وما ذهب إليه حازم القرطاجني عن التذاذ النفوس بالمحكاة أو التذاذها بالتخييل والوظيفة التأثيرية للشعر التى لا تتحقق إلا عبر الأنساق الجمالية .
إننا أمام صوت شعري متميز يضيف إلى قصيدة النثر وننتظر من الشاعرة الكثير .