القاهرة 15 مايو 2018 الساعة 10:35 ص
هـنـاء زيــادة
بصوتٍ حميمي عذب، يُشعرني بأنني أعرفها منذ زمنٍ طويل، وعبر لقاءات عفوية تناقش موضوعات معظمها غير مرتب أو سابق الإعداد، اعتدت أن أستمع إلى برنامجها "على الناصية" المُذاع في الواحدة والنصف بعد ظهر كل جمعة، عبر إذاعة البرنامج العام، إنها الإذاعية القديرة "آمال فهمي"؛ ذلك الإسم الذي بمجرد سماعه، تطوف مخيلتنا في ذكريات لقاءاتها المميزة مع أهل الفن والمشاهير، وحتى مع الأفراد العاديين في شوارع مصر، ولدت (سيدة الناصية) عام 1926م، وحصلت على ليسانس آداب قسم اللغة العربية من جامعة القاهرة، في عام 1951م التحقت بالعمل بالإذاعة المصرية، لكن شهرتها الواسعة على مستوى مصر والوطن العربي لم تتحقق إلا مع تقديمها لبرنامج "على الناصية"، الذى خلفه لها الإذاعى الكبير أحمد طاهر، وهو أقدم برنامج إذاعى مصري، وقد استمرت في تقديمه حتى صارت هى الإذاعية الوحيدة فى العالم التى استمرت فى تقديم نفس برنامجها لمدة 47 عاما متواصلة، وعلى الرغم من دخوله موسوعة جينيس العالمية للأرقام القياسية، فإنها أخذت قرارًا بإيقافه عام 2014، وفضلت الاعتزال والابتعاد عن الساحة، ويتذكر الجميع انها قامت بالتسجيل فى الجزائر، أثناء الاحتلال الفرنسي، مع أحد الجنود فى وسط ميدان الحرب، ولا أحد ينسى أنها ذات يوم تركت ميكروفون برنامجها هذا لخريجة جديدة من كلية إعلام القاهرة، وسمحت لها بتقديم حلقة كاملة من "على الناصية" ترضية لها، بعد الظلم الذي تعرضت له بعدم تعيينها في هيئة التدريس بجامعة القاهرة دون سبب منطقي. وهى التي أصبحت لاحقاً الإذاعية "منال العارف"، حيث تم تعيينها بقرار استثنائي من وزير الإعلام حينها، والأمثلة كثيرة عن الفضل الذي قدمه هذا البرنامج الخالد لكثيرين، لذا ليس غريباً أن يكون برنامج "على الناصية" هو صاحب
نصيب الأسد من المراسلات البريدية التي تأتي إلى مبني ماسبيرو كل صباح، و قد جعلته الأستاذة أمال مساحة لجمع التبرعات لمستشفيات القلب والأورام.
تعد الأستاذة "أمال فهمي" من أوائل الإذاعيين الذين خرجوا بالميكروفون من الاستوديوهات الإذاعية المغلقة إلى الشوارع. وليس غريباً أن تكون هى أول من أجرى حواراً إذاعياً داخل غواصة في عيد البحرية المصرية، وأول من أجرى حواراً إذاعياً مع عمال المناجم في منجم "الحمراوين" في صحراء مصر الشرقية، وذلك في ظروف غاية الصعوبة حيث كانت تحت عمق 200 متراً، في بيئة اتسمت بالصعوبة والخطورة بالنسبة
لإمرأة. وقد نجحت في تحويل تحقيقاتها الصحفية إلى تحقيقات إذاعية، وهو ما مكنها من نيل جائزة مصطفى وعلى أمين للصحافة بجدارة، كانت عاشقة للعامية الراقية، دون كلمات شاذة أو هجينة، بعض المقربين منها قالوا أنها كانت تحفظ ألفية ابن مالك وكذلك القرآن الكريم، كما انها كانت صاحبة فكرة برنامج "أنت تسأل والرئيس يجيب"، إبان فترة حكم الرئيس الأسبق، كما تمنت تغيير اسم برنامجها "على الناصية" إلى "تحيا مصر" عام 2014م، وذلك أثناء زيارتها إلى موقع الحفر بقناة السويس الجديدة، خلال فترة حكم الرئيس عبد السيسي.
كانت تعشق الإذاعة، وظهرت مرة واحدة ونادرة على الشاشة بشخصيتها الحقيقية كمقدمة برنامج على الناصية، في مشهد من فيلم "حكاية حب" مع العندليب الأسمر "عبد الحليم حافظ"، لكنها ظهرت أيضا كمقدمة برنامج فى فيلم "الطريق المسدود" للفنانة فاتن حمامة، ومقدمة عرض الأزياء فى فيلم "نساء صعاليك" بطولة سهير رمزي، ذات يوم وصفت عملها الإذاعي بأنها أشبه بالفنانة التشكيلية، لأنها تثير خيال المستمع، وذلك رداً على سؤال يتعلق بعدم ظهورها تلفزيونياً، فهى تحب دائما أن تفسح المجال لمخيلة المستمع، يتخيلها كما يشاء، وبالرغم من أنه قد عُرِضَ عليها العمل في التلفزيون أكثر من مرة، إلا أنها كانت ترفض دائماً، لتظل شراكتها مع المستمع والخيال قائمة، وتظل وفية لجمهورها الذي عشق الإستماع إليها عبر المذياع. فى عام 1960م حصلت على لقب أفضل شخصية فى العام، وذلك مناصفة مع الزعيم "جمال عبد الناصر"، وفقًا لاستفتاء أجرته مجلة "المصور" عن أفضل الشخصيات في ذاك العام.
لم يكن في مخيلة الطفلة التي توجهت إلى مبنى الإذاعة والتليفزيون ذات يوم، من أجل المشاركة فى برنامج "أبلة زوزو" في عام 1931م، وتقوم بغناء أغنية "قطتي صغيرة"، أن تصبح لاحقاً إذاعية شهيرة، بل "ملكة الكلام"، وهو اللقب الذي حصلت عليه الأستاذة "أمال فهمي" من لبنان بعد استفتاء موسع على مستوى الدول العربية، تقديرا للباقتها الفريدة، وتمكنها في إدارة الحوار الإذاعي، وقدرتها الواعية على التجاوب والنقاش مع الضيف. في حين أطلق عليها الجمهور لقب "ملكة الفوازير"، وذلك بعد أن أدخلت الفوازير لأول مرة للإذاعة المصرية والعربية، وكان ذلك بالتعاون مع الشاعرين القديرين بيرم التونسي وصلاح جاهين، وكانت الحلقة لا تستغرق الـ4 دقائق، إلا أنها حققت أصداء واسعة، ولاقت ترحاباً كبيراً من المستمعين، ليرتبط صوتها بشهر رمضان. بينما كان أول برامج آمال فهمي في الإذاعة تحت عنوان "حول العالم"، وهو عبارة عن تسجيلات نادرة تقدمها للمستمعين، هذا بخلاف برامج أخرى قدمتها، منها "في خدمتك" و"عقبال عندكم"، وإلى جانب شغفها بالميكروفون الإذاعي وإبداعها في الحوارات واللقاءات، فقد تولت العديد من المناصب القيادية في الإذاعة المصرية، فكانت أول سيدة ترأس إذاعة الشرق الأوسط عام 1964م، كما تولت مناصب إدارية عدة أخرى، من بينها وكيل وزارة الإعلام، ومستشار وزير الإعلام، ومستشار الإذاعة خلال فترة الثمانينيات.
بوفاتها قبل أيام.. تفقد الإذاعة المصرية أحد أهراماتها الخالدة، خسر المستمعون رائدة إذاعية كبيرة، وخسر ميكروفون الإذاعة واحدة من أمهر وأبدع ممن تحدثوا أمامه، فقد ساهمت فى إثراء المكتبة الإذاعية بأفضل البرامج الحوارية والإذاعية، كما ساهمت في دعم العديد من الكوادر الإذاعية، وتخريج أجيال ساهمت في الارتقاء بالإذاعة المصرية، وأثرت ميكروفون الإذاعة بالعديد من البرامج الراسخة فى وجدان المستمع المصرى والعربى. استطاعت بإمكانياتها الكبيرة ان تقدم نبض الشارع وتجعل الإذاعة مرآة عاكسة لهموم الناس ومشكلاتهم وطموحاتهم. رحلت (سيدة الناصية) عن عمر ناهز 92
عاماً بعد صراع طويل مع المرض، وكانت قد خضعت للعلاج من أمراض الشيخوخة منذ عامين بمستشفى المعادي للقوات المسلحة، وتدهورت حالتها
الصحية في الفترة الأخيرة، حتى توفيت، تاركةً لنا الناصية شاغرة، لا تجد من يقف عليها ليحاور ضيوفاً ومارة، في حاجة لمن يحاورهم ويناقشهم !