القاهرة 01 مايو 2018 الساعة 10:03 ص
أكرم مصطفى
صدر حديثًا عن الدار المصرية اللبنانية رواية "مزاج حر" حيث تبدأ بجملة افتتاحية: "أرقص مع دهشتي، شغفي، وأحلامي"، هي أيضًا رقصة مع العالم، وتجوال حُرّ داخل روحه.
في الرواية كاتب يُحقِّق حلمه، بأن يتجوَّل في العالم على قدميه، دون أن يحمل معه ماء أو طعام، أو مال، فقط حقيبة صغيرة من قماش، يُعَلِّقها بكتفه، وفيها أوراق وأقلام، وقطع قليلة من ملابسه. يبدأ الكاتب جولته من محطة قطار مجهولة تظهر له، ومنها ينفتح العالم بجماله، ومفاجآته.
يتنقَّل الكاتب في تجواله عَبْرَ الزمان والمكان، ويصير كل شيء ممكنًا، يصادف شخصيات لها ألعابها، وإيقاعها الخاص: متشرِّدين، مُهرِّجين، ملائكة، شياطين، "البنت السمكة"، "شهرزاد"، البائع المتجوِّل، وغيرها، ربما كل هذه الشصيات هم أيضًا متجولون في العالم على طريقتهم، يقضي بعض الوقت مع كل شخصية، يتبادل
حوارات، ويعيش مواقف، تكشف له أكثر عن روح العالم، وتمنحه الفرصة لملامستها، والمرور خلالها، وأن يَمرَّ العالم أيضًا خلال روحه.
يقول "البائع المتجوِّل" داخل الرواية: "أروع الأشياء في العالم مجانيَّة،والحب ليس إلا لحظة استثنائية من الدهشة".
لا يبحث الكاتب خلال تجواله عن أحداثٍ كبيرة، إنما يريد أن يتعرَّف إلى المزيد من أسئلة العالم، وأن يُقدِّم هو أيضًا أسئلته الخاصة، ليس مهمًّا الحصول على إجابة، هو يبحث عن تلك النغمة التي تجمع مفردات العالم معًا، وفي الوقت نفسه يبحث عن التفرُّد الكامل، وخصوصية كل مُفرَدَة.
يقول "المتشرد" داخل الرواية: "الروح أرقُّ من النور، أعلى من الطيران، وهناك دائمًا سرُّ أعلى، ووصولٌ أعلى، لا تتوقف".
في كل مقابلة للكاتب المتجوِّل مع إحدى شخصيات الرواية، ستتمنى له الشخصية أمنية ما، وبدوره سيتمنى لها، وخلال تجواله تتحقَّق أمنياتهم له، وكلها أشياء جعلته أقرب إلى روح العالم، ومنحته فرصًا عديدة للدهشة، كأنما كانت هناك خطة من
البداية، لأن يقوم بتجواله.
يقول "البائع المتجوِّل" داخل الرواية: "أتمنَّى أن أبدأ حياتي من جديد لأستمتع كما يجب بكل ما يُدهشني، مهما كان بسيطًا، أستمتع بإحساس تجربتي الأشياء للمرة الأولى".
تنطلق الرواية في دفقة سرديَّة واحدة، تتناغم مع حالة التجوال الحُرّ، وبانتقالات سلسة بين أزمنة وأمكنة مختلفة، ولا تترابط الرواية فيما بينها بخط سردي تصاعدي، إنما بتلك التفاصيل التي تتناثر بداخلها، وتُشكِّل حالة من التناغم، وهناك أيضًا بعض شخصيات تعاود الظهور بخِفَّة في أجزاء من الرواية،
وسنرى "عباس بن فرناس" الذي يقابله الكاتب في بداية تجواله أثناء محاولته الأولى للطيران، والتي تنجح، هنا، داخل الرواية، نراه وهو يظهر مُحلَّقًا من وقت لآخر، ثم يقترب من الكاتب الذي يرفع يده ليلمس ريش جناحه، ويقول له: "طر يا ابن فرناس"، قبل أن يعاود الأخير التحليق في السماء، هناك تلك الجملة التى
يصادفها الكاتب في كل مكان وزمان ينتقل إليهما، ويراها مكتوبة في جدار، شجرة، أو قطعة من الخشب طافية فوق نهر، وفيها يكتب شخص ما اسمه بجوار مَنْ يحب.
يقول الملاك داخل الرواية: "عقل الإنسان هو أكثر مكان يتِّسع للمشي فيه، لا نهاية له".
في جزء من الرواية يقابل الكاتب ثلاث شخصيات كان قد كتبها في روايته السابقة، يجلس معهم في مقهى، ويكتشف أنهم يعرفون عنه أكثر مما يعرف عنهم، يطرح من خلال ذلك أسئلة حول علاقة الكاتب بكتابته، وإنْ كان يخترع شخصياته بالفعل، وكيف تكون
لتلك الشخصيات حياة، ومعرفة وأفكار عن الكاتب، الذي كتبها بنفسها في نصًّ أدبي، تتحدث الرواية عن الكتابة والقراءة، وأن الكتابة لا تحتاج غير شغف وقلم وورقة، أو شيء يمكن استعماله في الكتابة، وأن القراءة لا تحتاج غير شغف وكتاب، وأن
البحث عن كتابٍ ما، وقراءة عناوين أخرى قبل العثور على العنوان المطلوب، هو قراءة في حدّ ذاتها، ومتعة إضافية.
يقول الشيطان داخل الرواية: "الغرور تافه، مُضحِك، ومثير للشفقة أحيانًا".
تتساءل "شهرزاد" عن نفسها داخل الرواية: هل ظهَرَتْ هي قبل كتاب ألف ليلة وليلة، أم ظهر الكتاب قبلها، هل حَكَتْ هي الحكايات، أم أن الحكايات مَنْ حكَتْ عنها، كيف علَّمَتْ السَيَّاف عزف الموسيقى بعد أن توقَّفَ عن قَطْع الرؤوس، تحكي عن جَدَّتها الحكاءة العظيمة "عشق زاد"، وعَشْر حكايات ستظل ناقصة من كتاب ألف ليلة وليلة، وتقول جملتها الأثيرة: "قلبي بأمان ما دام في العالم حكايات".
لغة الرواية حُرَّة، متجوِّلة، مثل مرور ضوء أو سحاب، لها إيقاع متدفق، في جمل قصيرة، رشيقة، ما تليق بحالة التجوال الحُرّ، وبها من الحساسية ما يجعلها تمرُّ داخل روح العالم دون أن تخدشها.
أحد أسئلة المتشرِّد للكاتب المتجوِّل: لو أنك ستتحوَّل إلى كتاب، فما الكتاب الذي تُفضِّل أن تكونه، ولو أنك ستتحوَّل إلى جملة، أو كلمة واحدة، فما الكلمة التي تحب تكونها؟ وعندما يسأله الكاتب المتجوِّل عن ابتسامته تلك التي ينظر بها إلى السماء من وقت لآخر، سيردُّ المتشرِّد: "أنا أبتسمُ لله، في الحقيقة، الله يبدأ بالابتسام لي، وأنا أجاوب ابتسامته"!
ينتهي تجوال الكاتب بأن يزور الجنة، ويتجوَّل في مكتبتها الكبرى، قبل أن يعود ثانية إلى الأرض، ويكتشف أنه لم يُدوِّن شيئًا مما رآه خلال تجواله، لكنه في الوقت نفسه يتذكَّر كل شيء.
يمرُّ بعقله شريط تجواله، وكل مَنْ صادفهم، يتساءل: هل تحقَّقَتْ أمنياته لهم، مثلما تحقَّقَت أمنياتهم له، ويُدرك أن جملة الحب التي صادفها في كل مكان، هي واحدة من الجُمَل التي بُنِيَ عليها العالم، وسيظَلُّ بخير ما دامت فيه.
يتوقف الكاتب المتجوِّل أمام بيته، ينظر إلى السماء، ويبتسم لله، في الحقيقة كان يجاوب ابتسامة الله له.
في روايته "مزاج حُرّ"، يصنع "محمد الفخراني" مزيجًا خاصًّا من الواقع والخيال، ليس من المهم توصيفه، ما يهم هو التجوال فيه بمزاج حُرّ!