القاهرة 01 مايو 2018 الساعة 09:29 ص
هالة موسى
يستخلص صلاح فضل في كتابه الجديد " أنساق التخييل الروائي " تصنيفا فنيا للأعمال الروائية التي تناولها بالنقد والتحليل ، وهي ممثلة لشتى التيارات والأجيال من كتاب الرواية في الوطن العربي ، ولم يعتمد في ذلك التصنيف على مصدر عربي أو غربي بل حاول " استخلاصه من النماذج الإبداعية التي درسها " .
والكتاب الذي صدر عن الدار المصرية اللبنانية في 366 صفحة في مناسبة بلوغ صاحبه سن الثمانين، قسَّمه الناقد الدكتور صلاح فضل إلى سبعة أقسام هي : التخييل الذاتي ، التخييل الجماعي ، التخييل التاريخي ، التخييل الأسطوري ، التخييل الفانتازيا ، التخييل البصري والمشهدي ، التخييل العلمي .
وصاحب الكتاب يرى أن الرواية قد أصبحت ( ملاذ الموهوبين فيها جميعا ، يلجأ إليها المبدعون في الشعر والموسيقى والرسم والسينما ليحيلوا الأحداث التي مروا بها والتجارب التي عانوها إلى سياقات سردية منتظمة).
ويرى الدكتور صلاح فضل أن قيمة الأعمال الإبداعية لا تتحدد ( وفقا لطبيعة الوقائع أو المحكيات التي ترويها ، مما كان يسمى بالمضمون مباشرة ، بل تكمن على وجه التحديد في الأساليب والتقنيات والوسائل الجمالية الكفيلة بتمثيل نبض الحياة ومنظومة قيمها في الأدب ) .
وأغلب الروايات التي تناولها الكتاب حازت على جوائز مصرية وعربية مرموقة ، وأثارت جدلا ونقاشا واسعا بين القراء والنقاد ، وبعضها صار يمثل علامات بارزة في عالم السرد ، وحقق مبيعات غير مسبوقة في عالم الرواية المعاصرة ، وقد احتفى الدكتور صلاح فضل بأسماء تنشر رواياتها للمرة الأولى ، كما نوَّع جغرافية الكتابة ، حيث اختار لكتابه المهم روايات من عديد من الأقطار العربية ( مصر، اليمن، سورية، لبنان، الكويت ، العراق ، المغرب، تونس، الإمارات، السعودية، السودان، الأردن ، فلسطين ) بحيث يندر أن غاب قُطْر عن مشهده النقدي في هذا الكتاب . يقول الدكتور صلاح فضل : ( تفجرت ينابيع الإبداع الروائي العربي في كل المناطق التي كانت شبه قاحلة أو قاصرة ، امتصت نسغ الحياة من أنابيب الثقافة العربية المستطرقة في اللغة وثورة الاتصالات ) .
ومن أبرز الأسماء الروائية التي تناولها الدكتور صلاح فضل في كتابه : جمال الغيطاني ، إلياس خوري ، إسماعيل فهد إسماعيل ، إبراهيم عبد المجيد ، إبراهيم أصلان ، صنع الله إبراهيم ، وصولا إلى محمد برادة ، رؤوف مسعد ، رشيد الضعيف ، أشرف العشماوي ، عمَّار علي حسن ، سلوى بكر ، مكاوي سعيد، ناصر عراق ، شكري المبخوت .
ومن بين 52 روائيا ، درس الدكتور صلاح فضل أعمال تسع كاتبات وهن : عالية ممدوح ، إنعام كجه جي ( العراق ) ، لينا هويان الحسن ، شهلا العجيلي ( سورية ) ، سلوى بكر ، ضحى عاصي ، إقبال بركة، رشا سمير ( مصر ) ، بسمة الخطيب ( لبنان ) .
ويرى الدكتور صلاح فضل (ولد في 21من مارس عام 1938ميلادي ) أن : الرواية قد أصبحت ( مجمع الفنون الجميلة كلها ، يلوذ بها المبدعون في جميع المجالات لينفثوا فيها ذوب تجاربهم الحيوية وخلاصة مغامراتهم الجمالية ) ، ويؤكد أيضا أن الأعمال الفنية الفذة ( تمتاز بقدر اجتراحها لتقنيات جديدة مبتكرة، لم توظف من قبل وتصبح مهمة القراء اليقظين ، والنقاد منهم على وجه الخصوص ، مساءلة هذه الاختراقات وقياس جدواها الجمالية المؤثرة ) .
ومن أبرز ما جاء في كتاب " أنساق التخييل الروائي " أن ( هناك بعض الأعمال الإبداعية المستفزة التي تحرج النقاد ، وتضعهم في اختيار عسير ، فهي من ناحية الجودة تمتاز بقدرتها العالية على النفاذ إلى طبيعة بعض البشر الهشة ، وتكشف جروحهم الغائرة ومواجدهم الموجعة ، بتقنيات فنية وجمالية متقنة ، غير أنها في الآن ذاته صادمة للحس العام ، إذ تنتهك الغلاف الاجتماعي المزوق الذي يؤثر الستر على الصدق ، ويضحي بالمعرفة والجمال في سبيل الإذعان للتقاليد ، وهي بذلك تمثل تحديا للقراء الشغوفين والنقاد الذين يرون مسؤوليتهم تكمن في تنمية الوعي بالمسارب الخفية للحياة ، وتحرير الضمير مما يرهقه ، وتبصير المجتمع بأدواته ، دفاعا عن حرية الفن ودوره في تغيير الحياة ) .
وفي صفحة 309 من الكتاب يطرح الناقد الدكتور صلاح فضل سؤالا مهما وهو : ( ماذا يفعل المبدع عندما يجد الحياة من حوله قد تحولت إلى حرائق لاهبة ، تلتهم ويلاتها الحجر والبشر ، هل يلجأ إلى التاريخ ؛ ليقرأ فيه العوامل الكامنة خلف الأحداث ، أم يعتصم بالخيال ليتمثل في صفحته وجه المستقبل ، أم يقتصر على التحديق فيما حوله ؛ ليفهم ويسجل بعين المثقف صانع الوعي والبصيرة ؟ وهل يظل أمينا على منطق السرديات الأليفة ، أم يغامر باجتراح طرائق وتقنيات لم يتمكن من توظيفها بعد ، وما هي الوسائل التي يمكن أن تسعفه جماليا وعمليا في إنجاز إبداعه ؟ ) .
ومما يلفت الانتباه في الكتاب ما يقوله الدكتور صلاح فضل: ( لا تزال الرواية تلعب دورا خطيرا في تجذير الوجود الأنثروبولوجي للكيانات الإثنية التي تتعايش في الوطن العربي، وتنتقل بها من مرحلة الاحتدام العرقي وما يفضي إليه من تطرف طائفي عندما يتم كبته وتجريمه، إلى مرحلة التوافق الصحي، إذ يحتضنها الوعاء العربي الوسيع بلغته وثقافته المتآلفة، فالنوبيون والطوارق والأكراد والأمازيغ عندما ينخرطون في جسد ثقافي واحد بالكتابة العربية يخلّصون عن عرقياتهم إثم العزلة، ليذيبوا توتراتهم ويبرزوا خصوصيتهم وهم يكتسبون شرعية الاندماج المتعدد الخلاق ) .
وكان الدكتور صلاح فضل قد ذكر في مقدمة كتابه :
( أصدرتُ منذ ما يربو على عقدين من الزمان كتابا صغيرا بعنوان: «أساليب السرد في الرواية العربية»، كان مواكبا لكتاب آخر أشمل منه عن «أساليب الشعرية المعاصرة» صدر في زهوة الحفاوة باحتضان «علم الأسلوب» في النقد العربي، وقد اقترحتُ حينئذٍ تصنيف الأعمال الروائية العربية طبقا لمنظومة التقنيات الفنية التي اكتشفتها السرديات الحديثة، وأوجزتها في ثلاث مجموعات ثنائية ، هي الإيقاع الذي يعتمد على مفارقات الزمان والمكان، والمادة التي تتمثل في الخطاب وحجمه وعلاقته المباشرة بالراوي، والرؤية التي تبرز من ثنايا منظور الراوي ورصده لما يحصل أمامه. وتصورتُ أن طريقة انتظام هذه المكونات في أولوياتها ودرجة هيمنة كل منها على غيره ما يولد ديناميكية الأساليب السردية، والحق يقال إنني لم أعتمد على مصدر غربي أو عربي في هذا التصنيف، بل حاولت استخلاصه من النماذج الإبداعية التي درستُها مثلما فعلتُ في تصنيفي لأساليب الشعرية. و تمخضت هذه الرؤية عن ثلاثة أصناف كبرى، هي : الأسلوب الدرامي الذي يسود فيه الإيقاع ويتصاعد الصراع على الرواية العربية في صيغها الموضوعية الناجحة عند كبار المبدعين المؤسسين، أما الأسلوب الثاني فهو الذي أسميته بالغنائي لهيمنة الصوت المنفرد للراوي عليه، وتعبيره المباشر عن ذاتيته، وتركيزه على تجربته المائزة ووعيه المكثف بحياته الباطنية وقربه من الشعر، وأسميتُ الأسلوب الثالث الذي يغلب عليه المنظور البصري الخارجي بالأسلوب السينمائي سواء كان تصويريا أو توثيقيا، وقد كان سريع الانتشار حينئذٍ في الإبداع العربي.
وقد قمتُ بتحليل عدد من النماذج الروائية العربية الممثلة لهذه الأنماط، وتصورتُ أن هذا المقترح النقدي سوف يظفر بشيء من النقاش والتعديل والتصويب، لكن طابع الركود الغالب على حركتنا الأدبية والنقدية، وميل كل واحد للبداية من الصفر، وعدم الإسهام في بناء صرح علمي يعتمد على التراكم هو الذي غلب في نهاية الأمر ولم يعد أحد إلى مراجعة الاقتراح أو نقضه أو تعديله ) .