القاهرة 17 ابريل 2018 الساعة 12:25 م
د. محمدأنقار يتابع أمبرتوإيكو احتفاءه بالسرد من منظور سيميولوجي بعد مسيرة تأليفية طويلة، واجتهادات ذهنيةمتقدة. مسيرة حاذت النقد الروائي من دون أن تقع دائماً في صميمه. وفي كتابه الذكيوالمراوغ "اعترافات روائي شاب"[1]يعود إيكو إلى نفس الاحتفاء ونفس المحاذاة، مؤكداً، مرة أخرى قدرته الهائلة علىالنظر العقلي إلى الظواهر الأدبية والفنية والفكرية والمعرفية من زوايا غيرمألوفة، ليست في متناول كل من يفكر، أو كل من يمارس النقد والتأمل. في البداية نشير إلى أن معظم أفكار الكتاب الجديد لإيكو مستمدة من أسئلة ألقيتعليه حول بعض أعماله، ومن بعض تأويلات النقاد والقراء التي يعقب عليها من خلالمناقشة احتمالاتها. كما أنها مستمدة بذكاء كبير من الأسئلة التي يلقيها المؤلف علىنفسه، ومن البحث عن منابع بعض صوره الروائية، وكيف أن سيرته الذاتية عملت عملهاالخفي في تشكيل و تكوين عديد من تلك الصور. وأخيراً هي أفكار تتخلل ذلك القدرالكبير من الأمثلة التي يضربها، واقتباسات الكتاب الآخرين التي يوردها. ولكي نزداداقتراباً من مضامين كتاب إيكو نورد فيما يأتي ملخصاً لأبرز تلك الأفكار: الفصل الأول: ‘الكتابة من اليسار إلى اليمين’ تجارب سردية سابقة للمؤلف. الفرق بين نشر كتاب سيميولوجي وكتاب روائي. عن التوثيق في كتابة الروايات. مدة الحوار الروائي يحددها طول أو قصر المكان الموصوف. تحديد المكان ورسمه هما اللذان يستدعيان الكلمات الروائية المناسبة وأسلوبها. مدى الصدق في التوثيق الروائي. البحث عن الأصول الأولى لروايات إيكو: إنها صور. عن أهمية وصف المكان في السرد. البحث عن اللغة السردية المناسبة لرواية ما. قراءة إيكو الواسعة في الثقافة البيزنطية استعداداً لكتابة رواية ‘بودولينو’. قيود وتحفظات جمالية وتكوينية. التحفظات في هذا الفصل تعني: هذا الاختيار الجمالي من لدن المؤلف دون ذاك. أفعال الشخصيات الروائية: تبريرها. اعتراف شخصي لإيكو: لا بد للروائي من أن يحافظ على بعض الأسرار صنعته. مظهران لما بعد الحداثة في أعمال إيكو: المفارقة البينينصية: أي الإحالة على نصوص الآخرين. الميتاسرد: النص يتأمل طبيعته الخاصة. الفصل الثاني: ‘المؤلف، والنص، ومؤولوه’ ثلاثة احتمالات بصدد ترجمة فقرة غامضة من عمل لإيكو. الرد على تلك الاحتمالات من لدن المؤلف بوصفه قارئاً. لا يجب على الكاتب أن يؤول عمله. عن الانسجام في النص الواحد. أمثلة. كل نص هو معطى من أجل أن ينتج قارئه النموذجي. بين القارئ النموذجي والقارئ العملي/التجريبي. كفاءة القارئ وكفاءة النص. مرة أخرى: القارئان النموذجي والعملي/التجريبي. قارئ رواية ‘بندول فوكو’ يطالب بالحقيقة الخارجية كاملة. محاولة مضاهاة الواقع الخارجي بالواقع النصي. على الكاتب التجريبي Autor Imp’rico تفادي تأويل عمله. في بعض الأحيان يفشل الروائي في تعليل بعض اختياراته التعبيرية التي قد يكون سببهاضبط التوازن والإيقاع فقط. عن سبب اختيار عنوان ‘اسم الوردة’. تضمين اسم الشخصية الروائية دلالاتٍ خفيةً. في رواية ‘بندول فوكو’ احتمال التوازي مع اسم ميشيل فوكو. ضرورة مراعاة السياق من أجل تأويل فقرة ما من لدن القارئ. تأويلات خاطئة لرواية ‘اسم الوردة’. رواية ‘اسم الوردة’ حاورت خفية شخصية شرلوك هولمز. تأويلات أخرى مقبولة لرواية ‘بندول فوكو’. عودة إلى الكاتب العملي/التجريبي. المصدر الخفي للكتاب المسموم في ‘اسم الوردة’. الفصل الثالث: ‘بعض الملاحظات حول الشخصيات التخييلية’ القارئ الذي لا يميز بين ما هو واقعي وما هو تخيـيلي. دوماس: بين الرواية والتاريخ. حقيقة ‘أنا كارنينا’. النظر إلى الشخصية الروائية من منظور سيمولوجي عوض المنظور الأنطولوجي. لماذا يَـقْلَقُ الناس قليلاً لموت الآخرين جوعاً بينما يحزنون كثيراً لموت أناكارنينا؟. هناك حقيقة دامغة: ‘الناس يتأثرون كثيراً لموت إيما بوفاري، بينما لا يحزنون أويتأثرون عندما يعرفون أن المثلث القائم الزاوية له 90 درجة. رواية التاريخ اليوتوبي. إشكال: حقيقة الشخصيات الروائية. الحقيقة بين الواقع والخيال. الشخصيات الخيالية تنتقل من عمل إلى آخر. الأشياء والمجردات المتخيلة. استلهام الجشتالت. رأي بَـرْبرو Barbero في تكوين الشخصيات الروائية. القارئ يعيش الوهم الروائي. القارئ شخصية روائية. أهمية الحبكة الروائية. الشخصيات التخييلية لا تتغير أبداً. الفصل الرابع: ‘قوائـمي’ قوائم عملية وقوائم إنشائية (فنية). بلاغة التعداد. إيكو يعترف بالتأثير القوي لجويس ورابليه عليه. الشكل والقائمة. أمثلة من هوميروس. قوائم رابليه وجويس. مباحثُ ما لا يوصف Inefable. قوائم الأشياء، والأشخاص، والأماكن. التعيين بواسطة قوائم الخصائص في مقابل التعيين بواسطة الماهية. صفات القوائم في تاريخ الأدب. التعريف بالماهية أكثر تعقيداً. القائمة المسترسلة والمونولوج الداخلي. تعداد فوضوي (قصيدة رامبو). لماذا المبالغة (في سرد القوائم)؟. عودة إلى القائمة الفوضوية. قوائم بوسائط تواصل الجموع. قائمة عملية (قوائم المكتبات). بصدد العنوان بعدما أنهيت قراءة كتاب إيكو بدا لي أن عنوانه غير دقيق. ما من شك في أنه عنوانذكي وجذاب، وتجاري أيضاً. لكنه لا ينطبق على كل الكتاب. ولكي يكون عنواناً شاملاً تمثلتههكذا: ‘اعترافات روائي شاب، مع تخريجات سيميولوجي شيخ’. ففي الفصل الأول ‘الكتابة من اليسار إلى اليمين’، والفصل الثاني ‘مؤلف، ونص،ومؤولون’ يسود بالفعل أسلوب الاعترافات النقدية بما فيها من سلاسة، ودغدغة دافئةلسريرة القارئ الذي ينساق معها كما لو كان يقرأ بوح روائي يكشف جوانب من أسرارصنعته، من دون أن يجنح إلى تأويلها. لكن ابتداءاً من الفصل الثالث ‘ملاحظات حولالشخصيات التخييلية’ تـبرز الروح العلمية وحتى المنطقية، وتكاد تهيمن كلياً علىصفحاته الطويلة. أي إن أسلوب العلم والمنطق الصارمان يحلان محل أسلوب الاعترافاتالواطئ. حينذاك يبدو من الصعوبة بمكان أن نتخيل روائياً شاباً يبوح، حسب المفهومالذي عرّف به إيكو كلمة ‘الشاب’ في مقدمة كتابه عندما قال: إنه نشر روايته الأولى‘اسم الوردة’ في سنة 1980، أي أنه بدأ مسيرته الروائية قبل حوالي ثلاثين سنة،بمعنى أنه بدأ متأخراً إلى حد ما. والحق أنه من الصعب تخيل روائي ‘شاب’ يتكلم وحدهفي كل الكتاب بفصوله المتباينة المشارب والمستويات الفكرية والنقدية العالية. ذلكأنه كتاب رصين يتضمن خلاصات علمية وإبداعية في نفس الآن، يقف وراءها كاتب ذو دربةوممارسة طويلين.. نتيجة لكل ذلك أفترض أن العنوان المقترح أعلاه أقرب إلى الانطباق على كتاب إيكو منذاك الذي نشر به. في الفصل الرابع والأخير يصرح إيكو: ‘قوائم Listas: هي متعةقراءتها وكتابتها، هذه هي اعترافات روائي شاب’. (ص207). هي محاولة لربط أول الكتاب بآخره. متعة الاعترافات ومتعة القراءة. لكن المؤلف لميكتف بقراءة القوائم وكتابتها كما ذكر، وإنما عالجها سيميولوجياً. لذلك لا تظلهناك روح الاعتراف فحسب؛ بل تنضاف إليها السيميولوجيا من حيث هي علم منطقي متخصص.لكن، هل يجد إيكو في ظل ذلك متعة كما يقول؟ ممكن. وهل هي متعة شبيهة بتلك التينحصلها جراء الاعترافات التي من طبيعتها ‘الاسترخاء’ وليس التشنج العلمي؟. لا أظن.
بصدد الأمثلة يكثر إيكو من إيراد الأمثلة السردية وغير السردية بطرق مفارقة/ مركبة/ طريفة/مقارنة. ثم أسجل ثانياً عددها الغزير. كأن الكاتب لا يمكنه أن يخطو خطوة نظرية مندون أن يستند إلى ضرب مثل أو أكثر. ذاك ما يبرز إمكانات الكاتب الفكرية، وقراءاتهالعميقة، وإيحاءه لك بسعة اطلاعه على مكونات الحقل الذي يخوض فيه. ثم إن معظمالأمثلة مستمد من الروايات وعناوينها وشخصياتها الشهيرة؛ رواياته هو وروايات غيره.لكن ثمة أيضاً حقول أخرى تُستَمد منها الأمثلة؛ كالمعمار والموسيقى والغناءوالسينما والهندسة والتاريخ والسياسة والملاحم والشعر. والطريف في الأمر أن الكاتبيجمع في بعض المناسبات بين اسم روائي مثلاً واسم سياسي أو غير سياسي، فيخدع ويراوغبكل ذلك أفق انتظار القارئ الذي كان ينتظر أن تمضي وتيرة الأمثلة على صيغة واحدة؛صيغة واطئة. وأتصور أن روح العالم السيميولوجي توجه ضرب الأمثلة أكثر مما توجههروح الناقد أو الدارس الأدبي. صحيح أن المؤلف ينتقي ويستمد معظم الأمثلة من الحقولالتي تمرس بها (الروايات والأفلام والمسرحيات وعموم السرد)؛ لكن الهادي هو حقل السيميولوجياالذي يعرف إيكو كيف يستخلص منه القوانين والقواعد والهياكل المنطقية. وفي عديد من الأحيان يخيل إليك أن حجم الأمثلة الغزيرة يغطي الأسطرَ المخصصة للشرحواستخلاص القواعد (القوانين). إنه إحساس قوي بـ’كثافة الأمثلة’ يدفعك إلى التساؤل: – هل يتعلق الأمر بطريقة جديدة في الكتابة يتجاوز فيها حجمُ الأمثلة والقوانينالمستخلصة حجمَ الشروح ؟. (أتذكر في هذا المقام حالة معكوسة؛ حالة ذلك الناقدالمغربي الذي يحلو له أن يصول ويجول في حقول النظريات والتحليلات الروائية، وينشرفي إطارها مقالات مطولة من دون أن يذكر اسم روائي مغربي أو رواية مغربية!). بصدد المنهج يقرر إيكو أن تمييز قصد نص ما يعني تمييز استراتيجية سيميولوجية. لذلك جاء كتابهمكتظاً بالقوانين والقواعد والتخريجات السيميولوجية التي تتخذ صيغة المنطق الصوري.ويمكن القول، اعتماداً على المعاينة وليس على الإحصاء، إن كتاب إيكو تتقاسمهالقوانين السيميولوجية والأمثلة المستمدة أساساً من الروايات. ولكي نعطي مثالاًعلى مدى حضور السيميولوجيا في التخريجات نورد القانون الآتي: ‘إن عالماً تخييلياً ما؛ هو حالة من الأشياء الناقصة وغير الشاملة’. (ص 85). وتشريح ذلك أن العوالم التخييلية ناقصة. هذا قانون سيميولوجي وليس قانوناً نقدياًأو بلاغياً مادامت تلك العوالم توجد في حالة نقص بالنظر إليها في ذاتها وليسمقارنة بالعوالم الخارجية. وفي أثناء قراءه الكتاب يتضح بجلاء أن إيكو لا يريدتقمص وظيفة الناقد أو البلاغي. يقول: ‘لست محللاً نصياً Textualista، كما يُسمى في بعض الشعب الأكاديمية في الولاياتالمتحدة، أي ذاك الذي يظن أنه لا توجد وقائع وإنما تأويلات فقط، مثلما يظن بعضالتفكيكيين أيضاً. (ص 92-93) إن إيكو لا ينسى أن يذكرنا، بين الحين والحين بأنه سيميولوجي. مثلاً في الفصلالرابع والأخير المعنون بـ ‘قوائمي’ يحدد إيكو غايته ومنهجه بأنه ‘تأملات حولسيميوطيقا محتملة للقوائم Listas’. (الطريف في الأمر أني بدأت قراءة كتاب هنري ميللر‘الكتب في حياتي’ مباشرة بعد كتاب إيكو هذا الذي يدور فصله الرابع حول سيميولوجياالقوائم. ذلك أن كتاب ميللر يشتمل على بعض القوائم التي كان من شأنها أن تغنيدائرة مؤلف إيكو وتوسعها). إلى جانب السيميولوجية يستحضر إيكو منهجية الإبستيمولوجيا، ثم البعد الأنطولوجيللأشياء والشخصيات وكذا سماتها وخصائصها. في هذا السياق يمكن أن نورد القانونالسيميولوجي الآتي حسبما يبسطه: لقد قيل إن الشخصيات التخييلية لا يمكن تحديدها وتعيينها، بينما الأشخاص الحقيقيونقابلون للتحديد، وأننا ملزمون بإثبات خصائص كل منها. لكن إذا كان هذا الأمر صحيحاًمن منظور أنطولوجي، فإنه على العكس من ذلك من منظور إبستيمولوجي: ذلك أنه يستحيلأن يكون هناك من يثبت وجود كل خصائص فرد ما أو جماعة ما، لأنها خصائص لا نهائية،بينما خصائص الشخصيات التخييلية تامة التحديد من لدن النص السردي، ولا يمكن الأخذبعين الاعتبار إلا تلك الخصائص من أجل تعرّف الشخصية. في هذا السياق يقول إيكو إنهيعرف فعلياً ليوبولد بلوم بطل ‘أوليس? جويس أكثر مما يعرف أباه. (ص87) واضح من هذا البسط أن إيكو لا يقصد إلى فحص الخصائص والسمات من منظور علاقتهابالكون السردي الذي تنتمي إليه، وإنما يقلب ظهر المجن حينما يتعمد النظر إليها منمنظور صورها المنطقية. ورغم اعتراف إيكو بأنه غير مهتم في هذا الصدد بالأنطولوجيا إلا أنه يستعين بها فيبعض الأحيان. يقول: ‘على الرغم من أني سبق أن قلت بأن القضية التي تشغلني ليست ذات طابع أنطولوجي لايمكن أن أرفض سؤالاً أنطولوجيا أساساً: من أي نمط كوني هي شخصية تخييلية ما، وإذا لم تكن، بالتحديد، كائنة Existente فبأية طريقة تظل، على الأقل، موجودة Subsistente؟’. (ص105) نادراً ما يتعرض إيكو في ‘اعترافاته’ إلى مسألة التَّحْـبِـيك الروائي. مرة أشارإلى استراتيجية البناء أو ما أشبه. ذلك يدل على أن مسألة التكوين الشامل للعملالتخييلي ليست شغله الشاغل. إذ ما يهمه هو استخلاص القوانين الضابطة لسيميولوجيةالشخصيات الروائية. بذلك يظل إيكو وفياً لتصوره المنطقي ومنهجه السيميولوجي. في رأيي أن السيميولوجيا لا تدعوك إلى أن تنصرف إلى ما هو حميم، وأن تنساق مع ماهو دافئ. هي تغريك بــ’حدة’ العلم أو صرامة القاعدة أو التخريج،ولا يهمها أن تدغدغ عواطفك وأحاسيسك الحالمة. (أحيانا يطغى الأسلوب العلمي في كتابإيكو طغياناً قاهراً كما في صفحة 174). في مقابل ذلك الطغيان أقول: – لماذا لا نتعامل بدورنا مع نتائج وتخريجات السيميولوجيا بنفس برودة الدم التيتتعامل بها مع أشيائها؟ هي تتطلع إلى أن ‘تقتل’ فينا ‘الحميم’، بينما يمكننا نحنبدورنا أن نقرأها بذات الخطة القاتلة. لكن لو فعلنا سنغدو بدورنا سيميولوجيين، فيحين نحن نتطلع، في مقابل ذلك، إلى استحضار الصور الطبيعية للأشياء (قد يكون ذلكالطموح وهماً رومانسياً). ومع ذلك قد يكفينا هذا التطلع وهذا الحلم لكي نسهم فيحفظ التوازن بين تلك الأشياء، بل حتى الإبقاء على روحها الطبيعية. هكذا نتصورالأمور حينما نقرأ الإبداع الروائي مثلاً ثم نحاول من خلاله أن ننظر إلى دنيانا. لكن بين الرأي الأول ‘العلمي’ والرأي الثاني ‘الوهمي’ الذي يقابله، يعترف إيكوبأنه يجد في القراءة السيميولوجية للأشياء والأفكار ‘متعة’؛ متعته. لذلك يمكن أننستخلص، منطقياً، الفكرة التي تقول ‘إن لكلٍ متعته’، وإن كل واحد منا الحق لكييتحدث عن متعته الخاصة ويبسطها. ذاك عين الديموقراطية.
بصدد الفلسفة يتساءل إيكو: من أي نمط من الكُتاب هو الفيلسوف؟ يمكن القول إن فيلسوفاً ما هو كاتب محترف،نصوصه قابلة لكي تُـلخَّص أو تترجم إلى كلمات أخرى من دون أن تفقد كل دلالتها. فيحين أن نصوص الكُتاب المبدعين لا يمكن ترجمتها بصورة تامة أو شرحها مطولاً. لكنعلى الرغم من صعوبة ترجمة الشعر والروايات؛ فإن تسعين في المئة من قراء العالمقرؤوا ‘الحرب والسلام’ أو ‘الكيخوطي’ مترجميـْن، وأظن أن تولستوي مترجَماً هو أكثروفاءاً للنص الأصلي من أية ترجمة إنكليزية لهايدغر أو لاكان. هل لاكان أكثر‘إبداعاً’ من ثربانطيس؟ (ص 11) الداعي إلى السؤال الأخير يتابع إيكو- ما يقدمه لنا الواقع الثقافي والفكري حيثنقف على ترجمات للروايات محببة إلى النفس، في حين أن لاكان مثلاً، من حيث هوفيلسوف، قد لا نستمتع به مترجماً على الرغم مما سبق أن قاله إيكو من أن الفيلسوفهو ذاك الكاتب الذي تكون نصوصه قابلة للترجمة. إن عنصر النسبية إذن وارد حينمايتعلق الأمر بتحديد الفرق بين كل من الروائي والفيلسوف. ويستخلص إيكو: ثمة فرق حقيقي بين الكتابة الإبداعية والكتابة العلمية. ففي بحث نظري من الطبيعيأن يحاول الباحث إثبات أطروحة ما أو إعطاء جواب لقضية محددة، بينما يحاول المبدعفي قصيدة أو في رواية تصوير الحياة بكل تناقضاتها، أي أن تبرز سلسلة من المتناقضاتبأن يجعلها واضحة ومؤثرة. إن الكتاب المبدعين يطلبون إلى قرائهم أن يحاولوا إيجادحل [للقضايا والتناقضات] من دون أن يقدموا في سبيل ذلك أية صيغة محددة. لذلك أقولإن روائياً ما يمكن أن يقول، أحياناً أشياء لا يمكن أن يقولها الفيلسوف (ص 13-14). عن الكون الروائي سبق أن عالج إيكو مسألة الكون الروائي في كتيبه الخطير ‘حاشية على اسم الوردة’.أما في ‘اعترافات روائي شاب’ فيقرر: إن العالم الذي يبنيه المؤلف في مجال السرد هو الذي يملي الإيقاع، والأسلوب، وحتىاختيار الكلمات. فالذي يتحكم في السرد هو المعيار اللاتيني الذي يقول: ‘إذا هيمنتَ على الموضوع تأتي الكلمات وحدها’. في حين يلزم في الشعر أن تغيرالمعيار إلى: ‘إذا هيمنتَ على الكلمات يأتي الموضوع وحده’. (ص22) إن السرد هو، مبدئياً، وفي الدرجة الأولى مسألة كوسمولوجية (كونية). فمن أجل أنيروي أحدنا شيئاً يبدأ كما لو هو الإله الخالق لدى أفلاطون الذي يبتدع عالماً،عالماً يجب أن يكون بأكبر دقة ممكنة، حيث يمكنه أن يتحرك فيه بكامل الثقة. (ص 22).
الصـــــــورة لا يتحدث إيكو عن الصور الروائية وإنما يحتفي، أساساً، بتلك التي ألهمته رواياته.هكذا يشرح كيفية انبثاق الصورة الرئيسة لروايته ‘اسم الوردة’. يقول: لقد أثارتني صورة راهب مسموم وهو يقرأ كتاباً، وكانت تلك الصورة هي منبع روايتي‘اسم الوردة’ (ص25). ذلك أن كل من قرأ تلك الرواية يعلم أنها تدور حول مخطوط غامضيمثل الجزء الثاني الضائع من ”ـويطيقا’ أرسطو، كانت صفحاته مضمخة بالسم. ثم تحدث إيكو بعد ذلك عن ولعه الشديد بشراء وجمع الكتب النادرة وقد كان من بينهاكتاب ‘الويطيقا’ محققاً من لدن Antonio Riccoboni عام 1587، كان قد اشتراه في شبابه. في ذلك الكتاب إشارةغامضة إلى كتاب الكوميديا الضائع، المنسوب إلى أرسطو، الذي حاول ريكوبُوني إعادةتشكيله. وحينما كنت بصدد تسجيل مواصفات الكتاب اكتشفت، يقول، أني أعيد كتابة ‘اسمالوردة’، مع فارق واحد تمثل في تخيلي أن أسفل صفحات الكتاب الضائع كانت مضمخةبمادة [سائل] لزج كريه. بذلك حصلتُ على وصف الكتاب المخطوط الذي سأعتمده لاحقاً في‘اسم الوردة’. بعد ذلك نسيت الكتاب ذا البقع وملاحظاتي حوله بعد أن كنت قد ألقيتعليه نظرة. لكن عن طريق ما يشبه كاميرا داخلية يقول كنت قد صورت تلك الصفحات ذاتالبقع، وظلت صورتها تلك المسمومة مرسومة في أعمق أعماق روحي عقوداً إلى أن انبعثتلا أدري لماذا فتوهمتُ بذلك أني أبتدع كتاباً جديداً. (ص71-72) أما في رواية ‘بندول فوكو’ فقد كان قبلها صورتان: الأولى هي بندول ليون فوكو نفسهالذي سبق أن رأيته في باريس قبل ثلاثين سنة خلت، والثانية هي صورتي أنا نفسي وقدرأيتني أنفخ في الطرومبيت في مأتم أقيم لرجال المقاومة الإيطالية. (ص 25-26) أما في رواية ‘بودولينو’ فقد تحكمت فـيَّ صورةٌ طاغية: صورة مدينة القسطنطينية وهيتحترق خلال الحروب الصليبية عام 1204 إن العبرة التي يمكن استخلاصها من تصريحات إيكو حول الصور التي كانت مصدراًلرواياته هي أن الحياة الشخصية للمؤلفين التجريبيين Emp’ricos من الصعب سبرها، وهي أبعد غوراً من أعمالهم. من ناحية ثانية، يتوكد لي، مرة أخرى، أن كتابة الروايات هي في حقيقتها كتابةُسيـرِ أصحابها. هي سير ذاتية ما في ذلك من شك. لكن عبقرية تلك الروايات لا تتحققإلا عندما يجيد الروائي تبطين سيرته، وإخفاءها، أو تمويهها. بصدد السمات من تعابير إيكو حول السمات إشاراته إلى: الخصائص المبثوثة من لدن حكمة ما. الخصائص الصحيحة المضافة إلى حكمة ما. مجموعة من الخصائص. بين ثنايا مثل هذه التعابير يسطر إيكو مجموعة من القوانين السيميولوجية نورد بعضهاعلى سبيل التمثيل. يقول أحدها: تعرُّفُ الشخصيات التخييلية الخالصة من حيث هي مجموع من الخصائص (السمات) التي لايوجد لها مقابل مادي في العالم الحقيقي (ص108). مثال ذلك أن عبارة ‘أنا كارنينا’التي ليس لها مرجع مادي، لا يمكن أن نجد في عالمنا شيئاً يمكن أن نقول عنه: ‘إنهذا هو أناكارنينا’. وفي مثال تال يتعامل إيكو مع شخصية حكاية ‘ذات القبعة الحمراء’ من حيث هي مجموعةمن السمات القابلة للتشخيص. (ص11) وفي قانون سيميولوجي آخر له صلة بالسمات يقول: ‘إن نصاً تخييلياً ما، لا يتحدث لنا عما هو حقيقي فحسب في العالم السردي وما هوغير حقيقي، وإنما يتحدث كذلك عما هو عظيم وعما يمكن أن يكون غير معقول بسبب طابعهغير المادي’. (ص89). هنا تبرز نتائج التفكير السيميولوجي واضحة. في حين ليس في عرف بلاغة الرواية(الكون الروائي) وجود عناصر أساس وأخرى ثانوية. لكن على الرغم من ذلك من الواضح أنإيكو يستثمر السمات من حيث هي شارات وخصائص بدل السمات حسب مفهومنا النقدي: أي منحيث هي خصائص متغلغلة في التكوين الجمالي للروايات. 1 Confesiones de un joven novelista, Lumen, Barcelona, 2011
[1] Confesiones de un joven novelista, Lumen, Barcelona,2011
|