القاهرة 17 ابريل 2018 الساعة 12:13 م
بقلم: محمد أفيلال
اتخذت كثير من الأعمال الإبداعية مقومات وخصائص أشكال نثرية تراثية منطلقا لها لاستجلاء مقومات أدبية وفنية توسع من دائرة المحكي وتبرز طاقات جديدة، خصوصا عندما تكون الصياغة الخطابية يتحكم فيها أدباء ونقاد متمرسون يجعلون من العمل نموذجا مثاليا لنماذج أخرى لاحقة. وسيكون اهتمامنا الأساس هو الكشف عن الآليات المنقبية التي تحكمت في رواية "شيخ الرماية" لصناعة النموذج، حيث تتم المصاهرة بين جنسين أدبيين مختلفين شكلا ومضمونا. فإلى أي حد وفق المبدع محمد أنقار في جعل روايته تختزل جل مكونات جنس المنقبة متلافيا بذلك كل مظاهر الاختلاف بين الجنسين؟ وهل مكن الجمع بين الجنسين توفير القدر المطلوب من المتعة القرائية؟
1- الرواية والغرض المنقبي:
تقوم فكرة كتابة "شيخ الرماية" على جمع حكايات الجد، وتدوين سيرته، وحفظ كراماته، فكان الرهان عند الكاتب هو النجاح في كتابة رواية تجمع بين شكلين مختلفين في شكل فني يستطيع استيعاب جنسين مختلفين في نمط كتابي واحد. والحق أن المبدع فكر جيدا في الشكل الفني الذي ينبغي أن تقدم به فكرته، خصوصا وأن هذا النمط من الكتابة ينبغي أن يستعين بجنس آخر مادام أن الفرق واضح بين شخصية روائية إنسانية عادية، وشخصية صوفية استثنائية تكرس حياتها للعبادة وخدمة مصالح الناس، فكان جنس الرواية هو الكفيل باحتواء هذه التجربة المنقبية، على اعتبار أن الرواية شكل سردي منفتح على أجناس أخرى، والمنقبة شكل سردي يحكي عن حياة أشخاص مخصوصين بالقدسية، وعن كراماتهم وخوارقهم، وهي شكل من أشكال الترجمة أو بيوغرافيا خاصة بشخص معين، وفي مكان وزمان محددين . ومن هنا تتحول هذه الفكرة إلى حافز سردي كفيل بتوتير القارئ، وحثه على المشاركة في تكوين الكون الروائي/المنقبي بتوجيه من السارد/الكاتب أنقار من أجل إعادة إنتاج نموذج الجد أنقار، إذ ينبغي لكل مقلد أن يعرف إمامه الذي قلده، ولا يحصل ذلك إلا بمعرفة مناقبه وشمائله وفضائله وسيرته وصحة أقواله، ثم إنه لا بد من معرفة اسمه وكنيته .
2- عن بلاغة المكونات المنقبية في رواية شيخ الرماية:
لقد فسح مجال الرواية المنفتح على حقول معرفية، من حيث هي "شكل أدبي يرتدي أردية لغوية تنهض على جملة من الأشكال والأصول كاللغة، والشخصيات، والزمان، والمكان، والحدث؛ يربط بينها طائفة من التقنيات كالسرد، والوصف، والحبكة، والصراع؛ وهي سيرة تشبه التركيب بالقياس إلى المصور السينمائي" ، المجال للمبدع في استغلال طاقات المنقبة التي على جملة من الثوابت كالتعريف بالأصل والنشأة وشيوخ وراثة السر وعرض أسانيد الطريقة وذكر الأخبار والكرامات ، لتقديم تجربة روائية مفعمة بعبق صوفي.
1-2- بلاغة عنوان والمنقبة:
اختار الكاتب لروايته عنوانا مركبا تركيبا إضافيا "شيخ الرماية"، وهما كلمتان ظاهرتان تمثلان خبرا لمبتدإ محذوف تقديره "هذا" أو "هو". وبهذا يكون العنوان خبرا في موضوع الإخبار المراد تقديمه. ومعنى ذلك أن الرواية ستتكفل بتقديم مادة حكائية إخبارية حول شيخ يتقن الرماية. وعند العودة إلى الأصل اللغوي للعنوان نجد أن ورود مصطلح "الشيخ" يدل على كل من أدرك الشيخوخة، وهو غالبا عند الخمسين؛ فوق الكهل، ودون الهَرم، وذو المكانة من علم أو فضل أو رئاسة . واصطلاحا لفظ متداول عند الصوفية، ويعني كل من سلك طريق الحق، وأرشد المريدين إلى ذلك . أما لفظة الرماية فتعني، حرفة الرامي . وقد تتحول هذه الحرفة إلى وظائف اجتماعية تجسد دلالة التفوق والسيطرة والهيمنة، خصوصا وأن هذه السيطرة في المناقب تكون في الكثير من الأحيان مرفوقة بخرق العادة والمألوف، مما يدخل الشيخ الرامي ضمن الشخصيات المقدسة التي تلقى التبجيل والتقدير والاحترام من قبل المجتمع.
يجعلنا مضمون العنوان ندرك مبدئيا، أن الرواية ستقدم لنا شخصية مختلفة عن الشخصيات الروائية العادية. كما أنه يهيئ الجو النفسي للمتلقي لما يحمله من دلالات سلوكية، فعبارة شيخ الرماية- كما رأينا - تثير لدى القارئ أحد أصناف التأليف الصوفي المسمى بأدب المناقب، أي السيرة التي تتصدى لسرد المنزلة والمكانة العلمية، والكرامات والأفعال الخارقة التي تسمو بالشيخ وتجعله في منزلة الصلحاء من العباد. والرماية أحد الخصائص التي يتميز بها هذا الشيخ. إذ سيتخذها وسيلة للتفوق والهيمنة والسيطرة على الآخرين، لتكون دلالة على سموه.
2-2- عن بلاغة المكونات المنقبية في رواية شيخ الرماية:
يعمل المتن الروائي على تأكيد عتبة العنوان، ويوطدها، من علامات فنية مضمنة في الإبداع، يستشفها القارئ بواسطة القراءة المتأملة لكي يفضي إلى خصائص الترجمة المنقبية، لتكون النتيجة تلاقح جنسين في عمل واحد، فالحديث عن الاسم والنسب والأصل والولادة والنشأة وعلاقة الشيخ بصلحاء وقته، وسرد كراماته هي مكونات رئيسة في الترجمة المنقبية، والتقدم في قراءة المتن الروائي يحيلنا إلى هذه المكونات. أي إننا أمام عمل يقيم نمطا من التناظر أو التقابل بين جنسين، وعلينا أن لا ننسى أننا إزاء نص روائي ينتمي إلى شروط إبداعية لا يمكن بأي حال من الأحوال الانسلاخ عنها من حيث هو فن قائم بذاته، فهي معادلة صعبة يضطر الكاتب معها لأن "يذعن لما هو أقوى من سلطة النوع الأدبي الخالص" .
إن صراع المبدع محمد أنقار الحقيقي في صياغة العمل لن يكون مع الشكل والبناء والمكونات، وتركيب السمات، باعتباره كاتبا ناقدا متمرسا معتادا على ذلك، وإنما سيكون في كيفية التحكم في سلطة جنس على آخر، فالقارئ يلح كثيرا على طلب الانسجام، والمبدع مطالب بأن يحول سمات جنس المنقبة ويذيبها في جسد الرواية، وبالتالي يحقق لها الاغتناء الفني، وهو ما سيمثل تحديا جماليا جديدا.
ترد في الرواية إشارات إلى اسم الجد ولقبه وأصله، يقول السارد على لسان محمد حفيد الشيخ "اسمي محمد، وينتهي اللقب من ناحية الأم إلى الرايس أو التمسماني قدمت عائلتها من الريف...اسم الوالد عبد الله، من قبيلة بني حزمار الجبلية. بذلك أخذت عن جدي الاسم لأبي الاسم الشخصي واللقب، ويحكى أنني عندما ولدت في درب سيدي أحمد بن عمرو بالمدينة العتيقة، خاطب أبي أمي بقراره الحاسم: - سأسميه محمدا تيمنا باسم والدي لعل الله يجعله مباركا مثله" .
يحيلنا اختيار أسماء بعينها "محمد" "عبد الله" المقرونة بالبركة مباشرة إلى المرجعية الدينية المتمثلة في شخصية الرسول محمد صلى عليه وسلم وأبيه عبد الله. وهي سمة من سمات الترجمة المنقبية التي تدخل مباشرة في مقابلة الولي وكراماته، بالرسول صلى عليه وسلم ومعجزاته. وهو الأمر الذي نجده في بعض الإشارات الزمنية التي تحدد تاريخ ولادة الجد ونشأته، والتي تخرج شخصية الجد من إطارها العادي إلى شخصية تدخله ضمن الشخصيات المقدسة. يقول السارد: "جدي كان موجودا في المدينة أو في ضواحيها قبل نهاية القرن التاسع عشر، فتخيلت الرجل في صور جسدية ونفسية متداخلة. تارة أتصوره يسبح في الفضاء، يملك مطلق الحرية على الانتقال عبر السنوات، قاطعا فيافيها بساقيه الطويلتين/ سابحا بين السحب، بقندورته المخططة الطويلة، وقد تمنطق بحزام من الثوب الملفوف، وانتعل حذاءا جبليا أو حتى لم ينتعله. وتارة ثانية أتخيله يقفز في خفة خارقة من نهاية القرن التاسع عشر إلى بداية القرن العشرين كما لو يقفز من سطح دار إلى سطح دار أخرى مجاورة..." .
تسمو هذه الصورة المستوحاة من الخيال على الصورة الأصلية للشيخ، والمتمعن فيها يدرك تمام الإدراك أن السارد يراهن على خرق العادة، أي الكشف عن حالة الشيخ الصوفية من سباحة في الفضاء، وطي للمسافة، وهي سمات تسمو بالشيخ إلى مرتبة الأولياء المقدسين، كما أن لبس القندورة وانتعال الحذاء في العرف الصوفي هي مبشرات البركة التي تعد ميزة للشخصية المتعبدة، إنه إحساس روحي يصبو من خلاله السارد جعل المتلقي يحلق بخياله في عوالم تخييلية، بلغة تشويقية، ظلت وفية لأسلوب الكتابة المنقبية.
يتوقف جنس المناقب على خرق قوانين الطبيعة والعقل، وفي الرواية أمكننا رصد الكرامات التي تتميز بسمة الخرق، إذ إن المناقب بوصفها أخبارا "وحكايات حول الصالحين، تقوم أساسا على الحدث والعمل الخارق" . وأغلب حكايات وأخبار الجد تتسم بالخارق، يقول السارد: "ومن الخوارق العظيمة التي روتها أمي في هدوء وراحة...أن الشيخ كان يخرج ليجاهد ضد النصارى فتصيبه بعض الطلقات ويصطدم رصاصها بملابسه فلا يخترقها وإنما يستقر في ثناياها. وعندما يعود إلى داره منهكا ويتأهب للنوم يخلع جلبابه وقشابته فيتساقط منها الرصاص الذي لم يفلح في اختراق جسده" .
ففي هذه الواقعة تم خرق العادة، وفي جنس المناقب يقترن الخرق بسمة الصلاح ، فالخارق وخرق العادة الذي تتأسس عليه الرواية يسمح لشخصية الجد أن تسمو وتجعله في مرتبة القديسين، فالجد تغمره القداسة، وتجري على يديه الخوارق، يستمد قوته من العناية الإلاهية، ذلك أنه لا يخرق العادات بقدر ما تنخرق له العادات ، والحديث عن هذا المكون في المنقبة، هو حديث عن صناعة "النموذج على سنة الأولين" .
خلاصة القول، إن هذه الدراسة الموجزة قد أبرزت لنا جوانب من تداخل جنسين، وذلك من خلال توظيف التراث الصوفي المتمثل في جنس المنقبة من اسم ونسب ونشأة واستقرار وذكر للحكايات والكرامات، واستغلاله روائيا في إنتاج تجربة متميزة. وإن كان استثمار الروائي مكونات المنقبة وسماتها من حيث هي سمات جمالية انفتح أكثر لم يسمح لنا المقام بذكرها، فإن انفتاح الرواية على هذه العناصر، وتساندها مع مكوناتها، ظل مرتبطا بجنس الرواية، فجاءت مكونات هذه الأخيرة من شخصيات وزمان ومكان وحدث وعناصر الحكي متعاضدة مع جنس المنقبة ليشكلا معا عملا إبداعيا منصهرا جمع بين ما هو جمالي وبين ما هو إقناعي. مما يؤكد نجاح الروائي في محو الحدود الفاصلة بين التجربة الروائية، والتجربة الصوفية إلى حد التماهي والذوبان، وكل منهما أعطى للآخر شرعيته الفنية.