القاهرة 17 ابريل 2018 الساعة 11:56 ص
محمدأنقار
بقلم: خالد أقلعي*
« يستطيع الباحث الأدبيّ أن يلحظ، بقلق كبير، الصمت المريب الذي يخيّم على عالم الكتابة للأطفال في العالم العربي بوجه عام، وفي المغرب على وجه الخصوص.وفي اللحظة التي تطرح فيها المطابع الغربية عشرات العناوين الإبداعية الموجَّهة للطفل ، و الموجِّهة لكتّاب الأطفال ، تعشّش العناكب في مكتبة الطفل العربي ، وتعود آخر الإصدارات فيها إلى عشرات السنين .من هنا تأتي ضرورة قراءة هذا الكتاب ،الذي يعتبر فريدا من نوعه ،من حيث عرضه للسمات الفنية التي وسمت قصص الأطفال بالمغرب»
سؤال الماهية
في معرض حديثه عن الدّوافع العلميّة لإنجاز رسالته الجامعية، يعترف محمّد أنقّار لمحاوره بما يأتي :
« أتذكّر جيّدا أنّي حوصرت أثناء إنجازي تلك الرسالة بمجموعة من الأسئلة المؤرقة التي قضّت مضجعي عقليّا و جسديّا . ذلك أنني لم أختر موضوعا في مجال الأدب العباسي مثلا أو تاريخ الأدب المغربي، مثلما لم أختر كتابة سيرة شخصية أدبية أو معالجة موضوع له صلة بالتاريخ أو التحقيب أو التصنيف،وإنما وجدتني أخوض في مجال يخلو من نماذج أكاديمية و جامعية على الأقلّ في حقل الدراسات العربية....:ما المقصود "بقصّة الطفل" ؟ هل تعريفها يختلف عن قصة الراشدين،أم إنه فرع منه ؟وإذا لم يكن الأمر كذلك،فأيّة علاقة تجمع بينهما ؟ثمّ هبنا حسمنا فيما يخصّ العلاقة، هل نستطيع بعد ذلك أن نحلّل القصة الطّفولية على غرار ما نحلّل القصة الراشدة؟وأيّ المناهج المطروحة تصلح لمعالجة قصص الأطفال؟.»1
لا تكمن قيمة هذا البوح في استعراض الأسباب الذّاتية و الموضوعية التي وجّهت الباحث إلى مقاربة جنس قصص الأطفال دون غيره من الأجناس الأدبية، في هذه الفترة بالذّات، وإنما تكمن في مسألتين هامتين : ترتبط أوّلهما بطبيعة البحث العلمي السّائد في الجامعة العربيّة عموما،المغربية على وجه الخصوص، والمتمثّلة في الانكباب ،شبه التّام، على البحث في أجناس أدبية مخصوصة ، وطرق مجالات إبداعية سبق الخوض فيها باستمرار، الأمر الذي يهدّد بأن يسم البحث العلميّ بسمات الاستنساخ و التكرار و الثبات، وينفي عنه سمات المغامرة و الحداثة و الكشف...، أما ثانيهما ، فتتعلّق بماهية الأسئلة التي يعرضها الباحث على طاولة النقاش ، والتي لا شك في أنها كانت متقدّمة ،تطبيقيّا على الأقلّ، على كثير مما روّجته الساحة النقديّة المغربيّة، في فترة الثمانينات من القرن الماضي.فهل كان للنقد الأدبيّ ، آنئذ ، أن يهتمّ بمفاهيم الجنس و المكوّن و السّمة ، وهو في خضمّ هوسه الإيديولوجي وانشغالاته السّياسية، ونزعاته الموضوعية الصّارمة ؟
يكشف الباحث عن ماهية إنجازه بالتأكيد على أنّ مؤلّفه «قصص الأطفال بالمغرب»من الكتب التي لا تروم تأريخ القصة القصيرة الموجهة للطفل بقدر ما تهدف إلى تحقيق غايتين جماليتين: تتمثّل الأولى في رسم صورة فنيّة مكتملة لتطوّر فنّ قصص الأطفال بالمغرب وتتكفّل الثانية برصد قصّة الطّفل ، من حيث هي جنس أدبيّ متميّز بخصائصه الفنيّة ،و سماته النوعية ، وأساليب تكوينه المخصوصة2 .وعندما يبادر الباحث إلى الإعلان،منذ البداية، بأن مؤلّفه يعالج «أدبيّة القصة النثريّة بوصفها جنسا من أجناس أدب الأطفال، و يستبعد القصص الشعرية المركبة من جنسين متباينين»3 ، تتكشّف استراتيجيته النقديّة الموسومة بنظرة متميّزة إلى القصص النثري ، وبرغبة حازمة في مقاربته باعتباره جنسا إبداعيّا خالصا ،كامل الخصوصية و التكوين عن غيره من أجناس أدب الطفل.
سؤال الخصوصية
إذا اقتفينا السّبيل الذي سلكه الباحث ليرصد عالم الكتابة الموّجهة للأطفال، وهو سبيل وعر كما يعلم كلّ المشتغلين بالأدب، سوف نلاحظ أنه اهتمّ، في البداية،بمحاولة تحديد مصطلح «الطّفل » بحيث أشار إلى الصعوبات المرتبطة بإنجاز هذه المهمّة ، والمتمثّلة في تعدّد التعريفات و اختلافها بحسب مرجعيّتها المعرفيّة.واهتدى في نهاية المطاف إلى أن مثل هذه الحالات تقتضي من الباحث ترجيح خصوصيات بعض التعريفات، خاصة المتعلّق منها بمجالات ذات ارتباط مباشر بهذا الكائن المتميّز الذي هو "الطفل"، مثل علم التربية و علم النفس و غيرهما...وهكذا انطلق الباحث في عرض تعريفات كلّ من جان شاتو و هنري فالون و جان بياجي...غير أنّ ما يهمّنا في هذه المرحلة النقديّة المتقدّمة من البحث، هو هوس الباحث بالإشكال الجنسيّ ، ومدى فعاليته في خلق إبداع قصصيّ يتجاوب مع نفسية الطفل و مستوى استيعابه،وذلك عندما ينبّه كتّاب قصص الأطفال إلى ضرورة الوعي باختلاف العلماء حول تحديد مراحل نموّ الطفل و طبيعة خصوصياتها، لأن ذلك سوف يسهّل عليهم ،لا محالة، حصر الفروق النوعيّة القائمة ما بين قصّة و أخرى، ثمّ تعليلها4.
وفي أثناء انتقاده لوجهة نظر علي الحديدي حول أدب الأطفال، و المعتقدة في أن طفل السنتين يمكنه أن يفهم معاني القصة و يبتهج بها ، يعلّق الباحث قائلا :
«ونعتقد أن في هذا القول مبالغة.فالطفل في هذه المرحلة قد ينصت إلى مجموعة جمل في حكاية أو قصة قصيرة جدّا، وقد يبتهج لما ينصت إليه، ولكن مصدر هذا الابتهاج لن يكون هو تلك المعاني التي تشير إليها القصة وإنما سيكون إيقاع بنائها و طريقة تنغيم لغتها،و تشخيص حركتها التي قد يقوم بها القارئ الرّاشد. وتلك خصائص تشترك فيها القصة مع ألوان أدبيّة أخرى كالأغنية ،و الكتب المصوّرة التي نراها أكثر جدارة بأطفال هذه الفترة من القصص و الحكايات المكتوب»5
تستند هذه الصورة النقديّة إلى إشارات فنيّة واضحة تناقش الإشكال الجنسيّ الذي يؤرّق بال الباحث، والمتمثّل في تحديد بعض خصائص القصة الموجّهة للطّفل و سماتها النوعية.وإذن، هذا النص الذي يبدو في ظاهره ردّا نقديّا بسيطا على وجهة نظر معرفيّة جزئيّة يشيّد ،في واقع الأمر،حدودا تكوينية بين أجناس إبداعية مختلفة مثل:الحكاية والقصة القصيرة جدا، والأغنية والكتب المصوّرة... كما أنّه يرصد الخصائص الفنية التي تبدو مشتركة بين القصة وبين هذه الأجناس، خصائص من قبيل: الإيقاع والتنغيم والتشخيص...بهذا يفتضح هاجس ( التّجنيس ) الذي يوجّه سعي الباحث العلميّ إلى إثراء حقل تجربته التأمليّة ، وذلك من باب إقصاء أيّ تصوّر برّانيّ يهدّد باستلاب الاجتهاد الأدبيّ عن حقله الجماليّ المشروع.
ينتقل الباحث في الفصل الثاني من مؤلّفه إلى التحديد المباشر لمفهوم (قصّة الطفل) انطلاقا من إضاءة السؤال الآتي: ما هي قصّة الطفل ؟ وهو سؤال تسمح الإجابة عنه ببيان أوجه التقصير في تعريف كلّ من مجدي وهبه وكامل المهندس 6 كما تبرز حجم معرفة الباحث بطبيعة الكون القصصي الموجّه إلى الأطفال. إنه يعيب على تعريف المعجميين اقتصاره على ذكر نوع واحد من القصص مع إهمال باقي الأنواع الأخرى التي لا تقلّ فائدة للطفل و تأثيرا فيه.
وفي أثناء رصده لحضور مكوّن الزّمن في قصّة الطّفل ، يؤكّد الباحث على أن الاستثمار الجيّد للزمان «هو الذي يمنح الطفل إحساسا مناسبا لنموّه العقلي عن طريق نسخ التجريد بتجسيمات ملموسة»7.وهنا أيضا يتعزّز يقينه في أهميّة المتلقّي و دوره في إنجاح اللّعبة القصصية أو إفشالها.
ويطفو هاجس التجنيس على مقال رصده للفضاء القصصي ، إذ يعلن بأن «تنوّع استعمال الأمكنة في قصص الأطفال يتبع تنوّع الأجناس و الأنواع القصصية : ففي النادرة مثلا تقدّم الأمكنة بشحّ واضح على أن الأمر يختلف في الجنس الروائي حيث يمكن للكاتب أن يسهب في وصف الأمكنة العديدة»8.وليس ثمّة شكّ في أنّ التمييز ما بين مفهومي الجنس و النوع ، وإبراز الفروق القائمة بين كيفيتي استثمار كلّ من فضاء النادرة و فضاء الرواية،يعتبر نزوعا طليعيّا نحو التبشير بوظيفة الناقد الأدبيّ ،التي لا ينبغي بحال من الأحوال أن تشتغل بعيدا عن هدي السياقات النصية : عيّنات المختبر الأدبي.
إنّ الأطفال يحبّون قصص الحيوان، مثلما أنهم يحبّذون قراءة نوع القصص الذي يفسح لهم مجالا أرحب لتدريب مخيّلتهم9.لذلك ينبّه الباحث إلى ضرورة تبنّي المعيار الطبيعي محكّا لانتقاء الشخصيات كأن تراعي «نوعية جمهور الأطفال وفروقه الفردية و مراحل النمو واختيار الظرف المناسب لتقديم شخصية نمطيّة جديدة أو الإحجام عن تقديمها»10
ويتوقّف في حديثه عن الحدث القصصي ليشدّد على أنّ الطفل لا ينسجم إلّا مع القصة التي تقدّم له أكبر قدر من الحركة، والتي تلمّح أكثر ممّا تصرّح لأنها تمنحه بذلك الفرصة لكي يدرك بمجهود ذاتي كثيرا من خفايا الحياة وألغازها 11.
وكما يبدو من المفاهيم النقديّة المتطوّرة التي يؤسّس الباحث بواسطتها تصوّره لماهية قصّة الطفل و خصوصياتها، فإن ثمّة وجود لوعي متقدّم نسبيّا بكيفية تضافر مكوّنات الإبداع القصصي وخصائصه الجنسية وسماته النّوعيّة نشدا للتأثير في القارئ و تمتيعه ببهجتي المتعة و الفكر.ولكن، دعنا نتوقّف عند هذا المرحلة من مراحل الاجتهاد النقديّ ، ونطرح الأسئلة الآتية :
هل تجاوز تصوّر الباحث لأسلوب اشتغال مكوّنات النصوص القصصية الموجّهة للطّفل، وكيفية استثماره السّمات الفنية المختلفة، البرزخ المنهجيّ الخطير الذي يفصل ما بين حدود التصوّر الضيّقة وحقل التطبيق الرّحب؟ أليس التلاحم و الانسجام ما بين مكوّنات النظريّة النقديّة و فعالية ممارستها شرطا أساسا من شروط موضوعية البحث العلميّ مهما كان مصدره و مجال اشتغاله ؟ وبكلمة: هل أدرك محمّد أنقّار خطورة المأزق الذي يتخبّط فيه الناقد الأدبيّ أحيانا كثيرة ،و المتمثّل في عدم الوفاء ، تطبيقيّا، بما يكون تعهّد به نظريّا ، واستطاع أن يتفاداه ؟ .ذلك ما سيكشف عنه الآتي .
القراءة المخصوصة و الخطاب الأدبي
الحقّ أنّ وقفة متأنيّة مع الفصول التطبيقية الخمسة لهذا المؤلَّف تدفع إلى الاعتقاد بحرص الباحث المتواصل على الالتزام بمناقشة جوانب متعدّدة من القضايا المتعلّقة بقصص الأطفال بالمغرب.وهو التزام يجتهد ليكون التزاما فنيّا، وظيفته الأساس إضاءة بؤر الجمال و التماسك المتصّلة بقصة الطفل المغربيّة، ومكان الاختلال و التفكّك فيها، بعدما رصد في الباب الثاني من الرسالة جوانب تاريخية من مسيرتها، وإلّا بماذا توحي عناوين الفصول الآتية:(خطاب القيمة،خطاب المغامرة،الخطاب الخارق،الخطاب الشّاعري)؟ .إنها عناوين توحي بنزوع فنيّ نحو مناقشة ظاهرة السّمات في قصص الأطفال ، خطوة نقديّة ندرك جيّدا أهمّيتها (لتجنيس )القصة الموجّهة للطفل و تمييزها عن غيرها من الأجناس و الأنواع القصصية الأخرى.
في إبّان رصده (لخطاب المغامرة) في قصة الطفل المغربيّة،وبعد ما يقدّم من تعريفات دقيقة لمصطلح (المغامرة)، ينتقل الباحث إلى مقاربة بعض قصص الأطفال مقاربة تكشف عن الوسائط الفنيّة التي يخترق بواسطتها حصون الإبداع ، فتبدو القراءة المخصوصة الشاملة أبرز هذه الوسائط. لنصغ إليه وهو يحلّل قصّة الكتّانيَين* «مغامرات ذكيّ»:
«نفتح الكتاب و نبدأ مشروع القراءة لنلتقي بأوّل اسم في النصّ وهو "عمارة". نتابع القراءة و نلاحظ أن الاسم يتكرّر ثلاث مرّات في الصفحة الأولى، فتخامرنا فكرة أن "عمارة" هو المقصود "بالذّكاء" الوارد في العنوان،إلاّ أن هذا التخمين يظلّ بلا سند على الأقل في الأسطر التمهيدية التي يمكن اعتبارها مدخلا للنص.من هنا تصبح القراءة الشاملة للكتاب ضرورية.»12
إنّ أسلوب الحرصِ، في هذا المقام، على تناول تفاصيل الإبداع الموجّه للطّفل، يتأسّس انطلاقا من تلك القراءة الشّاملة للنص القصصيّ استهلالا بالعنوان ، مرورا بمدخل النصّ و انتهاء بمجمل الكتاب.وبذلك تصبح القراءة بمنزلة معيار نقديّ حاسم لتحديد مدى تأثير القصة في الطّفل المتلقّي أو إخفاقها في ذلك. وربّ هذا ما يحفّز الباحث إلى التحذير من عدم جدوى استثمار بعض الصور البلاغة التي يستعصي على القارئ الطّفل استيعابها.13
بإيعاز من هاجس التجنيس، مرّة أخرى، وعلى هدي قراءة مخصوصة،يحرص الباحث على اعتماد السمات السردية معيارا لتصنيف قصة الطفل بالمغرب،وهو معيار يستمدّ شرعيته من الجوهر الأدبي ذاته.إذ نجده يرصد من خلال النصوص القصصية المختارة ،عيّنات التجربة، سمات فنية من قبيل: المغامرة و الخارق و الشّاعرية...وهو ما نصادفه في سياقات نقدية عديدة في هذه الدراسة، حيث التفاعل المتناغم ما بين مكوّنات قصة الطفل و سماتها النوعية.
إنّ الثراء الفنيّ للعيّنات النقدية، التي يضيق المقام عن عرضها، يعكس وعي الباحث الناضج بالوظيفة الجمالية الموكولة إليه.ولهذا ليس من قبيل المصادفة أن تصدر مؤلّفاته النقديّة التي ظهرت بعد قصص الأطفال بالمغرب ، مثل :
"بناء الصورة في الرواية الاستعمارية (صورة المغرب في الرواية الإسبانية)"و"بلاغة النص المسرحي" و "صورة عطيل" ، عن نفس اليقين في رحابة النص الإبداعي ، وقدرته على مدّ القارئ المخصوص بمفاتيح أكوانه المتخيّلة البهيّة . أليست (القراءة المخصوصة) مدرسة يتعلّم منها الإنسان كيف يقرأ، وكيف يفكر، وكيف يعيش ؟.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش
1- «حوار مع محمد أنقار »، أنجزه الشاعر العيّاشي أبو الشتاء ، الملحق الثقافي لجريدة الاتحاد الاشتراكي المغربية،ع 6123، الثلاثاء 16 ماي 2000.ص:10
2- من حوار إذاعي مع محمّد أنقّار، بثّته الإذاعة الوطنية بالرباط عام 2000.
3-قصص الأطفال بالمغرب، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان،ط1،1998، ص:5
4 – نفسه،ص:15
5-نفسه،ص:17
6-نفسه،ص:31
7-نفسه،ص:38
8-نفسه،ص:40
9-نفسه،ص:40
10-نفسه،ص:40
11-نفسه،ص:41
* ويقصد الأخوين القصاصين عبد الرحيم الكتاني و عبد الحق الكتاني
12-نفسه،ص:185
13-نفسه،ص:186