القاهرة 17 ابريل 2018 الساعة 11:19 ص
هـنـاء زيــادة
في 8 مايو عام 1927م، وُلِدَ سيد مكاوي بحي الناصرية بالسيدة زينب بوسط القاهرة، والذي حتى رحيله ظل يتباهى بمولده ونشأته وحياته فيه، وما يحيط به من مناطق شعبية أصيلة، عاش صباها فيها، كانت أسرته بسيطة، وكان ضريراً، فحمل هذا أسرته على توجيهه كي يحفظ القرآن الكريم في "الكُتّاب"، عندما شبَّ قليلاً بدأ يقرأ القرآن، ويؤذن للصلاة بمسجد أبوطبل ومسجد الحنفى بحي الناصرية، لم يلتحق "مكاوي" بالمدرسة بسبب فقدانه للبصر وفقر أسرته، وعندما وصل إلى مرحلة الصبا بدأ يستمع إلى الإنشاد الديني من خلال متابعته لكبار المقرئين والمنشدين آنذاك، وكان يتابع أساطين الإنشاد والتلاوة، ويتعلم منهم ويقلدهم، وساعدته والدته على ذلك، فكانت تشترى له الأسطوانات القديمة من بائعى الروبابيكيا، كان "مكاوي" يتمتع بذاكرة موسيقية قوية، فما أن يستمع إلى الدور أو الموشح مرة واحدة حتى يحفظه بإتقان. بعد أن صار على أعتاب الشباب، تعرف "مكاوي" على أول صديقين له فى مسيرته الفنية، وهما "إسماعيل رأفت" و"محمود رأفت"، وكانا من أبناء الأثرياء، ومن هواة الموسيقى، كان لديهما مئات الأسطوانات من تراث الموسيقى الشرقية، وكان أحدهما يعزف على آلة القانون، والثانى على آلة الكمان، ثم كون ثلاثتهم ما يشبه التخت لإحياء حفلات الأصدقاء، وهو ما ساهم في تكوين شخصيته الفنية فاستمد خبرة أفادته في مستقبله الموسيقي.
كان "مكاوي" في بدايته مهتماً أكثر بالغناء، وقد سعى لأن يكون مطرباً، وبالفعل اعتمدته الإذاعة المصرية مطرباً في أوائل خمسينيات القرن العشرين، وكان يقدم الأغاني التراثية من الموسيقى الشرقية، من أدوار وموشحات، وكان يقدمها على الهواء مباشرة في مواعيد شهرية ثابتة، وقد كلفته الإذاعة بعد ذلك بأداء ألحان خاصة، وكانت أولى أغانيه الخاصة والمسجلة بالإذاعة هي أغنية "محمد"، وهي ليست من ألحانه، بل من ألحان صديقه "عبد العظيم عبد الحق"، بينما كانت الأغنية الثانية "تونس الخضراء" للملحن "أحمد صدقي". لاحقاً بدأت الإذاعة في التعامل مع "مكاوي" بوصفه ملحناً إلى جانب كونه مطرباً، وبدأت في إسناد الأغاني الدينية إليه، فقدم من خلالها للشيخ "محمد الفيومي" الكثير من الأغاني الدينية التي توجها بأسماء الله الحسنى. لكن شهرته الحقيقية كملحن بدأت بأغنية "حدوتة" للمطرب محمد قنديل، ثم "مبروك عليك يا معجباني" لشريفة فاضل، و"اسأل مرة عليا" لمحمد عبد المطلب، حيث أدى نجاح هذه الأغاني إلى ظهوره كملحن جديد ومتميز، يجمع بين مدرسة التعبير لسيد درويش ومدرسة التطريب لزكريا أحمد، قدم لـوردة عدة أغان ناجحة، منها: "أوقاتي بتحلو"، و"قلبي سعيد"، و"ياما ليالي"، و"شعوري ناحيتك"، كما قدم للفنانة ليلى مراد "حكايتنا إحنا الاتنين" ولشادية "هوى يا هوى ياللى إنت طاير" ولنجاة الصغيرة "لو بتعزنى" ولصباح "أنا هنا يا ابن الحلال"، ولحن أغنية وحيدة لكوكب الشرق أم كلثوم هي "يا مسهرني"، ومن الطرائف التي سبقت الاغنية وموعد اللقاء ان جاء "مكاوي" متأخرا وكانت أم كلثوم في أشد الغضب، لكنه استطاع أن يذيب هذا بسخريته المعهودة قائلاً: "معلهش يا ست اصل الطريق كان زحمة وانا اللي كنت سايق"، كما قدم لها أغنية "أوقاتى بتحلو" التى كان من المقرر أن تغنيها أم كلثوم قبل وفاتها، لكن غنتها "وردة" لاحقاً، وقد أعطى بعض ألحانه إلى الفنان السوري "جورج وسوف" الذي أبدع بها بشكل أبهر سيد مكاوي نفسه، كأغنية "الغالي" التي ذاع صيتها .
في دنيا النغم التي كانت مليئة بعمالقة الموسيقى والتلحين، من أمثال سيد درويش وزكريا أحمد ومحمد عبد الوهاب ومحمد القصبجي ورياض السنباطي وبليغ حمدي، غستطاع "سيد مكاوي" أن يشق طريقاص لنفسه ويصنع لنفسه مكانة مهمة بينهم، ويكتب اسمه بأحرف من نور في سجل الموسيقى العربية الخالد، لكن عطاء "مكاوي" يختلف كثيرا عن عطاء ملحنين كثر، إذ أنه كان يتغنى بما يلحن وكأنه لحنه لنفسه، وهناك الكثير من الألحان التى لحنها يغنيها هو دون أن يرشح لها أحد غيره، إذ كان يتمتع بصوت جميل، كما أنه لحن لكل الكبار والشباب، ومازالت ألحانه تلقى ترحيبا من المواهب الشابة. في المسرح الغنائي؛ اشترك في تلحين أوبريت "القاهرة في ألف عام" الذي جمع كبار الملحنين وقتها، ولحن عدداً من المسرحيات الشهيرة، منها: "مدرسة المشاغبين"، و"هاللو شلبي"، و"سوق العصر"، "دائرة الطباشير القوقازية"، "الصفقة"، ولمسرح العرائس قدم "قيراط حورية"، "حمار شهاب الدين"، و"الفيل النونو الغلباوي"، كما غنى بصوته أكثر من أغنية، منها: "الأرض بتتكلم عربي"، و"حلوين من يومنا"، و"عندك شك في إيه"، و"ليلة امبارح"، و"كده أجمل انسجام"، بالإضافة إلى مجموعة من التسابيح والابتهالات الدينية، وقد جمع "مكاوي" بين فن التعبير وفن التطريب، فأطلق عليه النقاد الفنيون لقب "شيخ الملحنين"، وكان لـه نصيب مهم فى المشاركة بفنه فى الأحداث الوطنية المهمة، ففي أثناء عدوان عام 1956م على بورسعيد قدم "مكاوي" أغنية جماعية كانت من أغاني المعركة وهي أغنية (ح نحارب ح نحارب كل الناس ح تحارب). وفي حرب 1967 قدم عقب قصف مدرسة بحر البقر أغنية (الدرس انتهى لموا الكراريس) للفنانة شادية، وعقب قصف مصنع أبوزعبل قدم أغنية جماعية هي (احنا العمال إلي إتقتلوا) والأغنيتان للشاعر العظيم صلاح جاهين، كما اشترك سيد مكاوي في بداية الستينات في الحفل الكبير الذي أقيم بأسوان احتفالا بالبدء في بناء السد العالي، كما قدم للشاعر فؤاد حداد (مصر مصر دايما مصر) وأغنية (مافيش في قلبي ولا عينية الا فلسطين)، وأثناء حرب السويس قدم لصديقه كمال عمار أغنية (يا بلدنا الفجر مادنة ونار بنادق). كما قدم أغاني شعبية خفيفة مثل "آخر حلاوة مافيش كدا"، و"ماتياللا يا مسعدة نروح السيدة" والأغنيتان للشاعر الراحل عبد الله أحمد عبد الله.
استمد "مكاوي" موسيقاه من نغم الحياة ليمتع الناس بموسيقى تعانق تفاصيل حياتهم اليومية، فأبدع "مكاوي" فى تلحين مقدمات غنائية لعدد من المسلسلات الإذاعية والتليفزيونية الناجحة، منها في الإذاعة: شنطة حمزة ورضا بوند وعمارة شطارة وغيرها، ولما كانت الإذاعة تقدم خلال شهر رمضان حلقات المسحراتى كانت تعهد لأكثر من ملحن للمشاركة فى الثلاثين حلقة، وأسندت له الإذاعة تلحين 3 حلقات فقدمها على الطبلة، وبدون فرقة موسيقية معه، وقد لاقت قبولاً ونجاحاً كبيراً، وهو ما دفع بالإذاعة فى العام الذى يليه إلى إسناد العمل كاملاً لـسيد مكاوى وحده كي يقدمه للمستمعين، لذا فقد ظل يلحن ويؤدى دور المسحراتي في شهر رمضان لأعوام عديدة، بطريقة مميزة مع صديقه الشاعر "فؤاد حداد"، وظل يقدمها حتى وفاته، أما أشهر محطاته الفنية خلال مسيرته، فهما أوبريت الليلة الكبيرة والرباعيات، وكلتاهما مع صلاح جاهين. توفي الموسيقار الكبير "سيد مكاوي" يوم 21 أبريل 1997م، لتنتهي حياة شيخ الملحنين ، الذي ظل وفيّاً لفنه ولموسيقاه، وهو الذي حصل على وسام العلوم والفنون من الدرجة الأولى من الرئيس جمال عبدالناصر، تقديراً لفنّه الذي أحبه الكثيرين، وشُغفوا به، كما نال أيضا وسام الاستحقاق من الرئيس التونس "الحبيب بورقيبه"، ووسام الفنون من اكاديمية الموسيقى بجامعة كاليفورنيا، وكان من الصدف الغريبة أن يوم رحيله في 21 ابريل 1997م، هو نفس اليوم الذي رحل فيه صديق عمره ومشوار كفاحه "صلاح جاهين" الذي توفي في يوم 21 ابريل 1986م، أي بعد أحد عشر عاماً.