القاهرة 03 ابريل 2018 الساعة 11:40 ص
محمد زين العابدين
فى كل مكان و زاوية من الأرض إلى البحر إلى السماء،ومن أصغر ميكروب يسبح فى قطرة مياه إلى أكبر كائن حى،وصولاً إلى أضخم مجرة،تفاجئنا الحياة بعجائبها وطرائفها المدهشة التى لا تنتهى،والتى لا نملك معها إلا أن نقول سبحان الله..لله فى خلقهِ حِكَمْ!،والإنسان هو أكثر الكائنات إدهاشاً فى هذا الكون..فى هذه السلسلة نطوف معاً بدهشة الأطفال ونتأمل صوراً ملونة نختارها لكم من عالم الحياة المدهشة...
الحمار : الحيوانُ المطيعُ الذكيُ الصبور
الحمار..ذلك الحيوان المطيع الصبور،الخادم للفلاح والمعين له على قضاء كل حاجاته،هو حيوان ذكي جداً يحفظ الطرق ويصل للمكان المراد بمفرده،ويصبر على أداء الأعمال الشاقة،وهو لا يكل ولا يمل بالرغم من كل ما يتعرض له من معاملة خشنة غير رحيمة فى كثير من الأحيان.هذا الحمار الذى نعتبر اسمه من أنواع الشتائم للأشخاص المتبلدين لا يستحق منا هذا الإحتقار لأنه من أنفع الكائنات وأذكاها وألطفها،وقد بلغ تكريمه فى الغرب إلى حد اختياره منذ زمن بعيد شعاراً للحزب الديمقراطي الأميركي،بل وإقامة عيد للحمار فى بعض البلدان وفاءاً لما يقدمه للإنسان من خدمات جليلة.
الحمار حيوان من أصل نبيل :
ينتمى الحمار لجنس الحصان،ولذا يمكن التزاوج بينهما،وتزاوج ذكر الحمار مع أنثى الحصان ينتج عنه البغل،والذى يكون عقيماً،والحمار الوحشي هو النوع البري من الحمير،وهو يعيش بصورة برية في الوديان والصحاري بأفريقيا وآسيا،ويركض على الصخور والرمال بسرعة تشبه سرعة الحصان.بالرغم من تبدل الأحوال وتعاقب الظلم والأهوال على الحمار المسكين فإنه قد نال مكانة كبيرة قديماً ،وقد ورد ذكره في القرآن الكريم في أكثر من موضع،وأشهر حمار فى التاريخ هو حمار العزيز نبي الله الكريم ،والذى أحياه له الله بعد مرور مئة عام على وفاته ليريه المعجزة الإلهية،وقد ورد ذكره فى سورة البقرة أما فى سورة النحل فقد جعل الله الحمير صورة من صور الجمال والرفاهية مع الخيل والبغال،وتعود كل الحمير المستأنسة في العالم اليوم إلى فصيلتين من الحمير البرية التي كانت تسرح في القرن الإفريقي وبلاد النوبة،لذا كان من الطبيعي أن يكون فراعنة النوبة هم أول من روَّض الحمار الأفريقي الأصلى،وتوجد بمقبرة الفرعون أمحوتب التي تعود إلى حوالي 3000 سنة قبل الميلاد رسوماً جدارية تظهر حميراً مستخدمة للركوب ونقل البضائع.تم تقديس الحمار فى الحضارة الرومانية كما توجد الكثير من الرسومات المسيحية التى تظهر السيد المسيح عليه السلام راكباً للحمار .
قدرات كبيرة وخدمات جليلة للحمار :
يمتلك الحمار أذنين أكبر من أذنى الحصان لذا يتميز بالسمع الأكثر حدة وعيناه أكثر توجهاً للأمام من الحصان لذا يرى الطرق جيداً ويمكن له تحمل أثقال مقدارها 20 إلى 30 % من وزنه،ويمكن أن يعيش الحمار حتى 40 سنة،وتعرف أنثاه بالأتان،وهى لديها القدرة والانسجام على التزاوج طوال السنة،وتصل مدة حملها إلى 11 شهر،وقد أدى الحمار ولا زال يؤدى خدمات جليلة فى كل الحضارات الزراعية،فاستخدم فى نقل الأشخاص والبضائع،وجر العربات،وإدارة الطواحين والمحاريث،واستخراج المياه من الآبار،وهو يوصف كدليل في سلوك الطرقات الوعرة،والتى يحفظها حتى إذا مشى فيها مرة واحدة،لذا يعتبر أفضل وسيلة نقل فى المناطق الجبلية الوعرة،وقد احتل مكانته الفعلية في الحياة الأمريكية خلال القرن ال19 عندما فضله المنقبون عن الذهب على الحصان لقدرته على حمل المعدات في الأراضي الوعرة و طواعيته،وفي جزيرة هيدرا اليونانية التي يسكنها الأثرياء يعتبر الحمار هو وسيلة النقل الوحيدة،وبالإضافة لذلك يتم الإستفادة من لحمه وجلده،فلحمه يستخدم لإطعام الحيوانات المفترسة،وجلده يستخدم فى الصناعات الجلدية،أما أطرف أوجه الاستفادة من الحمير فيتمثل فى شرب لبنه بل وتصنيع الجبن منه،ففي صربيا يتم تصنيع أغلى أنواع الجبن من لبن الحمير حيث يصل سعر الكيلو منها إلى 800 جنيه استرلينى،ويتم أخذ 25 لتر من لبنه لتصنيع كيلوجرام واحد من هذا الجبن،كما يبيعون زجاجات لبن الحمير لما اشتهر به تاريخياً بأنه كان سر جمال الملكة الفرعونية كليوباترا حيث كانت تستحم به.لم تقتصر خدمات الحمار على النواحي السلمية فقد استعمل أيضاً فى الحروب والأغراض غير المشروعة،فاستعمل لنقل المعدات،وحمل المصابين بين الطرقات الوعرة فى الحرب العالمية،كما استخدمت الحمير الملغمة والمربوط بها قنابل موقوتة فى كثير من الحروب والصراعات فى أفغانستان والعراق،ويقوم المهربون بتدريب الحمير على نقل بضاعتهم المهربة فيستخدم فى تهريب مواد الوقود والأسلحة والمخدرات .
متاحف وأحزاب وأعياد للحمار :
في الولايات المتحدة تحول الحمار إلى أيقونة سياسية وعلامة تجارية حيث يتخذه الحزب الديمقراطي الأمريكي شعاراً له،وتدر مبيعات القمصان والقبعات وأكواب الشاى التي تطبع عليها صور الحمار مئات الآلاف من الدولارات عند بيعها فى المؤتمرات السياسية للحزب،وتوجد عدة جمعيات خاصة بالعناية بالحمار والرفق به على مستوى العالم تجاوز عددها العشرين فى فرنسا وحدها،وتم إنشاء متحف خاص بالحمار فى مقاطعة ساسي لوجران بفرنسا،كما تحتفل عدة مناطق حول العالم بعيد الحمار،ويعود أصل الاحتفال إلى القرن ال16 حيث كانت تحتفل بلدة أوتومبا القديمة بالمكسيك باليوم السنوي للحمار تكريماً لدوره فى خدمة الإنسان،ويقوم المحتفلون بإحضار الحمير وتزيينها بأجمل الألوان وإقامة عدة مسابقات ومنها مسابقة لأجمل حمار،أما فى وطننا العربى فيوجد حزب الحمير فى العراق بكردستان،وينتصب تمثال للحمار شعار الحزب فى أحد أهم شوارع السليمانية،وكان الهدف من إنشاء الحزب كما ذكر مؤسسه عمر كلول هو إشاعة ثقافة الخدمة العامة بدون مقابل،والصبر والتحمل إقتداءاً بالحمار.
الحمار فى التراث والأدب :
نختتم هذه الجولة الممتعة مع الحمار بقطوف من طرائفه فى الأدب والتراث،ومنها قصص جحا مع الحمار،ولعل أشهرها قصته عندما لم يرض الناس عنه هو وابنه فى جميع الأحوال سواء ركبا الحمار معاً أو ركبه كل منهما بمفرده أو نزلاً من عليه وسارا بجانبه،وفي الختام حملاه على ظهريهما ثم باعاه فى السوق،كما توجد طرفة جميلة تحكى أن جحا كان راكباً لحماره حين مر ببعض الناس فأراد أحدهم أن يمزح معه فقال له:يا جحا لقد عرفتك حمارك وأنت قادم من بعيد ولم أعرفك،فرد عليه جحا:هذا طبيعي لأن الحمير تعرف بعضها! ومن الطرائف أن الأديب الشيخ عبد العزيز البشري كان فى وليمة مع أصدقائه فأراد أحدهم أن يمزح معه عندما ذهب لغسل يديه تاركاً عباءته فوق مقعده فرسم له عليها رأس حمار،وعندما عاد البشري واكتشف فعلته ما كان منه إلا أن قال:من منكم مسح وجهه فى عباءتي؟! أما أشهر رواية أدبية عربية مستوحاة من عالم الحمار فهى رواية"حماري قال لي" للأديب الكبير توفيق الحكيم،ويروي فيها علاقته مع الحمير وتعاطفه معها والدور الذى لعبته فى حياته منذ أن اشترى له والده حماراً وهو صغير ليتنزه به فى الريف كما يصور الحكيم حماره فى الرواية وكأنه إنسان يحاوره عن الأوضاع السياسية والإجتماعية .