القاهرة 06 مارس 2018 الساعة 12:28 م
د. أحمد يوسف علي
لم أقرأ للشاعر حسن شهاب الدين من قبل، ولم يكن في دائرة اهتماماتي النقدية بالشعر العربي قديمة وحديثة ومعاصرة، ولكني حين قرأت ما تيسر لي من إنتاجه الشعري، وهو ديوان" واحد بأسره" حرصت على البحث عن الشاعر وعن حضوره في المشهد الشعري والنقدي، ولم أفز بالكثير في هذا المضمار. ومع قلة ما فزت به، فقد وسع مساحة النور عما قبل حول الشاعر وشعره. واللافت لي أني لم أحصل على مقالات نقدية، أو أبحاث كبرى عن لغة الشاعر وتفردها وعن الصورة الكلية التي يتقنها، وعن القدرة السردية الشعرية التي يمتلكها، وعن مغامراته في البحث عن شكل أو أشكال شعرية مغايرة لما تتحدث به الألسنة، وتحفظه الذاكرة، وعن جديته واحترامه للشعر.
لذلك آثرت أن أقدم الشاعر بالقدر المتاح لي مما علمته عنه، قبل أن أتوفر على قراءة ديوانه" واحد بأسره" فالشاعر من أبناء القاهرة العريقة استقبل نور الحياة بها عام 1972م ولا أعلم ماذا درس واكتسب من العلم في مدارجه المعروفة ولكن دواوينه تقول إنه أردف موهبته بزاد معرفي واسع من تراث الشعر، ومن تراث الثقافة الإنسانية عبر أشكالها العديدة عندنا وعند غيرنا من أبناء الأمم الأخرى في القديم والجديد. وتستطيع أن نؤكد ذلك من غزارة مجموعاته الشعرية وكتاباته في الصحف والمجلات. فله من المجموعات أو الدواوين الشعرية ما يلى:
شرفة للغيم المتعب: الهيئة العامة لقصور الثقافة 1998 أربع طبعات
متوج باسمي: الهيئة العامة لقصور الثقافة 2008
أعلى بناية الخليل بن أحمد: أكاديمية الشعر أبوظبي 2012
ديوان خيمة لمجنون الصحراء: الهيئة العامة لقصور الثقافة 2014
أثري في المرآة (مختارات شعرية) عن الحركة الثقافية في لبنان 2015.
جغرافيا الكلام الهيئة المصرية العامة للكتاب 2015.
واحد بأسره نادي تبوك الأدبي 2016 السعودية
متهم بخداع العالم 2017 نادي الباحة الأدبي/ السعودية
أما دووينه التى تحت الطبع هى "طفل يركض في الأساطير، الجثة الصغيرة"
وعن آخر إصداراته" متهم بخداع العالم" يقول: "الديوان مغامرة إبداعية أحسب أنها تضيف إلى رصيدي الشعري. فهو بمثابة تتويج لمرحلة استثنائية في حياتي الإبداعية حيث الخروج من إطار القصيدة إلى فضاء النص. وقد كانت لي عدة تجارب مسبقة حول القفز على الأشكال في دواويني الصادرة من قبل، إلا أن هذا الديوان كان أكثر إدخالا في خيانتي للشكل وفاءا للشعر، لذلك لم أعتمد طريقة ثابتة في كتابة نص من النصوص بل كانت النصوص هي التي تختار شكلها الإبداعي. وكثيرا ما تجاورت الأشكال الشعرية المعروفة من البيت الشعري إلى الجانب التفعيلي والنثري في نص واحد وامتزجت في نصوص أخرى بمعنى أن كل نص كان مغامرة أخوضها مع الورقة والفلم. ولذلك أشعر أنني قمت بنقلة إبداعية تطور معها نصي بشكل لم أعهده من قبل. ولذا فإن كان يعتبر كما قلت تتويجا لرحلتي مع الشعر في هذه الفترة إلا أنه بلاشك يدخلني في متاهة إبداعية جديدة لا أدري أين منتهاها ويحملني كثيرا من المسؤولية تجاه شعري وتجاه القاريء الذي وثق في قلمي وسار معي فى رحلة دواويني وكان دوما ينتظر جديدي".
في هذا البيان النقدي، يعلن الشاعر عن قلقه إزاء أمرين مهمين من أمور الشعر أولهما: المغامرة الإبداعية، والثاني: الشكل الشعري، ولم يكن هذا القلق وليد صدور ديوانه " متهم بخداع العالم" ولكنه كان هاجسا يسكن الشاعر على الأقل فيما عرفته له من قبل وهو الديوان الذي أتحدث عنه.، فالشاعر حريص على الانتقال من محدودية القصيدة إلى اتساع النص، ومن رتابة الشكل الشعري إلى تداخل الأشكال وتجاورها وتجاوزها، فالشكل الشعري ارتبط في الوعي النقدي والشعري في مصر، بقدرة الشاعر على اختراق الموروث من الشعر، واللعب على توزيع وحدات تفعيلية صغرى على بياض الورق، ولم يرتبط هذا عند فريق من نقاد الشعر بما نعرفه عن رؤية الشاعر ومدى بكارتها وجديتها، فهي "الرؤية" وحدها التي تختار شكلها بما يتضمنه هذا الشكل من أساليب الكتابة، وأساليب لغة الشعر، وعناقيد الصور، وتشكيلات الإيقاع، ومنه الوزن.
وصار الشكل مغامرة في الهواء أو الفضاء الأبيض مرهونا بتوزيع الكلمات والجمل هنا وهناك دون هدف خفي أو معلن، هذا فضلا عن السياق الحضاري الذي استوجب تبرير الخروج على الشكل الشعري الموروث، وظل الشكل الشعري موضوع المغامرة الأثير لدى كل شاعر من الشعراء ذوي الرؤية والثقافة الواسعة التي تستوعب المتغيرات الاجتماعية الداخلية، والتغيرات الثقافية والاجتماعية الخارجية ومدى الجدل القائم بينهما، لذا لم يكن سعي حسن شهاب الدين إلى خوض المغامرة رهينا لرغبة عابرة ولكنه رهين لجدل دائم بين الذاتي والموضوعي، والمحلي والعالمي.
وتحولات الشكل عند هذا الشاعر من القصيدة إلى النص تثير سؤالا مهما هو، وما الغاية؟ أعتقد أن انحسار الشكل في القصيدة، يعني أن كل محاولات تجديد هذا الشكل وتطويره تنحصر في دائرة القصيدة التي تغير سيماتها الموروثة وهو الشكل الرأسي إلى شكل أفقي منظم، أو شكل رباعي مأخوذ من تصميم البيت في الموشح وهو منضبط بحدود التفعيلة وتكرار مركز الإيقاع في تفعيلة محددة. أولا شكل ذا حدود أسموه " قصيدة النثر" وهي قصيدة في نماذجها الممتازة التى تحمل سيمات حين ولادتها، ولا يستطيع الشاعر التنبؤ به قبل الفراغ من الكتابة.
والتحول من شكل القصيدة إلى النص تحول أوسع وأشمل من مجرد التحول داخل شكل القصيدة. فالقصيدة مهما تكن، هي تعبير عن موقف غنائي ذاتي فردي، أو توجهات درامية تتعدد فيها أصوات يكون الشاعر محركها ومحدد رؤيتها، ويصعب الخروج بهذه القصيدة إلى الدراما المكتوبة شعرا. أما النص باتساعه وشموله، يستوعب العارض والعابر والوعي واللاوعي، كما يستوعب الكتابة للمسرح. والنص لا شكل له ولا طول ولا حد أدنى ولا حد أقصى، ولا يتعارض مع نصوص أخرى تحل فيه قد تكون نصوصا شعرية، أو فكرية، أو تاريخية. ولعلي أكون قد استبصرت هذا الفهم في قراءتي لديوانه" واحد بأسره"
واحد بأسره
إني أخاف الشعر
كل قصيدة
موت جديد
لا قيامة بعده
أحيا ولا أحيا
وفوق وريقتي
ضدان
صدر هذا الديوان عن نادي تبوك الأدبي بالمملكة العربية السعودية في طبعته الأولى العام 2016 ذات الحجم المتوسط. وهو من الدواوين المشكلة لأن الشاعر يتوسل برؤية حداثية للكون والقيم والإنسان، يتخللها حنين إلى المرجعيات والرموز الدينية الكبرى. ولأنه حريص على لغة مفرداتها من معين المعجم الشعري التراثي، وعلى توظيف مفردات الثقافة ورموزها توظيفا خاصا برؤية حداثية تهتم بالعابر والبسيط والمألوف كما تهتم بالنقيض وهدم المرجعيات. وجاءت بنيته الشكلية على هيئة فصول أو عناوين مستقلة ليس لها علاقة مباشرة بما تضمه من نصوص لها أسماؤها الدالة عليها أيضا. ويجوز للقاريء من جهة التأويل أن يرى العنوان الكبير اسما لقصيدة كبرى تضم عدة بنيات صغرى تمثل محتوى الفصل الشعري. ولكن عليه إن سلك هذا المسلك أن يبحث عن العلاقة بين العنوان الرئيس والعناوين الفرعية.
فبنية الديوان بنية متناسبة من حيث الشكل والحجم فهي أربعة فصول أو قصائد. كل قصيدة تضم تحت لوائها عددا من النصوص. والفصل الخامس هو أقل هذه الفصول لاحتوائه نصين فقط. وسبق هذه الفصول نص قصير جدا ليس له عنوان ولا يحمل أية إشارة إلى رمز أو شخصية ولا تستطيع أن تعده إهداء وهو نص شعري ليس مقتبسا ولا منسوبا لأحد غير الشاعر:
أنا ذلك الدرويش
أنزع خلوتي عني
وفلسفتي التي أتقمط
حطمت كأس الغيب
ليس سوى أنا ...
وهو نص تصديري مختلف. فالنصوص التصديرية تكون في الغالب مقتبسة، أو موجهة لدلالة ما. وإذا أمعنت النظر فيه، وجدت ضمير المتكلم حاضرا بقوة متحدثا عن العلاقة بينه وبين الكلمات التي أتى ليهدم قدسيتها. ومتجليا في شخصية الدرويش الذي هجر خلوته واقتحم عالم الأشياء مفضلا التجربة الحسية على التجربة الباطنية.
ويعقب هذا النص اللافت عنوان في ورقة خاصة اسمه " قصائد" وكأنه باب انفتح على عالم من الدهشة والغرابة، فنجد " ببغاء تثرثر دما" عنوانا كبيرا علما على مجموعة من العناوين الدالة على عدة كائنات غريبة أخرى هي " أرارات، في الباص، العابرون إلى الموت، سيرة الأرض، نيرون، وجودية" ونجد العنوان الثاني " ما أكثري وحدي" على غرابته ومفارقته يضم " خوف، حفيد السماء، عزلة الرائي، صوتي مخيم لاجئين، الصعلوك يوم مولده، جبل نازف، لا ظل يشبهني، والعنوان الثالث " أحدق في صوت الكمان" يضم" كيف، سيمفونية ناقصة، مرادفات، شباك مسن، فتاة الفندق، امرأة أخرى، إنها الخامسة الآن." بعده يأتي عنوان" رسائل شتى" وتحته " أبناء عبقر، حماقاتي البريئة، مقهى بوذا، كيمياء الكراسي، ساحر الأزقة، فراشات رقية، كائنات يسر الدين الصاخبة، يوم قاهري، صباحا، عصرا، ليلا. وفي الأخير" شرفة في مقام الخليل" وتحته عنوانان فقط هما،" ها هم على أثري، سيد الوقت"
فالقصائد الخمسة هي عبارة عن عناوين تتضمن عددا متفاوتا من النصوص، فالقصيدة الأولى تضم ستة نصوص، والثانية تضم سبعة، والثالثة تضم سبعة، والرابعة تضم ثمانية، والأخيرة تضم نصين. ولكن قبول هذه العناوين على أنها قصائد يعد أمرا صعبا مع أن الديوان آثر استخدام "القصائد". وصعوبة الأمر مردها أن العلاقة بين العنوان وما يضمه ليست متحققة إلا على سبيل التكلف والتأويل وأن تحت كل عنوان نصوصا لكل واحد منها وجوده المستقل عن غيره من حيث البداية والنهاية والرؤية، بل إن نصا من هذه النصوص انطوى على خمس وحدات إحداها صارت عنوانا رئيسا للفصل. هذا النص هو" العابرون إلى الموت" ومن وحداته وحدة" ببغاء تثرثر دما" التي صارت عنوانا للفصل. والأمر نفسه نجده في نص" نيرون" وهو مكون من أربع وحدات.
وكما أن فصول الديوان من حيث العنونة والتبويب تمثل سمة دلالية، فإن اختلاط الأشكال وتداخلها أيضا يمثل ملمحا مهما، فالشكل السائد في الديوان هو شكل قصيدة التفعيلة التي تتوزع توزيعا حرا لا يضبطه إلا الدلالة العامة وسياق الموقف بحيث يطول السطر الشعري ويقصر، ولكن هذا الشكل يتداخل معه في القصيدة الواحدة شعر النثر والشعر العمودي كما في قصيدة " سيد الوقت" وهي مكونة من خمس وحدات (مقام البسملة. مشكاة فيها مصباح. كوكب دري. شجرة مباركة. نور السماوات والأرض" فمن مقام البسملة:
سلام على الماء
سدة عرش الإله
سلام على شجر من دخان
يفتق رتق السماء.
يتجاور مع هذا الشكل، الشكل العمودي:
عباءته بالضحى مثقلة
سماء..على كتف مرسلة
وبنية الديوان على هذا النحو تلتئم مع الرؤية الكلية، فالبداية النصية بنص يكتبه الشاعر سابق على فصول الديوان، إعلان صريح للقاريء عن التوجه الفكري والنفسي وهو توجه نقدي تأويلي، وهذا ما تحقق في كل فصول الديوان أو ما سماه الشاعر" قصائد" فمن بين هذه القصائد، قصيدة اسمها "على المفترق" تسبق فصوله وتقع وحيدة لتعلن للقاريء قبل الولوج إلى الفصول أن " عمرنا في الأرض حكمة كاذبة". هذا النغم الأساسي هو الذي بنيت عليه كل الأنغام في الفصول أو القصائد التالية، ففي الفصل الأول البحث عن طوفان جديد وسفينة للخلاص، وفي الباص صور للنقد الاجتماعي والسياسي. وفي الفصل الرابع" رسائل" لأبناء عبقر وللحماقات البريئة ولساحر الأزقة، وفي الأخير عودة إلى مرفأ الأمان والسكون النفسي" شرفة في مقام الخليل" ومحاور الرؤية في الديوان تمزج بين الرؤية الصوفية المعتمدة على حدس باطني والرؤية الحسية رهينة الجزئيات والتفاصيل الشعرية التي يتقن الشاعر رصفها وتشكيلها من حيث الصورة والإيقاع والدلالة والمعجم. ونجد ذلك متجليا في الفصل المعنون ب"رسائل شتى" وفي " شرفة في مقام الخليل"
وقد اعتمدت هذه الرؤية والتشكيل على قصيدة المشهد الشعري المتضمنة صورا سردية كثيرة قائمة على سرد مشاهدات عابرة في الباص وفي الحياة المعيشة مثل" ببغاء تثرثر دما" ففي هذا الفصل من الديوان تجد السرد الشعري حاضرا في وحداته كلها، وقد توسلت باستدعاء التاريخ والرموز مثل الصعاليك ومحاولة قراءة المشهد السياسي والاجتماعي في ضوء مفهوم الصعلكة.
ولم تكن بنية القصيدة بنية بسيطة ولا أحادية الرؤية لذلك تعددت الأصوات كما تعددت الرؤى. ولا يغيب عن مشهد الشعرية هنا دور العنونة بكل وظائفها الدلالية والتوجيهية وهذه سمة واضحة في الديوان." ما أكثري وحدي" و" أحدق في صوت الكمان" و" لا ظل يشبهني" و" شباك مسن" والعناوين لها صلة قوية ببنية كل وحدة شعرية بحيث تمثل مفتتحا نصيا يشير إلى متن النص، كما يحيل القاريء إلى سيل من تداعيات المعاني والدلالات. والمعجم الشعري لهذه العنونة متعدد الروافد. فمن روافده، الرافد الديني، والرافد الفكري والفلسفي، وأبرز هذه الروافد رافد التناص القرآني المتعدد الأوجه ومنه" هاهم على أثري" و" مشكاة فيها مصباح" و" كوكب دري" و" شجرة مباركة". وقد ائتلفت الرؤية والتشكيل مع شعرية الإيقاع الذي اندمج مع تحولات المشهد السردي أو الوصفي، فنجد التفعيلة الحرة مسيطرة في فقرة داخل مشهد، ثم يحول الإيقاع إلى التكراري كما يحدده الشكل العروضي المعروف.
والديوان ديوان جدير بالقراءة المتأنية وباحتلاله مكانة هو أهل لها بين دواوين الشعر العربي المعاصر وبين أقرانه من الأصوات الشعرية المتميزة الفريدة.