القاهرة 06 مارس 2018 الساعة 12:24 م
د/ صلاح فاروق العايدى
برزت خلال السنوات الماضية ، وتحديدا منذ مطلع القرن الحادى والعشرين واحدة من الظواهر اللافتة فى الرواية العربية المعاصرة ، حيث صدر عدد من الروايات التى أثارت الجدل بانتشارها الواسع بين القراء الذين لا ينتمون إلى فئة المثقفين بالمعنى المتعارف عليه ، فضلا عن كون تلك الروايات حظيت بحسب تنويه دور نشرها بعدد كبير من الطبعات فى سنوات قليلة لم نعتد عليه فى الوسط الثقافى ، إلى جانب أن أصحاب هذه الروايات نفسها ليسوا ممن اعتاد هذا الوسط على أسمائهم ، الأمر الذى جعل هذه الروايات وأصحابها يبدون كما لو كانوا برزوا فجأة إلى الحياة .
وإلى جانب هذه النوعية من الروايات فإن بعضا من الروايات الأخرى ظهر فى
الآونة نفسها وحظى باهتمام مشابه لروائيين معروفيين فى الحياة الأدبية من سنوات طويلة ، غير أن الجديد بالنسبة لهؤلاء أن أعمالهم لم تحظ من قبل بمثل هذا الحضور الواسع بين قراء ؛ هم فى الغالب من خارج الوسط الثقافى . وبالتأكيد مع كل هذه المجموعة من الروايات ثمة روايات أخرى ، يتمتع أصحابها بالشهرة الواسعة فى الوسط الأدبى ، وهى نفسها روايات اتفق المثقفون على قيمتها وجدّيتها ، ومع ذلك لم تحظ هذه الروايات بالانتشار الواسع الذى حظيت به الروايات المشار إليها فى أول هذه الكلمة .
وهذا يجعلنا نتساءل عن الأسباب التى جعلت مثل هذه الروايات تحظى بالإهتمام المبالغ فيه ، فى مقابل تلك التى مرت وكأنها لم تصدر، مع الوضع فى الاعتبار أن الشهرة والاهتمام فى ذاته ليس معيارا ومؤشرا على قيمة الرواية ، وقد يكون الأمر برمته راجعا إلى ظواهر جديدة فى حياتنا الفكرية ، نتفق أو نختلف على قيمتها ، لكننا بالتأكيد نحتاج إلى تفهمها والإفادة منها فى دعم حضور الرواية العربية ، وربما نستفيد منها فى دعم حضور الكتاب العربى جملة ؛ أيا كان الفن الأدبى الذى ينتمى إليه .
والتأمل المبدئى لمثل هذه الروايات يكشف عن كونها تتمتع بعدد من الظواهر الفنية ؛ منها : قدرتها على توفير قدر كبير من عوامل التشويق المبنى على الغموض . وهو أشبه بما قد نصادفه فى بعض الأفلام الأجنبية المبنية على النحو نفسه . ولا نستبعد تأثرها خاصة بما صنعته رواية " شفرة دافنشى "
من أصداء ، جعلت كثيرا من الروائيين يلتفتون إلى مثل هذا النوع من الحبكات الروائية ويضيفونها إلى أعمالهم الخاصة .
كذلك تعتمد هذه الروايات على تتبع العوالم الداخلية لشخصيات أبطالها ؛ خاصة فيما يتعلق بمسائل الحب . الأمر الذى يعطيها مسحة رومانسية واضحة ، تجعلها قريبة من روايات إحسان عبد القدوس فى هذا الشأن ، لكنها تتميز عنها بكونها تدور حول عوالم معاصرة ، خاصة عوالم الشباب بما فيها من تركيبات خاصة لم نعتاد على مثلها فى رواياتنا العربية .
وهذا الأمر أعطى لهذه الروايات قدرا من الجرأة فى تسمية الظواهر بأسمائها ، وفى وصفها أوصافا قريبة من روح الاستعمال الدارج فى حياتنا . ومن هنا فإننا نصادف فى بعضها خروجا على اللغة يصل إلى درجة الأخطاء اللغوية والنحوية الفادحة ، مع تكرارها ، الأمر الذى يكشف عن ضعف الجانب اللغوى لدى أصحاب هذه الروايات . لكننا فى المقابل نجد عددا آخر من تلك الروايات التي تتميز جرأتها فى الحفاظ على الأصول اللغوية ، مع توليد قدر كبير من الاستعمالات الجديدة المعبرة عن روح العصر ، والجارية فى الوقت نفسه على أصول الاشتقاق والاستعمال اللغويين .
والغريب أن أكثر هذه الروايات يخلو من المغامرات الإبداعية ، أعنى تلك التى تعتمد على استعمال تقنيات جديدة فى بناء الرواية . لذلك نجد أكثرها يعتمد على المباشرة فى الحكى ، وموضوعها أقرب إلى روح " الحواديت " والحكايات الخرافية المألوفة فى حياتنا الاجتماعية . وربما هذا هو السبب الذى جعلها قريبة من القراء " غير المحترفين ولا المتخصصين " ، وبالتالى أدى إلى انتشارها الواسع وتحقيقها أكبر نسبة مبيعات طوال السنوات القليلة الماضية.
وبحسب منظور النقد الثقافى ، وتحديدا من وجهة نظر تحليله للتراكم فإن بإمكاننا الوقوف على عدة ملحوظات تخص ظاهرة الرواج فى هذه الروايات :
1 ـ هذه الروايات " الرائجة " ـ وفقا لرينيه جيرارد فى تفسيره لنظرية المحاكاة الأرسطية ـ لا تمثل فحسب مجرد انعكاس للعالم ، بل هى أيضا مرآة لرغبات شخوصها ومتلقيها .
2 ـ وفى ضوء علاقة هذه الروايات بقارئها ـ من حيث نوعة ودرجة وعيه ، ووسيطها المروّج ـ فإن لنا أن نتساءل عن طبيعة القارئ الذى تخاطبه هذه الروايات ؛ خاصة أن أصحابها يقومون بعملية ترويج مباشرة باستخدام وسائل الاتصال الاجتماعى بالإعلان عن صدورها قبل الصدور الفعلى بعدة أشهر . بل وإن القراء أنفسهم يشاركون فى عملية الترويج بإنشاء ما يسمى فى تلك الوسائط الاجتماعية : " مجموعات ، خاصة وعامة " ، تحشد للتعبير عن الإعجاب بتلك الروايات ، بل وتنافح فى بعض الأحيان عن عملها بوصفه " سلعة " مطلوبة من القارئ ، وتناسب " ذوقه " المعاصر . وإلى الدرجة التى تصبح فيها القيمة الفنية " التقليدية " وفق الأعراف المستقرة فى النقد والتلقى غير مهمة ولا يجب ــ حسب زعمهم ــ أن يُلتَفَت إليها ، لأن هذه " سُنّة الحياة " والتطور الطبيعى فى " الكتابة " والأدب .
ويمكن أن نضرب لهذا مثالا واضحا حول " كتاب " أختلف قراؤه ومعجبوه ، بل وحتى ناشره فى تصنيفه ؛ ما بين شعر " عامية " و" رواية " وقصص قصيرة ". والأعجب أن صاحب الكتاب نفسه يرفض هذه التصنيفات ويصف كتابه بأنه " كتاب تفاعلى " متروك لحصافة القارئ ومدى استجابته لما يثيره فى نفسه من صور أو مشاعر ، أو أيا كان ما يثيره .
وهذه الاستجابة هى التى تقوم بملء الصفحات الكثيرة الفارغة " عمدا " ـ حسب تصريح المؤلف ـ ليملأها القارئ بما يشاء ! وأنا هنا أعنى " زاب ثروت " ـ والذى اتجه خلال السنوات الماضية للتأليف ، فكتب ما بين عامى (2013/ 2015) ثلاثة " كتب " ( تعانى من مشكلة التصنيف نفسها ) ، آخرها ما أسماه " حبيبتى " .
3 ـ وبالتالى ، فقد يكون من المناسب أن نفكر فى تلك الروايات بوصفها نوعا من نصوص " الوسائط الجماهيرية ". فهذه النصوص على ما يمكن أن نلحظ ، تتنقل وتُتَداول فى عالم خاص " مصنوع " . أحد أضلاعه " وسائط المعلومات الحديثة " ، وضلعه الثانى تراث خاص من النصوص " الروايات " ذات الطبيعة الخاصة ، على ما أشرت من قبل " روايات الألغاز والجاسوسية والمغامرات والحب ".
وكل هذه الروايات ذات الطبيعة الخاصة تعتمد على عنصر / عناصر الإثارة بوصفها عامل التشويق أو الجذب الأساسى للقارئ . وبالتالى ، فإن هذه الطبيعة الخاصة تصنع نظاما خاصا ـ مقابلا ـ من " القيم " ، يجعلها نموذجا للروايات " المقبولة / الرائجة " ، فى مقابل النموذج الراسخ للرواية بمعناها الفنى .
وفى هذا الشأن ، يمكن أن نلحظ أيضا أن هذه الروايات " الرائجة " تشكل عالمها من خلال أفق يعتمد على الاتصال الوثيق بالوسيط الالكترونى فى علاقة تبادلية ، تشمل المؤلف والقارئ معا . وهذا ما يمكن أن نلتمس أثره بوضوح من خلال انحصار المتابعات الخاصة بهذه الروايات فى الوسيط الالكترونى . وهو ما يظهر خاصة فى رواية بضع ساعات من يوم ما ، حيث تبنى الرواية قسما كبيرا من عالمها على حضور هذا الوسيط وتفاعل أبطاله معه . كما يظهر فى الفيل الأزرق من خلال اعتماد البطل الرئيسى على هذا الوسيط فى عملية " البحث والتحقيق " التى يجريها كشفا لخيوط الجريمة التى تورط فيها صديقه وزميله السابق ؛ أستاذ علم النفس الذى أصبح متهما ونزيل مستشفى الصحة النفسية .
وهذا يعنى أن هذه الروايات تتوجه قسرا / أو اختيارا للتعامل مع هذا الوسيط ، وتجسّد حضوره فى عالمها الخاص. وهو ما يعنى أيضا أن هذا الوسيط يمثّل سلطة مهيمنة بحضوره فى عالم الرواية ؛ يفرض بدوره حضور مصطلحاته وأجواء عمله ، على خلاف الرواية " الفنية " الراسخة التى تعمل فى عالم مستقر وذهنى لقارئ تربى وتدرب فى حضور التقاليد المعروفة للأدبية عامة ، ولأدبية الرواية على وجه خاص .
4 ـ وقد نلحظ هنا أيضا ـ بحسب نظرية الأدب التقليدية ـــ وفى شأن متصل ـــ أن اعتماد هذه الروايات على عنصر الإثارة بوصفه العنصر الرئيسى الذى يوجّه بنية العمل ككل ، يؤدى إلى الاستغناء عن تفعيل العناصر الأخرى فى بنية الرواية ، أو على الأقل يؤدى إلى توظيفها لتعظيم وجود عنصر الإثارة . وهو ما يؤدى بالضرورة إلى انخفاض معدل أدبية الأدب فيها ، لكنه أيضا ـــ وفى علاقة عكسية ـــ يؤدى إلى اتساع دائرة قرائها.
ونلاحظ هنا أيضا أن حضور هذا التكوين فى ذهن المتلقى والمقصود بالخطاب يؤدى إلى إعادة تشكيل مفهوم الرواية وفكرتها وصورة تكوينها فى ذهن قارئها، ومن ثم ، فهذه الصورة الجديدة للرواية لا تقدم " معلومات " تهدف إلى تربية الذوق الأدبى ولا الأخلاقى ، كما لا تهدف إلى كشف العالم الموصوف أو تفسير حوادثه ، على ما تمثله فى تلك الوظائف الأساسية للرواية الفنية، وإنما تعنى فحسب بإشباع توقع خاص لدى متلقيها ، بوجود " عالم " خاص ، مفرداته :هى " الغموض ، المغامرة ، الجرأة ، التمرد ، الإثارة ، البطولة و العلاقة الرومانسية ( الساذجة فى أغلب الأحيان ) " ، فى تبديلات وصور لا تنتهى من " حكايات " ممتعة ، تحقق اللذة ، وتشبع درجة من المتعة " الفنية " .
5 ـ وإذا ما فكرنا فى الأسباب التى دفعت أصحاب هذه الروايات " الرائجة " إلى اختيار فن الرواية تحديدا للتعبير من خلاله عما يريدون ( وإن يكن مثال زاب ثروت الماضى يلفتنا إلى أن فكرة الكتابة هى المحرك الأساسى وليس لونا أدبيا بعينه ) ، فإن لنا أن نتوقع أو نخمن أن هذه الطريقة وبالاتصال الوثيق بالوسيط الالكترونى ، تحقق عددا من " الوظائف الشخصية " ذات الطابع النفعى لأولئك المؤلفين . وهى "أى الوظائف" تكاد فيما أرى تنحصر فى :
1ــ الاتصال الأوثق بالجمهور ( القارئ الخاص لأولئك الشباب ) 2ــ الشهرة الأوسع .
3ــ الربح المادى ( المؤكد والمشهود عليه بعدد الطبعات وبعدد حضور حفلات التوقيع، مثال زاب ثروت ) 4ــ فرض صورة العالم الخاص لأولئك الشباب / المؤلفين ، أى العالم كما يرونه . وهذا يأتى من تأثير الرواية نفسها بوصفها فنا يشكل العالم ويصنعه فى ذهن قارئها.
5ـــ التعبير الصادم عن التمرد والرفض للصورة التقليدية الثابتة للأدب / المجتمع ؛ خاصة كما يعرفهما النخب الثقافية 6ــ وهذا الفرض لحضور " الأدب أو النص " بصورته تلك ، تجاوز حدود " الجنس " الأدبى التقليدى ، ووصل إلى حد من التشويه المتعمد لفكرة النص ذاته فى دائرة تتجاوز عملية التجريب المتعارف عليها فى عالم الأدب.
وبالتالى ـــ وفى نتيجة غير متوقعة ، وتبدو معاكسة تماما لمنطق تطور الأدب وسيرته التاريخية ـــ يمكن أن نلحظ أيضا أن هذه الروايات الرائجة بدرجة ما تصطنع سمات ما بعد الحداثة من حيث " طمس ومحو الحدود بين الفن والحياة اليومية ، وإزالة التسلسل الهرمى بين الراقى والجماهيرى فى الثقافة الدارجة ، وتفضيل الأسلوب الانتقائى المشوّش ، وتماذج الثغرات ، والمحاكاة الساخرة parady ، والمعارضة pastiche ، والتهكم والسخرية lrony ، والهزل والمزاح playfulness ، والاحتفال بالمظهر الخارجى بالثقافة التى لا عمق لها depthlessnss ، وانحدار الأصالة والعبقرية للمنتج الفنى ، والادعاء بأن الفن لا يسعه إلا أن يكون مجرد تكرار "(1).
فكل هذه السمات التى تميز ما بعد الحداثة نجد أصداءها بوضوح فى تلك الروايات ، لا سيما فى إزالة التسلسل الهرمى بين الراقى والجماهيرى ، لا فى الثقافة الدارجة فحسب ، بل وجعلها هى النموذج للثقافة الرائجة ، تاكيدا للاحتفال بالمظهر الخارجى للثقافة التى لا عمق لها، دون أن يكون لهذه السمات دور فاعل فى التشكيل الفنى للرواية ذاتها .
ومع ذلك ، ووفقا لنظرية الشكليين الروس عن تغريب العمل الفنى أو وظيفته فى تقويض المألوف بوصفه الأداة الرئيسة للخروج عن المألوف والنظرة الشائعة ، سعيا إلى استعادة متعة الإثارة ، وضمانا لتحقيق أدبية الأدب التى تنحصر أو تكاد فى هذه الغرابة، فإن هذه الأعمال "الروايات الرائجة" تحقق الهدف الأخير للعمل الأدبى ؛ أى متعة الإثارة ، لكنها لا تحققه باستعمال أدوات وتقنيات التشكيل الفنى فى ذاته ـــ وإن بدا أنها تستعمل بعضها ظاهريا على ما مر فى شأن اختلاط الأزمنة وتعدد الأصوات ـــ وإنما تحققه بالعمل على تصوير عالم مختلف ، يكاد يقف على طرف نقيض من عالمنا المألوف .
وأعنى باختلاف العالم هنا تلك الأجواء التى تصور المجتمع غارقا فى العنف غرقا يصل إلى حد الهوس والشذوذ فى التفكير ، أو الغرق فى ممارسات شديدة الصدام لعرف المجتمع والدين بدعوى الحب ، بينما هى أقرب إلى ممارسة الفاحشة " العلنية " بدعوى التحرر .
هذا على الرغم من أن بعض هذه الروايات الرائجة تصور عالما تقليديا مألوفا لنا ، شائعا فى ثقافتنا الشعبية . وأنا هنا أعنى رواية مثل الدفينة التى تدور حول عالم الجان والكنوز . وربما لهذا السبب هى رائجة ؛ أى لأنها تلبى فضولا طبيعيا لدى القارئ لمعرفة " أسرار " هذا العالم الغامض ، حتى لو كان فى صورة رواية " متخيلة " ، مبنية على " معارف " ظنية فى هذا الشأن . والأهم فى هذا أنها تحقق ظاهريا شرط التغريب البنيوى لدى الشكليين الروس .
7 ـ وهذا يجعلنا نلتفت إلى أن " تقليدية " العالم و" تغريبه " ليس سببا وحيدا فى رواج أو عدم رواج العمل الأدبى ، وإنما " نوعية " العالم وانتقائيته هى التى تفعل ذلك . وربما هذا هو السبب فى كون "الفيل الأزرق" أكثر تلك الروايات شهرة ، حيث قدمت " مزيجا " من تلك العناصر الانتقائية . فيها عالم الجن والكنوز ، وفيها البحث الجنائى والألغاز ، وفيها الاستقصاء والتواصل من خلال وسائل الاتصال والوسائط الاجتماعية الحديثة ، والأهم ؛ تلك العلاقة " الرومانسية " التى بدت كحب مستحيل . وهذا ما يعطى الإحساس بكون العالم الذى تقدمه الرواية مرئيا ، إضافة إلى كونه يشبع التوقّع لدى قارئها الذى يبحث عن هذا النوع من العوالم "المصنوعة"؛ العوالم التى تقوم على انتقاء مجموعة من العناصر وتوليفها فى صورة " حكاية " تنتقل من" مجال " إلى مجال .
8 ـ ومعنى هذا كله أن هذه الروايات تعمل وفق مبادئ التواصل وعناصره ، وتشبع توقعاته وصوره المختلفة . وهذا يجعلها أقرب إلى الجمهور العام ، وبالتالى يجعلها أكثر رواجا أو أكثر مبيعا فى التعبير الشائع عن تداولها . ولا ريب أننا هنا أمام أثر لمفهوم المونتاج كأداة أساسية فى عملية الاتصال فى بناء هذه الروايات، من حيث اعتمادها على توليف عناصر كثيرة ـ وإن بدت متناقضة ـ يؤدى تجميعها إلى صنع فهم جديد أو صورة جديدة للمألوف(55) بما يشمله هذا التجميع من أحداث مترابطة ومنتظمة فى تتابع معين .
ولعلنا هنا نذكر ما قام عليه فيلم الفيل الأزرق فى هذا الشأن ، فالتقطيع المتوالى للأحداث هو الذى أنشأ الإحساس بغرابة (القصة) وأعطاها حس الإثارة فى الوقت عينه . وقد نستعيد هنا أيضا ملحوظة "مالكوم برادرى" فى حديثه عن تطور الرواية ؛ إذ رأى أن "ثمة شقا ينمو بين الوظائف الشعبية للرواية ووظيفتها الفنية ". فإذا كانت الوظائف الفنية للرواية تعمل على تفسير العالم ، لا مجرد رصد الأحداث والوقائع أو رسم الشخصيات ، كما هو معروف عن بناء الرواية فإن الشعبية منها تعمل على الاستجابة لنوازع البطولة والمغامرة دعما وتحقيقا لمبدأى اللذة والتسلية كهدف رئيس للجانب الشعبى ـ الجماهيرى ـ فى الرواية.
وفى ضوء ذلك نلحظ أن الروايات الرائجة تميل إلى تحقيق الجانب الشعبى من تلك الوظائف على ماسبقت الإشارة إليه ؛ أى أنها تستجيب لحاجات البطولة وتصوير عوالم المغامرة ، وتحقق مبدأى اللذة والتسلية من هذا الجانب . وبالتالى فإن رواجها نتيجة طبيعية لتركيبها ( الشعبى ) الذى يستقطب ( بإثارته ) القريبة الجمهور العام ، لا خواص القراء ، ولا نخب المثقفين . خاصة وأنها بهذه السمات ( الرائجة ) تعد أكثر استجابة لسمات ما بعد الحداثة التى أشرنا إليها ؛ وتحديدا تفاعلها مع الفوضى وخلط القيم وتلبية الخيال الشعبى واحتياجات الثقافة ( الجماهيرية ).
9 ـ ومن خلال ارتباط هذه الروايات بالفضاء الالكترونى ، واعتمادها على خلق بيئة خاصة ( فضاء الكترونى) فإنها تعيد ترسيم الحدود والمفاهيم الثقافية ـ ومنها الأدب ـ لتصنع ( أدبا ) يستجيب لحاجتين أساسيتين : التسلية والتعبير عن مشكلات الشباب الذين يمثلون الفئة الرئيسية القارئة لتلك الروايات ، فضلا عن تمثيلها ( للعالم / المجتمع ) كما يراه أولئك الشباب فى هذه اللحظة .
10 ـ ولابد هنا أن نلحظ تاثير السينما بوصفها رأس الحربة الموجّه للثقافة الأدبية. فما قدمته من أفلام خلال السنوات القريبة الماضية ، عربية وأجنبية ، ومعها التليفزيون ، يركز على ثقافة الحركة action ، مقدمة نماذج الأبطال فى صورة المغامرين ، مشوشى القيم والتفكير. وهم فى الغالب منتقمون أو باحثون عن الأسرار الخفية لعمليات سرية . أو على عكس ذلك ،رومانسيون، باحثون عن السلام فى بيئة داعمة للعلاقات الحميمية دون ضوابط أو عوائق اجتماعية مانعة من التواصل.
فهذا التأثير الواسع لأفلام السينما / التليفزيون ، كان سببا مباشرا لانحصار مفهوم الرواية فى التسلية ، وفى تصوير العالم بوصفه ساحة للمغامرة والعبث واللهو . وبالتالى ، يتوقع قراء هذه الروايات صدى لتلك الصورة المزدوجة المعبرة عن الوظيفة والعالم " الحديث " ، بما فيه من إثارة ( أفلام الواقعية القذرة مثالا ـ كما في، هىَّ فوضى، ودكان شحاتة، وما أشبهها ) . وهو ما أدى إلى إزاحة الصورة النمطية لعالم الرواية.
وقد يلفتنا هذا إلى تأثير هذا العالم المصنوع ( الفضاء الالكترونى مدعوما بدور النشر التى تروّج لمنتجاته ) على خلق جماعة " خاصة " من " القرّاء " تعيد تصنيع مفهوم الثقافة وفق رؤيتها الخاصة تلك . وهذا الفضاء المصنوع بالتراكم والإلحاح على وجوده بصور شتى ، أصبح يمثّل " سلطة رمزية " تقاوم السلطة الطبيعية لمفهوم الأدب ، وتؤكد شرعية " تشير إلى " فهمها للواقع الاجتماعى ومتطلباته بما تنتجه من أدوات ( الرواية المصنوعة ذاتها وأدوات الترويج الأخرى من دعاية مباشرة وغير مباشرة ) تؤدى إلى صناعة مجال موازى فى مسيرة الأدب الطبيعى والفن عامة.
إن هذه الروايات بما تقدمه من نماذج أبطالها وعوالمها البعيدة عن الواقع ، ترسّخ لمبدأ الفردية والعنف القهرى ، فضلا عن إضعاف علاقات الأسرة والترابط المجتمعى المعروف . إلى جانب ترسيخها للثقافة الأجنبية وما يستتبعها من إضعاف الهوية الوطنية والتنصّل ، أو على الأقل السخرية من صور التراث وأسبابه ؛ بعيده وقريبه ، وفى صدارة ذلك اللغة العربية .
وهذه الروايات فى جملتها ليست إلا صورة جديدة من صور الصراع بين الثقافة الوطنية وثقافة الأجنبى الوافد فى أسوأ صورها ، وتمثل بحضورها الملح صورة من صور تحويل هذا الصراع إلى عنف رمزى ضد كل ما هو ثابت ومتفق عليه فى المجتمع؛ حتى لو تمسّحت بالحكايات الشعبية ، كما فى الدفينة وطرفا من الفيل الأزرق ، او تمسّحت بالتاريخ الوطنى ، كما فى 1919 .
والسؤال الذى يجب أن نختتم به هذه الكلمة : إذا كانت دور النشر الخاصة ـــ وبعضها كبير بما يكفى ـــ قادرة على دعم وترويج هذه الروايات وأصحابها ، فلماذا لا تدعم الروايات الجادة وتروّج لها ! ؟ على الأقل تدعم الأسماء الجديدة من أصحاب الروايات الجادة ، ففى هذه الروايات من عوامل التشويق والجذب الفنى ما يشد انتباه القارئ غير المتخصّص الباحث عن التسرية ـــ ولا أقول التسلية ـــ إلى جانب ما فيها من عمق وجدة وجهد فى صناعة العمل وتمكينه .
على أننا يجب أن نسأل أيضا : هل الأمر منوط بدور النشر وحدها ؟ أم المسؤولية تقع أيضا على النقاد ووسائل النشر من صحف ومجلات ؟ أما الروائيون ، فهم بحاجة إلى إعادة النظر فى " صناعة " العمل الروائى . ولا أعنى إعادة تشكيل أعمالهم وفق " شروط " الناشر الباحث عن الربح السريع . فإعادة النظر هنا تعنى الاحتفاظ والالتزام بأسس الصناعة الفنية فى بناء العمل ، مع إضافة ما يمكن أن نتعلمه من وسائل النشر والترويج من تلك الروايات . وبالتالى نكسب إلى جانب الرواج بما فيه من ربح ، ردم الفجوة التى نشأت بين القراء والأعمال الجادة ، فنقرّب المسافة ونعود إلى ممارسة وظائف اجتماعية جادة ، تحقق التنوير إلى جانب المتعة فى الأدب الجاد .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إشارتان :
** اعتمدت فى هذه الدراسة على دراستى " القيمة المصنوعة والقيمة الثابتة فى الرواية العربية المعاصرة ــ قراءة ثقافية لظاهرة الرواج " التى شاركت بها فى المؤتمر الدولى السابع للدراسات السردية " الرواية العربية فى مائة عام " فى الفترة من 24 ـ 26 مارس 2015 وهو المؤتمر الذى نظمته الجمعية المصرية للدراسات السردية بالاشتراك مع كلية الآداب والعلوم الإنسانية ـ جامعة قناة السويس ، وتم نشره فى كتاب المؤتمر . ولذلك رأيت أنه لا حاجة لإعادة ذكر المراجع والتفصيلات التى وردت فى البحث الأصلى ، وعلى من يريد الاستزادة العودة له فى الكتاب المذكور .
1ـ انظر أرثر أيزابرجر : النقد الثقافى ـ تمهيد مبدئى للمفاهيم الرئيسية ، ترجمة وفاء إبراهيم و رمضان بسطاويسى ، المجلس الأعلى للثقافة ، المشروع القومى للترجمة ، ع 603 ، القاهرة 2003 ، ص 63