القاهرة 27 فبراير 2018 الساعة 10:01 ص
سعاد سعيد نوح
تستعين نظرية العوالم الممكنة بالفلسفة والمنطق واللسانيات والسيميوطيقا وعلم الدلالة
يكتب الناقد المغربي جميل حمداوي عن "العوالم الممكنة بين النظرية والتطبيق.. قصة الموناليزا لأحمد المخلوفي أنموذجا"، حيث يتحدث فيه عن نظرية العوالم الممكنة وهي عبارة عن نظرية دلالية ومنطقية وسيميائية، يمكن تطبيقها، بشكل من الأشكال، على الأجناس الأدبية والفنية والتخييلية. وبالتالي، فهي تستحضر مجموعة من العوالم الاحتمالية الممكنة والمفترضة التي توجد بموازاة العالم الواقعي الحقيقي. ومن ثم، تهدف نظرية العوالم الممكنة إلى دراسة العلاقة بين العوالم التخييلية والعالم الواقعي الحالي، في ضوء قوانين الصدق والإحالة والحقيقة وما صدق، أو في ضوء معايير الصحة والخطأ، أو في ضوء منطق الجهات أو القضايا الموجهة (Logique Modale). ومن ثم، لن تتحقق نجاعة هذه النظرية إلا بربط كلمات العالم التخييلي بالعالم الإحالي أو المرجعي أو الواقعي أو الموضوعي.
ويعني هذا أن نظرية العوالم الممكنة تشتغل على لغة العوالم التخييلية في ارتباطها بالعالم الإحالي، أو بعوالمها الافتراضية الخاصة إن وجدت، أو دراسة العوالم التخييلية باعتبارها أنظمة شعرية (Poesis)، أو أنساقا علاماتية (Sémiosis)، أو جهات لسانية (Modalités linguistiques)، بغية رصد الدلالة أو المعنى، أو تحصيل منطق الإحالة.
ومن ثم، تستعين نظرية العوالم الممكنة بمجموعة من الحقول المعرفية، مثل: الفلسفة، وعلم المنطق، واللسانيات، والسيميوطيقا، وعلم الدلالة ، والفيزياء العلمية (نظرية العوالم المتعددة، ونظرية الأوتار)، والأدب والنقد.
وتهدف نظرية العوالم الممكنة في مجال الأدب والنقد، إلى استجلاء مختلف العوالم الممكنة التي تتضمنها النصوص التخييلية إحالة ومحاكاة وانعكاسا وتماثلا وتوازيا، وتحديد مختلف المبادئ والقوانين التي تقوم عليها هذه العوالم التخييلية الممكنة والمفترضة.
والهدف من ذلك كله هو فهم المكونات المنطقية الأساسية الثلاثة المولدة للخطابات القضوية والتخييلية، وهي: الحقيقة، والدلالة، والتعيين، ولاسيما أن نظرية العوالم الممكنة منطقية ودلالية وإحالية بامتياز.
أضف إلى ذلك أن دوليزيل (Dole?el) الذي يتمثل المقاربة السيميوطيقية يعتبر العوالم الممكنة التخييلية بمثابة مواضيع وأنشطة و فضاءات لخطابات سيميوطيقية، ما دامت هذه الموضوعات قابلة للإدراك والتمثل بواسطة اللغة الرمزية. في حين يتمثل المناطقة وفلاسفة اللغة المقاربة المنطقية في دراسة العوالم الممكنة، برصد مختلف التماثلات الإحالية بين الكلمات والعالم، وتعيين الجهات الدلالية والمنطقية.
إذاً، ما نظرية العوالم الممكنة؟ وكيف تبلورت هذه النظرية؟ وما أهم تصوراتها النظرية والتطبيقية؟ وكيف تعاملت النظرية الأدبية مع العوالم الممكنة في مجال التخييل السردي؟ وما أهم الإجراءات المنهجية لمقاربة العوالم التخييلية في ضوء المقاربة الكوسمولوجية؟ وما أهم المصطلحات النقدية التي تستعين بها نظرية العوالم الممكنة في مقاربتها لما هو سردي وتخييلي؟ وما أهم العوالم الممكنة التي تزخر بها قصة "الموناليزا" لأحمد المخلوفي؟ وما أهم المبادئ والقوانين التي تتحكم في عوالم هده القصة الحداثية الجديدة؟ هذا ما طرحه جميل حمداوي في كتابه متوقفا أمام العوالم الممكنة في ضوء المقاربة الكوسمولوجية.
ويعني هذا أن العوالم الممكنة ترتبط بمنطق الجهات والقضايا، على أساس أن هناك مجموعة من القضايا المختلفة والمتنوعة من حيث الصدق والكذب:
? قضية صادقة في الواقع الحالي: مثل: محمد السادس ملك المغرب.
? قضية كاذبة في الواقع الحالي: مثل: حصول المغرب على الاستقلال سنة 1980م.
? قضية ممكنة صادقة في إحدى العوالم الممكنة: مثل: يسافر الإنسان إلى القمر في رواية "من الأرض إلى القمر" لجول فيرن.
? قضية محتملة صادقة في بعض العوالم الممكنة: مثل: محمد شكري صاحب رواية "الخبز الحافي"، وقضية محتملة كاذبة في إحدى هذه العوالم نفسها، مثل: أحمد شوقي صاحب رواية "دفنا الماضي" في البعض الأخرى.
? قضية ضرورية صادقة: وهي قضية صادقة في جميع العوالم الممكنة، مثل: يساوي اثنان زائد اثنين أربعة، والمثلث له ثلاثة أضلاع، والكل أكبر من الجزء...
? قضية مستحيلة: وهي قضية غير صادقة في أي عالم من العوالم الممكنة، مثل: زيد حاضر وغائب في الوقت نفسه (التناقض المنطقي).
ويعني هذا أن نظرية العوالم الممكنة عبارة عن مقاربة تأويلية لمختلف مقولات الجهات.
ومن جهة أخرى، تستند نظرية العوالم الممكنة إلى الفلسفة، والمنطق الصوري، وفلسفة اللغة، والفلسفة التحليلية، ومنطق الجهات، وعلم الدلالة، والسيميائيات، واللسانيات، والفيزياء.
ويعني هذا أن نظرية العوالم الممكنة تستعين بمجموعة من المقاربات المختلفة في فهم العوالم الأدبية التخييلية، وتأويلها من الداخل والخارج معا.
المبحث الثاني: تصنيف العوالم الممكنة
يمكن للمبدع أن يخلق مجموعة من العوالم الواقعية والممكنة والمحتملة، مثل: عالم الواقع الحالي، والعالم الميتاسردي، والعالم اللاهوتي، وعالم الفانطاستيك، والعالم الخرافي، والعالم الأسطوري، والعالم الملحمي، والعالم المنطقي، والعالم الاعتقادي، والعالم الغيبي، والعالم العرفاني، والعالم الروحاني، والعالم الرومانسي، والعالم السريالي، والعالم المعرفي، والعالم القيمي، والعالم التلفظي، والعالم الثقافي. علاوة على عوالم صغرى وكبرى، وعوالم أولية وعوالم ثانوية، وعوالم منظورة وغير منظورة، وعوالم شريرة وعوالم خيرة.
وهناك أيضا العوالم الشبيهة والقريبة والأشباه، والعوالم البعيدة والنظيرة (المقابلة) والنظائر. وهناك كذلك عالم الإنس، وعالم الجن، وعالم الشياطين، وعالم الملائكة، وعالم الروح أو الأرواح، وعالم الحيوان، وعالم الجماد، وعالم النبات، والعالم العلوي، والعالم السفلي، والعالم المقدس، والعالم المدنس، وعالم المطهر. وهناك كذلك عوالم ميتافيزيقية، وعوالم ميتولوجية، وعوالم دينية، وعوالم فيزيائية.
ويصنف المنطق الصوري العوالم الموجودة إلى أربعة: العالم المادي الحسي، والعالم الذهني، وعالم اللغة، وعالم الكتابة. في حين، تميز اللسانيات بين ثلاثة عوالم هي: عالم الدال، وعالم المدلول، وعالم المرجع.
وعلى مستوى التصنيف المنطقي، يمكن الحديث عن العوالم الضرورية، والعوالم الممكنة، والعوالم المستحيلة، والعوالم الواجبة، والعوالم المحتملة.
ويتحدث فريجه (Frege) عن عوالم ممكنة ثلاثة هي: العالم المادي الذي يتمثل في عالم الأشياء الحسية، والعالم الذاتي الذي يكمن في عالم الأفكار والتصورات الذهنية، وعالم المعاني . بيد أن نظرية العوالم الممكنة عند فريجه قوبلت بالانتقاد الحاد؛ لأنه لا يمكن الحديث عن عالم غامض لا ندركه، ولا ينكشف لنا حسيا وماديا.
المبحث الثالث: العوالم الممكنة وعالم الإحالة
إذا كانت العوالم، فيما قبل، مجردة وشكلية، فقد أصبحت - اليوم- بفضل الفلاسفة المعاصرين، عوالم ممكنة ذات طابع ميتافيزيقي ووجودي وتخييلي. وأكثر من هذا فقد ارتبطت العوالم الممكنة بتوازيها أو ارتباطها أو بإحالتها على العالم الواقعي الحالي. ومن ثم، يمكن الحديث عن تصورات عدة حول العلاقة الارتباطية التي تتعلق بعالم الكلمات وعالم الواقع على النحو التالي:
? تصور مرجعي يربط العوالم الممكنة بالعالم الخارجي الحسي المادي، على أساس أن العالم الواقعي هو عالم جذاب بامتياز، وهو الذي يتحكم في العوالم الممكنة الأخرى، وأن هذه العوالم مجرد نسخ مطابقة أو مرتبطة بهذا العالم.
? تصور دافيد لويس (David Lewis) الذي يرى أن العوالم الممكنة موجودة في الحقيقة مثل عالمنا المادي، وينطبق عليها ما ينطبق على العالم الحالي.
? تصور سيميائي أو بنيوي يتمثل في كون النصوص التخييلية لها عوالم سيميوزيسية (Sémiosis) وشعرية داخلية خاصة بها، كعوالم النصوص الميتاسردية. ومن ثم، فلا قيمة للإحالة الخارجية أو الواقعية.
? تصور عدمي لا يعترف بوجود العوالم الممكنة لا فيزيائيا، ولا تخييليا، ما دمنا لا ندرك هذه العوالم، ولم نكتشفها بعد ماديا وحسيا.
? تصور يرى أن عالمنا الحسي المادي عالم زائل، وغير خالد، وغير حقيقي أصلا، وأنه انعكاس أو ممر وسيط أو مؤقت نحو عوالم غيبية وممكنة أخرى، مثل: التصور الأفلاطوني، والتصور اللاهوتي، والتصور الديني.
? تصور يرى أن العوالم الممكنة هي عوالم مستقلة متوازية مع العالم المادي، مثل: نظرية العوالم المتعددة أو النظرية الكوانطية في الفيزياء العلمية والميكانيكية.
? تصور يرى أن العوالم الممكنة عوالم مترابطة ومتداخلة ومتقاطعة ومنسجمة كالإيقاع الموسيقي، كما هو حال نظرية الأوتار في الفيزياء المعاصرة.
? تصور يرى أن العوالم الممكنة هي عوالم مجردة محضة، وليست عوالم مادية وحسية وواقعية كواقعنا الحالي . وهذا هو تصور ساوول كريبك (Saul Kripk) مثلا.
? تصور يرى أن العوالم الممكنة عبارة عن جهات منطقية كما عند مناطقة الجهات.
? تصور لسانيات التلفظ الذي يرى أن العالم الواقعي الحسي أو العالم الممكن لا يقدم إلا في منظور تلفظي تداولي، كهذا الملفوظ التعبيري(أنا- الآن- هنا) الذي يشير إلى اندماج المتلفظ في الواقع بحضوره الذاتي في الزمان والمكان معا.
المبحث الرابع: أهداف نظرية العوالم الممكنة
تهدف نظرية العوالم الممكنة إلى تحقيق مجموعة من الأغراض والغايات والأهداف النظرية والإجرائية على النحو التالي:
? رصد العوالم الممكنة والتخييلية التي تزخر بها النصوص الأدبية والفنية والجمالية وتصنيفها، والبحث عن طبيعة هذه العوالم المختلفة، وتبيان الكيفية التي تحضر بها هذه العوالم داخل النص الأدبي، مع التعريف بكل عالم كوني أو تخييلي على حدة، في ضوء سياقه النصي واللفظي والتخييلي والمرجعي.
? البحث عن مختلف العلاقات الارتباطية والإحالية التي تتحكم في ثنائية عالم الكلمات وعالم الواقع.
? دراسة المبادئ الأساسية التي تنبني عليها العوالم الممكنة والتخييلية بغية التثبت منها نظريا وإجرائيا في النصوص التخييلية.
? تحديد بنيات العوالم الممكنة والتخييلية في مختلف تجلياتها السطحية والعميقة والمتوارية بحثا عن دلالاتها ووظائفها ومقاصدها وأبعادها المباشرة وغير المباشرة. أي: دراسة العوالم التخييلية بنية، ودلالة، ووظيفة.
? وصف العوالم الأدبية التخييلية وتفسيرها وتأويلها، على أساس أن النص الأدبي ليس نصا داخليا مغلقا كما عند البنيويين اللسانيين أو السيميائيين، بل هو نص مفتوح على مجموعة من العوالم الممكنة التي تدخل في علاقات مختلفة مع مراجعها الإحالية المقامية أو النصية. ومن هنا، لا بد من دراسة طبيعة الإحالة أو المحاكاة أو الانعكاس الموجودة بين النص التخييلي والواقع الحالي؛
? استجلاء أبنية هذه العوالم الممكنة في شكل جهات منطقية، أو جهات اعتقادية، أو جهات معرفية، أو جهات أخلاقية وتشريعية، أو جهات لسانية، أو جهات تلفظية، مع تحديد الجهات المهيمنة في تلك المحكيات والعوالم التخييلية.
? الاهتمام بالشخصيات السردية أو التخييلية، لا على أساس أنها شخصيات ورقية تخيلية غير حقيقية ماديا، وغير موجودة في الواقع الإحالي، بل ينبغي أن نتعامل معها على أساس أن الشخصية لها وجود حقيقي ما دامت هي ساكنة لعالم ممكن ما. وهنا، نتعامل مع مصطلح نقدي جديد هو الشخصية الساكنة (habitant d’un monde) بدل الشخصية العلامة، أو الشخصية الإحالة، أو الشخصية العامل.
? تجاوز المقاربات النقدية الكلاسيكية أو المقاربات البنيوية المغلقة نحو المقاربة المنطقية الكوسمولوجية بحثا عن منطق الصدق والكذب، ودراسات القضايا التخييلية في علاقتها بالمرجع النصي، أو المرجع الواقعي.
? استثمار الكتابات اللسانية والفلسفية والمنطقية والعلمية في دراسة النصوص التخييلية والأدبية بغية استكشاف مختلف العوالم الممكنة بنية، ودلالة، ووظيفة.
? تجاوز مبدإ الإحالة والانعكاس الكلاسيكيين إلى مبادئ إحالية جديدة ومعاصرة ، تمتح من حقل الفلسفة، والمنطق، واللسانيات، والسيميوطيقا، والفيزياء.
وعليه، تهدف نظرية العوالم الممكنة إلى وصف العوالم الموجودة في النصوص التخييلية، وتأويلها وفق منطق الصدق والكذب، أو منطق الاستحالة والإمكان، وربطها - بعد ذلك- بعالم الإحالة أو الانعكاس المرجعي، والتمييز بين القضايا المنطقية الموجهة والقضايا المنطقية غير الموجهة، والتمييز بين ماهو واقعي وما خيالي، أو التمييز بين حدود التخييل وحدود الواقع.
ويمكن أن تكون التفسيرات أو التأويلات التي تحوم حول العوالم الممكنة تأويلات متعددة: فلسفية، وتاريخية، ومنطقية، وأدبية، وسيكولوجية، وسوسيولوجية، ولسانية، وعلمية.
الغـــلاف الخـــارجي:
نظرية العوالم الممكنة عبارة عن نظرية دلالية ومنطقية وسيميائية، يمكن تطبيقها، بشكل من الأشكال، على الأجناس الأدبية والفنية والتخييلية. وبالتالي، فهي تستحضر مجموعة من العوالم الاحتمالية الممكنة والمفترضة التي توجد بموازاة العالم الواقعي الحقيقي. ومن ثم، تهدف نظرية العوالم الممكنة إلى دراسة العلاقة بين العوالم التخييلية والعالم الواقعي الحالي، في ضوء قوانين الصدق والإحالة والحقيقة وما صدق، أو في ضوء معايير الصحة والخطإ، أو في ضوء منطق الجهات أو القضايا الموجهة (Logique Modale). ومن ثم، لن تتحقق نجاعة هذه النظرية إلا بربط كلمات العالم التخييلي بالعالم الإحالي أو المرجعي أو الواقعي أو الموضوعي.