القاهرة 27 فبراير 2018 الساعة 09:54 ص
د. محمد الرافعي ـ المغرب
ـ نظرية «المثقف العضوي" هي سبب النقص الذي تعرفه الساحة الثقافية في مجال الإبداع الفني
ـ الأحزاب السياسية طعّمت البنية الثقافية للمجتمع بمواقف وسلوكيات وطموحات مغايرة لما هو رسمي
إن الحديث عن التحول الثقافي في مجتمع ما يحتاج إلى دراسات أكاديمية معمقة عن القيم الثقافية التي ترتحل في مجتمع ما عبر ما يطلق عليه اللاوعي الجمعي، لتضع أيدينا على المكونات الثقافية المشتركة بين أبناء المجتمع الواحد، ففي المجتمع المغربي مثلا الذي يتكون من مكونات ثقافية متنوعة مثل العرب والأمازيغ ألا يجدر بنا أن نبحث عن التحولات الثقافية فيه؟ وهل ثمة دراسات وإحصائيات تكشف لنا عن هذه التحولات؟
بالنسبة للمجتمع المغربي المستقل - وفي غياب دراسة أكاديمية عميقة حول موضوع التحول الثقافي- نرى أنه يمكن التمييز فيه بين أربع حقب ثقافية شعبية، حقبة ما قبل الاستعمار وحقبة الفترة الاستعمارية وحقبة ما بعد الاستقلال إلى مطلع السبعينات، وحقبة ما بعد التسعينيات إلى مطلع الألفية الثالثة. وسأقتصر هنا على دراسة المرحلتية الأخيرتين نظرا لكون المرحلتين الأولتين من اختصاص التاريخ الاجتماعي. وقد اتسمت الحقبة الثالثة، من بين ما اتسمت به، باتساع رقعة تأثير المجال القروي في المجال الحضري حيث كانت نسبة البادية تقارب 70%، بل إن الحواضر نفسها لم تكن قد قطعت الصلة ثقافيا مع العالم القروي خاصة في الأحياء الهامشية. وكانت تلك هي سمات التحول الثقافي الذي عرفته المدن المغربية آنذاك، وهو ما يمكن تسميته ببدونة المدن أو بدونة هوامش المدن على الأقل، ذلك أن المهاجرين من البوادي إلى المدن كانوا يأتونها محملين ومتشبعين بعناصر ثقافية تقليدية وقروية، كما أن تردد أغلبهم على البادية كان يتم بشكل منتظم مع ما يستتبع ذلك من استمرار انتشار الثقافة التقليدية القروية بالأحياء التي كانوا يتجمعون بها والتي كانت في أغلب الحالات مدنا للصفيح؛ كما اتسمت هذه الحقبة بهيمنة الميولات السياسية الوطنية والتقدمية - اليسارية استمرارا للحركة الوطنية التي كان منظروها يؤكدون أن عملية التحرير لم تنته بعد، وكان المثقف النموذجي آنذاك هو المثقف المناضل أو "المثقف العضوي" الذي ينبغي أن يتماشى إنتاجه الفكري أو الفني مع الاتجاهات السياسية التقدمية، وهذا ما جعل العديد من المثقفين يعزفون عن الإنتاج الفني لأجل الفن، في استقلال عن السياسة، لأن ذلك كان يعتبر عملا غير تقدمي، يخدم "البورجوازية" ولا يخدم الجماهير الكادحة، وهذا في اعتقادي هو ما يفسر هذا النقص الذي تعرفه الساحة الثقافية في مجال الإبداع الفني، فباستثناء بعض المبادرات المحدودة التي عرفت انتشارا وتجاوبا جماهيريا (كناس الغيوان ولمشاهب مثلا...) فإن المثقف المغربي كان يوجه قدراته إلى العمل السياسي أكثر من توجيهها إلى العمل الفني. ولم تكن للمدرسة آنذاك قدرة على تغطية كل الحاجيات حتى بالنسبة للمدن مما جعل نسبة الأمية تستمر في ارتفاع، وقد أدى ذلك إلى استمرار انتشار الأدب الشفاهي التقليدي. من جهة أخرى سجلت تلك الفترة محدودية انتشار التيليفيزيون، كما أن هذا الجهاز لم يكن بإمكانه آنذاك فرض هيمنته على الناس نظرا لضعف أساليبه وإمكانياته. وقد ترك المجال آنذاك للراديو الذي كان يعتمد أساسا على الروايات الشفاهية المسلسلة التي كانت في جوهرها امتدادا للرواية في شكلها التقليدي من حلقة وبساط... (والتي كان لها أثر لا يستهان به). وأمام الفراغ الثقافي والترفيهي والتعليمي الذي كان يعيشه المغاربة آنذاك فقد وجدت قنوات التثقيف التقليدية المجال المناسب للاستمرار في لعب دورها التقليدي في التثقيف والترفيه والتعليم في الستينيات ومطلع السبعينيات؛ وقنوات التثقيف التقليدية متعددة منها المنحذر العرقي ولمسيد و"الحلقة" والسوق والنخب التقليدية الشعبية (كالفقيه والعراف والعشاب والبراح وأمناء الحرف...) والمواسم الزراعية ومواسم الزوايا والتجمعات التقليدية الاحتفالية (فولكلور، واحتفال بالأعياد...) وغيرها. كما لعبت الأحزاب السياسية دورا في تطعيم البنية الثقافية للمجتمع المغربي وذلك بنشر مواقف ونماذج سلوك وطموحات سياسية مغايرة لما يروج له بطرق رسمية. وقد كانت لكل هذه القنوات مصداقية كبيرة في أوساط المقبلين عليها مما كان يجعل تأثيرها عميق، ودورها كبير في حفظ ونقل جزء لا يستهان به من الثرات من جيل إلى جيل.