القاهرة 27 فبراير 2018 الساعة 09:36 ص
عماد مجاهد
ـ شخصيات الرواية مأزومة ومختنقة.. والمناضلون لم ينجحوا فى استرداد الوطن
ـ الكاتب فجر قضايا مهمة بشكل ضمنى.. وتحدث عن الهموم الكبرى للإنسان العربي
المكان في رواية باب الليل لوحيد الطويلة مقهى فخم بديكورات بديعة فى تونس. أما الشخصيات فهي رواد المكان، شخصيات من دول عربية كثيرة ومن تونس أيضا، وفتيات صارخات الجمال لبيع الهوى وجلب الزبائن.
أولًا: وصف الجسد (جسد الفاتنات).. دلالة المساحة
على امتداد صفحات الرواية، كان هناك وصف لجسد فاتنات كثيرات في أكبر عدد من الصفحات.
- السبب الفنى أنه كان يتحدث عن شخصيات تبيع الهوى، يبدأ بالوصف الخارجى، ويدقق لأن هذا يتناسب مع طبيعة عملهن لبيع الهوى، ومن جسد صارخ الجمال إلى حياة الشخصية وأبعادها النفسية، وقد تحدث عن كثيرات.
- دلالة المساحة الكبيرة لوصف الجسد.. لماذا على امتداد الرواية؟
- عدم رضا شخصيات عن نفسها.
- الواقع شديد المرارة.
- إحساس بالهزيمة أمام أزمات الواقع.
- الهروب من الواقع المر الى جسد فاتن حلو.
هذه الشخصيات مأزومة هزمت، لم ينجح الأزواج، مدينون مختنقون من حياتهم، المناضلون لم ينجحوا فى استرداد الوطن، رام الله الجليل طول كرم. بنات الهوى كذلك لم يبق لهن غير بيع الجسد، المال قوة مادية، حتى درة صاحبة المقهى القوية صاحبة العلاقات ذات النفوذ، لم تطمئن أبدًا، ظلت مهزوزة جدًا، أمام خوفها الدائم من غدر العالم بها، خوفها من فقدان قوتها الهائلة، لتزاح لخانة الضعفاء وتداس بالنعال.
ثانيا: التماهى بين البندقية والمرأة وفلسطين
هذا يتضح عند شخصية "أبو شندى" المناضل الذى أحب وطنه فلسطين، ففلسطين كانت حبه، كأنها محبوبة امرأة، والبندقية أيضا كانت عنده مثل المرأة، لأنها وسيلته للنضال من أجل محبوبته فلسطين. وفى الرواية عندما كان فى لبنان، عند المشايخ الذين كان يدربهم هناك، لكى يفهموا كلامه، شبَّه كل جزء فى البندقية بقطعة من جسد المرأة، وفى نفس الفصل تحدث عن المرأة اللبنانية، الوحيدة التى أحبها أبو شندى، الفاتنة أم زينة هكذا، تحدث أبو شندى: "تحتاجاننى الاثنتان"، بالطبع يقصد التداخل فى الحب، فلسطين، أم زينة، والبندقية.
ثالثا: الضعف الإنسانى
لا توجد شخصية بلا نواقص.. بلا عيب.
أبو شندى الذى دبر عملية قتل فيها واحدًا من الـ 400 شخص الذين نفذوا مذبحة دير ياسين، أبو شندى الذى قتل الموت بداخله ولم يعد يعرف الموت، جنونه بوطنه وإيمانه به، كل هذه القوة النفسية والبطولة، داخل إنسان.
- نقطة الضعف: يؤجل أبو شندى عملية ألمانيا بسبب حبه لأم زينة، كانت تلد، يقول "أخرت عملية ألمانيا من أجل عيونها، ضاعت بسبب فروق التوقيت فى صلاة العشق، لم أستطع تركها وحدها كانت تلد، لم أقدر على البعاد لم أقدر أن أفارقها أو أتركها لحظة".
رابعا: وصف جسد المرأة بمشهد موازٍ.
يصف المؤلف وحيد الطويلة جسد المرأة من خلال مشهد مواز، يسخدم جمل تتضافر بشكل غير مباشر وممتد، فإلى المشهد:
"غص إلى الأعماق كبحار محترف يفتش عن لؤلؤة نادرة، تمعن وبنفس طويل عميق شم روائحى، الرجال الذين لا يعرفون الروائح لا تسجل أسماءهم على لائحة الخلود فى معابد النساء، لاتترك منحدرا أو مرتفعا دون أن تطبع عنوانك عليه، الكثبان المتموجه سوف تساعدك على التريض، بسعادة وتدلك على طريق الغابة، اقض وقتا جيدا، بين أشجارها، حتى يفتح لك حارس الغابة". التعبير عن جسد المرأة والرغبة وإشعالها بمشهد مواز، من الطبيعة مشهد البحار الباحث عن اللؤلؤ و الكثبان والغابة، وحارس الغابة.
خامسا: علاقة الأعلى بالأدنى
تتضح علاقة الأعلى بالأدنى، والتى كتبها وحيد الطويلة.
- المدرسة تونسية تسأل طفلا فى الفصل عن الوظيفة التى يتمناها، يقول الطفل: نفسى أطلع رئيس. انقلبت الدنيا، كيف يتجرأ الطفل ويقول هذا! الذى أنقذ الطفل أمه، قالت: هو سورى الجنسية، القانون لايسمح له أن يكون رئيسا، حتى لو أخذ الجنسية التونسية .
- خالة الطفل تسب وتصرخ، المدير خصم ربع راتبها بسبب تأخرها على العمل هذا الصباح، كل ذلك بسبب موكب الرئيس.
- والى المنطقة يمر على المحلات، خلفه رجال يأخذون المعلوم من كل محل مشاركة فى حملة ترشيح السيد الرئيس لولاية جديدة كى يشعر كل مواطن وكل صاحب محل أنه شارك بالفعل مشاركة شعبية واضحة للعيان.
سادسا: أنواع مختلفة من المناضلين
خلق الله الإنسان البشر مختلفين فى القيم والطباع والعادات والفكر. فى الرواية الكثير من الشخصيات، منهم من اهتم بالقضايا الكبرى، المناضلون.
رصد وحيد الطويلة الاختلافات التى بينهم:
- بريجينيف: مناضل فلسطينى حنجورى، شارك بالكلام فقط، يبحث عن زبائن، أى أشخاص يستمعون جيدا لقصصه وخطبه العصماء الوهمية، لم يسافر إلى الدار البيضاء، حيث زوجته وأولاده، لن يجد هناك أهم زبائن يبحث عنهم ، لن يستمع أحد هناك فى الدار البيضاء لخطبه وبطولاته الوهمية.
- أبو شندى وأبو جعفر: مناضلان حقيقيان حملا السلاح وواجها الموت، فى سبيل وطنهما فلسطين، وبنقاء كبير، دون البحث عن منفعة شخصية أو منصب أو مال، نقاء كبير فى التعامل مع الثورة الفلسطينيية.
- شخصية جمعت النقيضين (فاروق جعفر):
شق المناضل فى شخصيته: أصيب فى لبنان، قاوم إسرائيل، أصيب بشظية فى عينه اليمنى، وكاد أن يموت، فهو مناضل حقيقى، المناضل يضحى من أجل القضية التى يدافع عنها.
شق المنتفع الانتهازى فى شخصيته:
فاروق جعفر زوجته فلسطينية، حصل على منافع وأموال المنظمة. حسابه فى البنك منتفخ من كثرة الأموال. يبيع العملات بسعر البنك، أولاده يتعلمون فى أمريكا على حساب المنظمة. الانتفاع من القضية كبقال كتاجر، قمة التناقض، إنها النفس البشرية.
سابعا: شخصيات فقدت ضميرها تماما
-غسان: بلا ضمير، منعدم. سورى قام والده بانقلاب فاشل فى سوريا، هرب لتونس في لجوء سياسى. يريد أن يعيش عيشة الأغنياء، انضم لمظاهرات الخبز فى تونس، جاسوس فاخر على زملائه، نقل أخبار الطلاب. فشل أن يصبح عضو مجلس شعب فى تونس، هلك الكثيرون بسبب خياناته لهم.
- ألفة: شخصية بلا ضمير، بائعة هوى، صاروخ فتنة المقهى، كتلة هائلة من لهيب الفتنة والرغبة، العريس الأوروبى الأول الذى أحبها وأحبته تركها وهرب، قال لا أحتمل أن أعيش مع كتلة اللهب والجمال، ولأنها تشبعت بالدنس وتلوثت تماما.
رفضت النقاء، رفضت الحياة الواضحة، تزوجت من ألمانى خمسينى، حصلت على السعادة.
لماذا رفضت ألفة هذه الحياة؟ كل شئ فى المانيا أبيض، واضح, لم تعد قادرة على احتمال الأخلاق النظيفة. بسبب خيانتها طردها زوجها، حنت لسرقة الزبائن مقابل الجسد.
ثامنا: الارتباط بالمقهى
كل شخصية ترتبط بالمقهى وتذهب إليه، دائما هناك أسباب قوية تدفع الشخصيات.
- أبو شندى هو أكثر الشخصيات ارتباطا بالمقهى، مقهى بيع الهوى، لأن أبا شندى كان يقود تنظيما مكانه ألمانيا، تحت غطاء وتمويه، دورأول صالة قمار، دور ثانى حجرات بائعات هوى، الأسفل قنابل متفجرات تستخدم فى العمليات. 12 مناضلة. تنظيم للمقاومة الفلسطينية. والمقهى فى تونس يذكره لوجود تشابه خارجى شكلى؛ فى المقهى بتونس فتيات بيع الهوى، وجه شبه مع ماخور بيع الهوى فى ألمانيا كغطاء للنضال، بما يحب الوطن والمقاومة.
- درة الملكة صاحبة المقهى: المفتاح النفسى لشخصية درة الخوف الشديد من فقدان القوة والنفوذ، فتزاح إلى خانة الضعفاء، وتداس بالنعال. روح اللص الذى لا يشبع هى التى تسيطر على شخصية درة؛ تريد أن تأخذ كل شئ من العالم: مال، معارف مهمون. المقهى هو بوابتها على العالم، لتصطاد، لتسرق، بل هو حياتها، رغم أن والدها كان غنيا، وتستطيع أن تترك هذا المقهى. لم تتبدل أو تتغير حتى فى وجود أبناء. زوج مثل فردة الشراب والعشيق مهندس.
- الرجال التونسيون
يذهبون الى المقهى، السبب الهروب النفسى من حياة مريرة. يبحثون عن سعادة وبهجة: "هدتهم مطالب البيوت والأولاد وأقساط القروض التى أكلت رواتبهم وكسرت ظهورهم والتسجيل فى ملاعب البيوت شحيح لذا يهرعون للعب الورق".
- الفلسطينيون
شادى، أبو جعفر، وأبو شندى، وبقيتهم يلتقون ليحتموا ببعضهم البعض من فقدان الوطن. شواطئ غزة بعيدة المنال، فقرهم الذى يضغط عليهم.
تاسعا: النهاية
لماذا جاء الفصل الأخير هكذا؟
الفصل الأخير:
تبدأ الأحداث فيه باختفاء مفاجئ لضباط كبار. تشعر درة بالقوة والحماية فى وجودهم، رائحة المكان فاحت، تلاحظ أن فتيات بيع الهوى كبرن وتهدلت الفتنة قليلا، تقرر خطة عاجلة: تحضر فتيات طازجات جديدات، جميلات، وتبدأ أول تجريب مواعيد الغرام، تبادل أرقام التليفونات بين البنات والزبائن فى الحمام. لما نجحت التعديلات الجديدة، اطمأنت.
الفصل الأخير أصبح علامة استفهام كبيرة، ولم يكتب وحيد الطويلة مضمون الرواية ولم يواجهنا به فى الفصل الأخير، بل ترك كل قارئ يستنتج مضمونا خاصا للرواية.
هذاالمضمون مكون من كل فصول الرواية السابق التى كتبها المؤلف وقرأها القارئ وتأثر بها + رأي القارئ فى الحياة، كيف ينظر هو للقضايا الموجودة فى الرواية، لأن تبادل أرقام الهواتف فى الحمام هكذا كانت بداية الرواية، بين بنات الهوى وزبائن الرغبة. كرر وحيد الطويلة نفس الأمر ليقول فى الفصل الأخير أن الرواية انتهت، هذا الدور الفنى إعلان نهاية الرواية.
الخاتمة:
نحن أمام عمل مفتوح، أزمات إنسانية للشخصيات والمكان (المقهى) يعج بشخصيات من بلدان عربية متنوعة. المقهى والرواية هى معادل موضوعى للأمة. والكاتب فجر قضايا مهمة بشكل ضمنى. كل الهموم التى يعيشها الإنسان العادى، الهموم الكبرى التى نحملها جميعا فى قلوبنا ودمائنا.. شئنا أم أبينا.