القاهرة 27 فبراير 2018 الساعة 09:44 ص
مختار سعد شحاتة
«كُنا حين نسمع حواديت ما قبل النوم نبتسم لسذاجتها إذا ما قارناها مع حكايات أشكيفنا التي تصلح في كل وقت»
لم يكن أشكيفنا بدعًا بين رسل الحكايات، الذين جاؤوا من رحم بلدتنا المسكونة بأعجب وأندر ما نسمعه من تلك الحواديت التي لم تكن كحواديت الأمهات والجدات عند النوم. كُنا حين نسمع حكايات الزملاء عن حواديت ما قبل النوم في قراهم ومدنهم، كُنا نبتسم لسذاجتها إذا ما قارناها مع حكايات أشكيفنا التي تصلح في كل وقت، يمكن أن تحكيها في أول اليوم ووسطه وعند النوم، تراها مناسبة للجنائز والأفراح، فحكايات الأشكيف أسطورة تسعى سعي عصا موسى بين سحرة الحكايات فتغلبهم وتبهرهم. حكايات أبطالها مصنوعين من واقع البلدة وخيال الأشكيف الخصب في غالبها، ذلك الخيال الذي جعل من الناس والبسطاء أسطورته التي نحكيها، لم يعتمد في روايته وحكاياته إلا على شخصه وما حدث، لكنه حين يحكيه كأن جنية جميلة أو عفريت يأتيه بالروايات، ويضمن لك أنك قبل أن يرتد إليك طرفك ستقسم إنك تعرف هؤلاء، وسيبقى سرّ خلطتها العجيبة أعظم من سر شويبس، فقط اترك نفسك للأشكيف واستمتع بالحكايات
"صلوا على اللي يشفع فيكم"، كانت جملته الافتتاحية على الدوام، وكانت أول مرة أسمعها منه حين كُنا عائدين من الجامعة التي تنتهي بنسب إلى سيدنا السطوحي، مدد يا بدوي مدد. دخلنا عليه متعبين ومرهقين، وقرر احتفالاً بنا أن يقوم بالطبخ ترحيبًا بنا في غربتنا التي كُنا نظنها، والتي يتندر عليها بإعادة حكاية أحدهم حين سأله عن حجم مدينة طنطا، فأجابه الأشكيف، "والله طنطا زي ما قال عليها الواد حارس بتاع عزبة الملك، طنطا يا عم الأشكيف قد العزبة مرتين تلاتة"
يسكن الأشكيف في الدور الثالث عشر، وهو رقم غير محبب إلى زملاء السكن، باستثناء الأشكيف الذي يراه رقمًا مناسبًا تمامًا، إذ كان يقول "ومين اللي كان يلاقي صحبة حلوة زي صحبة مطرب العواطف ده، ولا كان يلاقي حد يرضى يسكن قدام مأمور مباحث طنطا غير مطرب العواطف". كان يُشير نحو زميل السكن الذي يتشارك معه الشقة رغم اختلافهما في كل شيء، فالأشكيف لم يكن يومًا من هؤلاء العاطفيين الذين يسعون في ساحات الجامعة خلف الزميلات، كان مبرره على الدوام "هو أنا ناقص بنت من بتوع الفلاحين اللي الوردة في بلوزتها مش ناقصها غير عيل ينقي منها اللطع زي ما بينقوا الدودة في أرض القطن"، بينما مطرب العواطف كما سمّاه رجل يجتهد في أن ينفر البنات منه وينافس حرارة الجو في طنطا في ذلك. حين سألته عن سرّ إصراره على السكن مع مطرب العواطف، قال نصًا: "حد يطول يسمع الراديو طول الوقت وعلى مزاجه"، إذ كان الأشكيف على الدوام يطلب من مطرب العواطف أن يغني له حسب الطلب ما يحب من أغاني فيروز وفريد الأطرش
في يوم زيارتنا وبعد دخولنا الشقة، طلب منا "سطحوا هنا لحد ما أجهز الغدا"، تركنا ودخل المطبخ، وبعد دقائق عاد مطرب العواطف من الجامعة منهكًا متعبًا من الحر وأكثر من 140 درجة من سلالم العمارة حتى الشقة، وسب ولعن على الأسانسير الذي لا يحمل مفتاحه للصعود، وعاتب الأشكيف إذ قرر العودة من الجامعة قبله. لم يكن مطرب العواطف استراح بعد، فجاءه الأشكيف وطلب إليه أن ينزل من جديد إلى الشارع، "عايزين ملح يا بطل"، ثار مطرب العواطف، إذ لم يُقدر الأشكيف معاناته في طلوع ونزول السلم، وسريعًا تطور الأحداث، حتى أننا عرضنا النزول لشراء ما يلزم، لكن الأشكيف كان مُصرًا "يا عم والله لازم تنزل غصب عنك". حاولنا تهدئة الأمور بينهما، وبالفعل نجحنا، وقرر الأشكيف أن يستعير بعض الملح من جيرانه في عجيبة من عجائب حكاياته سنرويها إن سمح المقام، ودخل يُتابع "الطبيخ" في المطبخ، استأذننا مطرب العواطف، وقرر أن يلطف من حرارة جسده بالاستحمام، وعبثًا حاول أن يجد "فردة الشبشب" الخاص به لدخول الحمام، وفجأة تحولنا جميعًا مثل كتيبة تبحث عن ذلك "الشبشب" لأجل مطربنا، وبعد دقائق ظهر الأشكيف عائدًا من البلكونة المطلة على الشارع، وفي يده بعض الملح والبصل، وسألنا بهدوء، "مالكم يا ولاد؟"، "فردة شبشبي مش لاقيها يا أشكيف"، نظر نحو مطرب العواطف بغرابة، ثُم سأله، "هو لونه أخضر؟"، ولما استوثق من اللون، قال، أنا شايف فردة شبشب خضرا مرمية في الشارع". انطلق مطرب العواطف نحو البلكونة، ونظر إلى الشارع، ولا أعرف كيف اقتنع بأن تلك الفردة تخصه، فأسرع يعبر الصالة وانطلق نازلاً إلى الشارع من جديد، ناداه الأشكيف وطلب منه أن يحضر "الملح" معه، ثم ابتسم الأشكيف وقال: "تعالوا ندخن في البلكونة". كُنا ننهي سيجارتنا حين ظهر مطرب العواطف يمسك بفردة الشبشب وكيس الملح، ويدخل العمارة من جديد، مر زمن سيجارة أخرى، حين كان مطرب العواطف يدخل حاملاً فردة الشبشب، وكان عجيبًا إذ اختفت الفردة الأولى، وحين راح يتعجب، وجدنا الأشكيف يقول له "يا ابني الفردتين كانوا مع بعض تحت أنا شايفهم"، فانطلق نحو البلكونة من جديد، ولم يصدق ما رأى إذ رأى الفردة الأولى على بُعد خطوات من السابقة، فعاد من جديد يهرول إلى الشارع، فقال الأشكيف "حد عايز حاجة من تحت يا ولاد؟ الجدع ملوش غير فردتين شبشب بس ومش هينزل تاني، وبصراحة مفيش حاجة أرميها تاني"، ثم ذهب إلى البلكونة. استلقينا على ظهورنا من الضحك، وبعد قليل سمعناه ينادى مطرب العواطف: "يا فنان.. يا فنان.. هات معاك سكر وشاي وأنت طالع"