القاهرة 20 فبراير 2018 الساعة 09:38 ص
عاطف محمد عبد المجيد
في تصديره لكتابه " في فلسفة الثقافة والنقد الثقافي " الذي صدرت طبعته الثانية حديثًا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، يقول د. مصطفى النشار إن الثقافة ذلك الاصطلاح البراق الذي يستحوذ على العقل ويأسر القلوب، هو اصطلاح اختلف حوله الفلاسفة والعلماء، وحاروا في تفسيره وتجلياته، متسائلاً هل الثقافة هي الإطار النظري الذي يحكم السلوك الإنساني؟ أي هل هي المباديء العامة التي يؤمن بها فرد ما أو شعب ما، ويسلك وفقًا لها؟ أم هي المظاهر السلوكية التي يسلكها أي فرد أو أي شعب؟ أم هي مجموعهما معًا؟ النشار يرى خطورة الثقافة تكمن في أنها الوجه اللامع لحضارة أي أمة، ومن هنا كان التداخل والخلط بين مصطلحيْ الثقافة والحضارة، فهل الثقافة هي الحضارة، والحضارة هي الثقافة، أم ينبغي التمييز بينهما؟ وما هي علاقتهما بمصطلح آخر وهو المدنيّة؟ إلى جانب هذا يطرح النشار عدة أسئلة أخرى، محاولاً الإجابة عنها عبر صفحات كتابه هذا، منها ما علاقة الثقافة والحضارة والمدنية بمفهوم التقدم؟ وكيف نقيس تقدم أي أمة: هل بثقافتها أم بما لديها من مظاهر مدنية؟ وما هي أوجه التشابه بين التقدم والتنمية؟ وما هو مقياس نمو الدول وسيرها على طريق التقدم؟ وكيف يقاس أيضًا تخلّف الأمم؟
دور المتفرج
هنا يؤكد النشار أن الحقيقة الماثلة أمامه والتي يراها صباح مساء، هي أننا لم نعد نملك ترف الاكتفاء بالنقل عن الغرب والاحتفاء بما يقال هناك أيًّا كان موضوعه وأغراضه أو منطلقاته وأهدافه. كما لا ينبغي أن نكتفي الآن بدور المتلقي أو المتفرج، بل علينا أن يكون لدينا موقف من كل ما يُطرح، علينا أن نقف موقف المشارك الإيجابي، وليس موقف المتلقي السلبي، كما يجب أن يكون لنا موقفنا المستقل من كل ما يُطرح من قضايا الثقافة والتقدم والتنمية، مضيفًا أن التلاقح بين الثقافات والحضارات مطلوب ومحمود إذا ما كان لصالح الارتقاء بالبشرية ولتحقيق قدر أكبر من رفاهية البشر وسعادتهم وخيرهم. أما إذا كان تلاقي الحضارات سيكون لصالح سيادة ثقافة ما تحت ستار تقدمها وما تملكه من قوة وعتاد أو قوة تكنولوجيا عسكرية، فهو التلاقي المرفوض، إذ لا تلاقي يقام على أساس من قوة عدو يحشد العتاد والعدة بمختلف وسائلها لتدمير الآخر وابتلاعه، خاصة وأن الثقافة السائدة ليست هي الأفضل أو الأكثر تقدمًا على الإطلاق، بل العكس قد يكون هو الصحيح، مؤكدًا أنه من المهم أن نقيس التقدم والأفضلية بمعايير صحيحة، ومن المهم كذلك أن تكون هذه المعايير متفقًا عليها بين الجميع، وليست من وضع أصحاب الثقافة السائدة. هنا يحاول النشار أن يحدد موقفه من المصطلحات السائدة للثقافة كالتقدم، الحضارة، التنمية، وموقفه من العلاقات المتَصَورة بينها، وفي ضوء تحديد موقفه يحاول بيان كيفية الاستعادة من النظريات السائدة، ومن التجارب الرائدة في تحديد طريق التحول من التخلف إلى التقدم. كما يسعى هنا لوضع أساس شرقي عربي لفلسفة الثقافة قد يتقاطع أو يتشابه مع بعض الآراء لبعض الفلاسفة الغربيين، ولكنه بالقطع ليس ناقلاً عنهم، وليس مؤمنًا بكل ما يقولونه، كما يرفض تمامًا أن يقف موقف المتلقي أو المتفرج لأنه قادر على المشاركة الإيجابية في الحوار حول فلسفة الثقافة ومن وجهة نظر مختلفة ومبنية على أسس عميقة مستمدة من العمق الحضاري والتاريخي الكبير الذي يستند عليه. هنا يبحث النشار كذلك في العلاقة بين الثقافة والتنمية والتخلف والتقدم ليكتشف الطريق الأفضل الذي يمكن لشعوبنا أن تسلكه في محاولتها الجادة للتحول من ثقافة التخلف إلى ثقافة التقدم، ومن ثم للتحول من مجتمعات موسومة بالتخلف إلى مجتمعات متقدمة.
التحدي الحضاري
النشار الذي ينفي كونه متخصصًا في الصناعة وفي غيرها من صور الإنتاج يؤكد أنه يقدم مجرد اجتهاد ووجهة نظر ذات طابع فلسفي نابع من تخصصه في الفلسفة، آملاً أن نجني ثمار هذا الاجتهاد في الحوار لإعادة بناء ذاتنا الحضارية باستجلاء عناصر هويتنا الثقافية المستقلة، يحدوه الأمل في قدرتنا على خوض غمار التحدي الحضاري الذي نواجهه بدءًا من إدراكنا لأهمية أن تكون لنا رؤيتنا المستقلة للفلسفة ولمعنى التقدم والحضارة. هذا ويتحدث النشار عن الثقافة قائلاً إنها الإطار النظري لمعتقدات الفرد والمجتمع الذي يعيش فيه، وهي كذلك ما يبدو ماثلاً في سلوكهم الأخلاقي والديني والاجتماعي والاقتصادي، إذ لا ينفصل النظر عن العمل أو القول عن الفعل، وبمعنى آخر يرى النشار الثقافة متمثلةً في ما يُشكل الوجدان الفردي أو الجماعي لمجتمع ما. أيضًا يؤكد النشار أن الثقافة المنفتحة على الثقافات الأخرى دون تعالٍ أو غرور هي الثقافة القابلة للتجدد والاستمرار. هنا أيضًا لا يفوت الكاتب أن يُعدد سمات الثقافة المتحضرة واصفًا إياها بأنها التي تسود بين أفرادها القيم الأخلاقية الرفيعة، والتي يؤمن أفرادها بصورة دينية محددة حول الكون وخلق العالم والعلاقة بين الله والإنسان، وهي التي يوازن أفرادها بين المطالب المادية والمطالب الروحية ويعيشون حياة أخلاقية واجتماعية سوية لا تطرف فيها ولا شذوذ، وهي التي يتمتع أفرادها بإيجابية وفاعلية نحو الإبداع والابتكار، وهي التي يسعى المجتمع في ظلها إلى تحقيق العدالة بمعناها الشامل والواسع. كذلك مما يراه النشار هنا أن حرية التفكير تُعد إحدى ركائز المجتمع المبدع، لأنه لا إبداع فردي ولا جماعي إلا في ظل تمتع الجميع بالقدر اللازم من حرية التفكير والإبداع، مؤكدًا أن العلامة الفارقة بين المجتمع المتحضر والمجتمع المتخلف تكمن في احترام أهل الأول للقانون.في موضع آخر يكتب النشار قائلاً إن بنية الثقافة الحية لا تُكوّن حياتها إلا بالتغذي الذي لا يمكن أن يكون من خلال اجترار ما سبق التغذي عليه والنمو به، وإنما من خلال التغذي على عناصر شبيهة بعناصر الذات الثقافية.
العولمة الثقافية
وعلى جانب موازٍ يناقش الكتاب مفهوم العولمة التي كثر الحديث عنها بأشكال شتى متناولاً آليات العولمة التي تضافرت لتجعل هذه الدعوة إلى العولمة في عصرنا الحاضر تتردد بين كل مثقفي العالم بفئاتهم المختلفة وانتماءاتهم المتعددة. النشار حين يحاول تعريف العولمة الثقافية يقول إنها التقارب الذي يحدث بين ثقافات شعوب العالم المختلفة لدرجة ذوبان الفوارق الحضارية بينها، وصهرها جميعًا في بوتقة ثقافية واحدة ذات خصائص مشتركة. كما يؤكد على أن ثمة ما يدعو كل مثقفي العالم ومفكريه، خاصة من أبناء الحضارات الأخرى أن يعيدوا النظر في الانخراط في فلك الثقافة الغربية، وأن يتوقفوا عن السعي إلى تقليدها والتبعية لها وأن يعيدوا بناء ثقافتهم القومية وتجديدها بما يتلاءم مع مقتضيات العصر الحاضر حتى يمكنهم مواجهة الثقافة الغربية التي تعرض عليهم نفسها مع دفع الثمن. الكاتب الذي يصف العولمة بأنها ظاهرة تاريخية يرى أن الشباب المعولم هو الذي نراه في جميع الأحوال أنيقًا بالزي الغربي المعتاد، ولا يتحدث إلا بلكنة تنم عن أنه يجيد اللغات الأجنبية خاصة الإنجليزية، وهو الحريص على تصفح مواقع الإنترنت المختلفة، ويتباهى أنه يحمل سيرة ذاتية تتضمن حصوله على شهادة الـ ICDL ودورات أخرى متقدمة في لغات أجنبية أخرى. بهذه المميزات يرى النشار هؤلاء الشباب عصريين وناجحين بالمقاييس المعرفية والاقتصادية طامحًا إلى أن يكون شبابنا عصريين يمتلكون المعرفة بكل آليات العصر. ولا ينسى أن يذكر الآثار السلبية للعولمة ثقافيًّا وأخلاقيًّا، ومنها القضاء على التنوع ووأد الإبداع ومحاولة تنميط الثقافات البشرية وقولبتها في ثقافة واحدة، مقترحًا استراتيجية لمواجهة هذه الآثار ومنها تقوية قيم الثقافة القومية في نفوس الشباب، وبناء عناصر القوة الذاتية، وتحديث نُظمنا التعليمية بحيث يكون أهم عناصرها هو تدريب أبنائنا على التفكير العلمي والفلسفي والنقدي الذي يُكسبهم مهارات التحليل والقراءة، قادرين على مواجهة عصر المعلومات بعقلية نقدية تستوعب كل ما يفيد وتستبعد كل ما يضر. وبعد هذه السياحة المفيدة للغاية في فضاءات الثقافة والفلسفة والنقد، يقول النشار إننا رغم أننا نرى أن الثقافة في أي مجتمع تتأثر بالثقافات الأخرى وتتلاقح معها، فإننا لا نرى أنه بإمكان أي مجتمع أن يتنازل عن ثقافته كليّةً لصالح أي ثقافة أخرى مهما كانت قوتها أو سموّها، إذ ليس بالإمكان، في اعتقاده، عولمة الثقافة، خاصة وأن الثقافات القومية والمحلية قد تستفيد من ثقافات أخرى وافدة وقد تتطور وتتجدد بفعل هذا التأثر، إلا أنها لا يمكن أن تُمحى أو تموت بفعل هذا التأثر أو تلك الاستفادة.