القاهرة 15 فبراير 2018 الساعة 12:01 ص
منى لملوم
وأخيرًا، تستقلبني بعد طول سفر واشنطن العاصمة ببرودةٍ شديدة. كنت قد غادرت الإسكندرية وأنا في شوق للشتاء، فلبت لي واشنطن أمنيتي ببرودة ذكرتني بشهر طوبة عندنا، والحقيقة أن البرودة كانت فقط في الجو، أما العلاقات الإنسانية فكان يملؤها الدفء والود، وهذا ما سأحكيه في السطور القادمة.
كانت الساعة الثامنة مساءً، الشوارع هادئة إلا من بعض المارة، وكان الجوع يكاد يعتصرني بعد طعام الطائرة الفاخر الذي سبق ووصفته بطعام المستشفيات. الحل في محل الـ«صب واي» القريب إذًا. نصف ساندوتش من الدجاج المليء بكل أنواع الخضار ومضاف إليه الجبن اللذيذ. كدت أنسي كيف سأشحن هاتفي المحمول هنا دون شراء محول صغير من أحد المحلات القريبة.
كان هذا كل ما أردته لليوم، أحتاج الآن لقسطٍ طويل من الراحة، لم ينعم جسمي بمتعة النوم على سرير مريح طوال 30 ساعة تقريبًا. كانت غرفة الفندق مريحة أيضًا، لكني في حقيقة الأمر لم أعر اهتمامًا سوى للنوم، لذا لم أستطع تفحصها كلها. كل ما شعرت به حينها كان سعادة صافية لوصولي هنا. كنت متحمسة لليوم التالي، وأنا أبدأ رحلة لا أعرف إن كانت ستتكرر ثانيةً أم ستكون المرة الأولى والأخيرة لي هنا.
حان وقت النوم، وكدت أنام بملابس السفر. لكن لا بأس. تحاملت على نفسي لتغيير ملابسي وارتداء بيجاما النوم وضبط المنبه.
استيقظت مع بزوغ الشمس قبل أن يرن المنبه، لم أفهم السبب إلا عندما تكرر ذلك أكثر من مرة، بل واستيقظت في أيامٍ تالية في منتصف الليل. يبدو أن ساعتي البيولوجية ترفض الاعتراف بتوقيت أمريكا وما تزال متمسكة بتوقيت مصر.
قلت لنفسي إنه من الأفضل على أي حال أن أنهض لأستعد مبكرًا وأقرأ برنامج الزيارة والجولة التي ستصطحبنا فيها مرشدة سياحية متطوعة لتعرفنا على معالم العاصمة الأمريكية.
أمام الفندق، وفي الوقت المحدد، يقف أتوبيس أسود فخم يقوده سائق روسي، تعرف ذلك وحدك من ملامحه دون أن يخبرك أحد. إنه يوري. «أهلا وسهلا»، هكذا استقبلنا بكلماتٍ عربية تعلَّمها ليرحب بنا، ولكي نرد له الجميل، علمناه كلمة «شكرًا»، التي ظل يرددها معنا طوال فترة مرافقته لنا بواشنطن العاصمة.
في أمريكا، يتأخر بعض الناس عن مواعيدهم مثلنا، بعضهم لأسبابٍ عادية مثل إشارات المرور أو عدم دقة تبليغ موعد المقابلة، وغير ذلك مما قد يعتبره البعض أسبابًا حقيقية أو مجرد مبرر لا أكثر.
تأخرت المرشدة السياحية في الوصول، فاتفق معها معتز على أن تلحق بنا إلى البيت الأبيض، وفي الطريق ذُهلت عيناي من جمال الشوارع، فالنهار مبصر فعلًا. رأيت مبانٍ رائعة الجمال ذات طراز فريد، ولم أرَ ناطحة سحابٍ واحدة. أي مهندس معماري يزور المدينة سينبهر بها، فما بالكم بشخصٍ عادي أزعجت عينيه المباني غير المتناسقة والعمارات المخالفة.
كان يجب أن نسير بعض خطواتٍ علي قدمينا بعد أن أوصلنا يوري لأقرب نقطة للبيت الأبيض. الجو شديد البرودة، الغيم كثيف، لكن القلوب دافئة. ففي البرد القارس تجد رجلًا مسكينًا بلا مأوي يجلس جانبًا، لكنه يرتدي معطفًا من الفرو الثمين. كل ما جال بخاطري حين رأيته، أن سيدة ثرية مرت بسيارتها من هنا لتضع المعطف بلطفٍ على كتف الرجل ثم رحلت في هدوء.
أمام البيت الأبيض، وجدت خيمة صغيرة لفتت انتباهي لأنها كانت الوحيدة من نوعها، ولوجود قانون يمنع تواجد مثل تلك الخيام أمام البيت الأبيض. ثم لاحظت أن رجلًا أسمر البشرة يجلس بداخلها ويضع علمًا إلى جواره، ويلتقط الناس الصور معه، وبالطبع أثار فضولي هذا المشهد لمعرفة قصته، فإذا بالقصة تعود إلى أكثر من ثلاثين عامًا مضت.
السيدة كونسبسيون توماس
لهذه الخيمة قصة، بطلتها سيدة إسبانية تدعي السيدة كونسبسيون توماس.
أقامت هذه السيدة الخيمة في عام 1981 قبل إصدار قانون يمنع ذلك، وبالتالي لم يُطبَّق عليها. كانت تجلس بداخلها لتدافع عن قضايا إنسانية، وقد ركزت مؤخرًا علي قضية فلسطين. لكن أين تلك السيدة؟
أخبرتنا المرشدة السياحية التي وصلت لتروي لنا تفاصيل أخرى مستعينة بالأسماء والتواريخ أن تلك السيدة توفيت مؤخرًا، وإنه إذا تُرِكت الخيمة دون وجود شخص فيها فسوف تُزال ولن يتمكنوا من إعادتها لأن القانون سيُطبَّق عليها في تلك الحالة، لذا جلس هذا الرجل مكانها لاستكمال مسيرتها ودفاعها عن القضية الفلسطينية، فتجده يضع علمًا فلسطينيًا ويلتقط الزوار معه الصور التذكارية، ولأنه يصعب علي شخص واحد المكوث بالخيمة 24 ساعة يقظًا، هناك أشخاص يعاونونه من أجل استمرار الفكرة والتظاهر السلمي، والحفاظ على حلم سيدة عظيمة كانت تحلم وتنادي بالسلام والأمن لكل العالم.
ما أجمل التقاط صورة تذكارية مع رجل لا ينتمي لعالمنا العربي ولكنه يدافع عن قضية تهمنا جميعًا.