القاهرة 06 فبراير 2018 الساعة 09:54 ص
رواية (الطليانى) للأديب التونسى شكرى المبخوت، فازتْ بجائزة البوكرالعربية- عام2015. عن دارالتنويرللنشر-عام 2015.
تتناول الرواية الواقع الثقافى والسياسى لتونس، منذ فترة حكم بورقيبة، حتى انقلاب زين العابدين بن على. عبد الناصرهو محورالرواية (وقد تعـدّدتْ الروايات حول اسم شهرته- الطليانى- بين جمال وجهه وملامحه الإيطالية أوتوحم والدته على أحد الأوروبيين) وعندما دخل الجامعة طالبـًــا انضمّ إلى اليسارالتونسى. وكان يندهش عندما يسمع بعض (الرفاق) يُـقسم بحياة ستالين. وشـدّتْ شخصية (زينة) انتباهه عندما سمعها وهى تتهم اليساربغياب العمق الفكرى، والاكتفاء بقوالب جاهزة حول نمط الإنتاج..إلخ. وسمعها وهى تــُـمجد (كاوتسكى) وتــُـهاجم (لينين) الذى انتقد كاوتسكى. ولم يسمع بهذه الأسماء من قبل. وفى نفس الوقت سمعها وهى تشيد بالمفكرالتونسى (العفيف الأخضر) صاحب أدق ترجمة للبيان الشيوعى للغة العربية. وبعد أنْ تعرّف عليها أبدى إعجابه بثقاقتها العميقة. واعترف لها بأنه تعلم الكثيرمنها. مرّا بتجربة حب حميمية ثم تزوجا زواجـًـا لم يدم إلاّسنتيْن.
زينة تونسية/ أمازيغية. من أسرة فقيرة ولكنها شقـّـتْ طريقها بنجاح لدرجة أنْ حازتْ لقب (الفيلسوفة) رغم صغرسنها. ولأنها كانت تهتم بالفلسفة أكثرمن السياسة، وتختلف مع اليساريين، لذلك هاجمها الطلاب البعثيون، واتهموها بتعدد علاقاتها الجنسية. دافع الطليانى عنها وعن المرأة العربية التى ظلمتها الثقافة السائدة، الرافضة لمشاركة المرأة فى النضال أوالتعبيرعن آرائها لتكون بمثابة الند للند مع الرجل، مع ضرورة النضال ضد الإسلاميين الظلاميين. وكانت زينة تخطب فى الطلبة مُـنـدّدة بالحركات الفاشية ذات المشروع الدينى الاستبدادى. كما هاجمتْ اليسارلمركزيته المُـفرطة. والتشرذم السرطانى لليسارالبيروقراطى. ورفضتْ الاحتراف الحزبى السياسى حفاظــًـا على استقلال شخصيتها. واتهمتْ اليساربالجهل بالماركسية. وعندما اتهموها بأنها تروتسكية سخرتْ منهم. وهاجمتْ الطلبة الإسلاميين وقالت لهم: أنتم تتحدثون عن هوية ميتة. وطلبتْ منهم القراءة قبل الأيديولوجيا، لأنهم يُـقـدّسون الأفكارالمُـحنــّـطة. وأنّ اليساريين والإسلاميين لايختلفون إلاّفى التوجه، بينما الحقيقة أنّ لكل منهم ((جهله المقدس)) وكانت ترى أنّ المثقف الحقيقى هومن ينقد دون حسابات. ينقد كل شيىء. يطرح الأزمة بالسؤال والاستفهام. يـُـخلخل السائد.
تعلــّـق الطليانى بها أكثر، خاصة بعد أنْ طالب بعض اليساريين بضرورة تصفيتها ((هذه العاهرة يجب أنْ تــُـزاح)) وقال بعضهم للطليانى ((ألم تقرأ أدبيات العنف الثورى؟)) وهكذا صاغ الروائى مشكلة اليسارالطفولى بشكل روائى بديع. وحتى الطليانى الذى تغيـّـربعد الزواج وأصبح صحافيـًـا مشهورًا ويسعى لمجده الشخصى، رفضتْ أنْ يستعبدها المناضل الثورى الذى ترك الثورة ليـُـطبـّـع مع النظام السائد ويعمل كلب حراسة فى أحد أجهزته الأيديولوجية، فى صحيفة ناطقة باسم الحكومة مهمتها تبريرسياسة القمع والاستغلال. وعندما قال لها: معنى ذلك أننى خائن؟ قالت له: لا. معنى كلامى أنْ تتوقف عن ادعاء الثورية والنزاهة. أنت بورجوازى صغيرتبحث عن مصالحك. الثورية عندك قشرة إذا كشطناها بانتْ حقيقتك الرجعية. وعندما اكتشفتْ خيانته وعلى فراشها قالت له: لايهمنى ماذا تفعل. فقط أطلب شيئيْن: ألاّيتم فى فراشى، وألاّتضعنى فى وضعية مُـحرجة مع نسائك. وعندما أنكرقالت: انتهى الموضوع. أنت حروأنا حرة. وهكذا رسم المبدع شخصية زينة بشكل فنى بديع.
000
ورغم أهمية الدورالتحديثى الذى أدخله بورقيبة على الدولة التونسية، فإنّ المُـبدع ألقى الضوء على الجانب الخفى من سياسة بورقيبة الذى فرض الرقابة على الصحافة. وأنّ مسئول الرقابة مهمته الحفاظ على النظام البورقيبى العتيد. وأنّ البورقيبية تنقصها الديمقراطية. ولذلك كان طريق الانقلاب عليه سهلا، وقاده وزيرداخليته بن على، فانقلبتْ الصحافة من تمجيد بورقيبة إلى تمجيد الدكتاتورالجديد. وحتى الشعب التونسى كان شعاره ((الله ينصرمن أصبح على الكرسى)) وعندما قال الطليانى أنه انقلاب فردى، رد عليه مديرالتحرير: هناك موافقة من الخارج ولاشك. وهكذا صاغ المُبدع التحولات السياسية، ودورالدول الاستعمارية فى الانقلابات ودعمها لأى نظام جديد يـُـنفــّـذ سياستها، سواء الاقتصادية أواللوجستية. وبشكل أدبى رفيع لخـّـص المبدع أزمة الشعوب التونسى، فما كان بورقيبة يخشى منه وقع، فقد اختاربن على ليقضى على الإسلاميين فقضى على رئيسه.
وفى عهد بورقيبة تخلــّـتْ الدولة عن دعم التعليم الجامعى، استجابة لصندوق النقد الدولى. وفى نفس الوقت تواطأتْ حكومة مزالى مع التنظيمات الإسلامية، لضرب التنظيمات اليسارية.
ورغم أنّ نظام بن على تظاهربالديمقراطية وإلغاء الرقابة على الصحف، فإنّ الوضع أخذ شكلا مختلفــًـا، حيث يكون مديرالتحريرهوالرقيب الذى يعرف كيف تسيرسفينة النظام وإلى أين تتــّـجه، فعندما كتب الطليانى بحثــّـا فإنّ مديرالتحريرطلب منه تمزيق بحثه. وقال له ((هل تظن نفسك فى أمريكا أوفرنسا؟)) فقال الطليانى ((ولكن لاشيىء مما كتبته ضد الدولة ومعلوماتى من مصادرعليمة)) فقال مديرالتحريرالمُـحنك ((لاتهم مصادرك. هذه المعلومات ذات طابع أمنى. اسمع يا ابنى. الحقيقة فى تونس لها مصدرواحد هوالدولة. ووزارة الداخلية هى الدولة. والدولة هى الدخلية. ثـمّ ما رأيك لوكانت مصادرك تـُـريد أنْ تتلاعب بك؟)) وأضاف ((نحن الصحافيين لانملك أية حصانة. يُـصادروننى أنا. يُـدبـّـرون لى تهمة. ولك تهمتيْن)) كان بحث عبدالناصر/ الطليانى حول اعتقال قائد الجهازالخاص فى حركة الاتجاه الإسلامى فى أكتوبر87. وعلاقته بالتفجيرات التى وقعتْ. وتأثره بفكرالإخوان المسلمين فى مصر، خصوصًا سيد قطب. وأنّ القائد الإسلامى أعدّ (مشروع البدائل) فى صيف86 بعد أنْ عزل بورقيبة وزيره الأول مزالى. أما عن خطورة بحث الطليانى فلأنه ضمّـنه أسماء المدنيين الذين كانوا على رأس المشروع الإسلامى. والأخطرأنّ البحث ورد به اسم ابن شخصية مهمة فى الدولة، ساهم واشترك مع الإسلاميين فى التفجيرات. ووجود حسابات سرية فى الخارج يُمول بواسطتها ابن الشخصية السياسية التنظيم الإسلامى.
أدرك الطليانى من حديث رئيسه أنّ نظام بن على حريصٌ على إدماج الإسلاميين فى منظومة الحكم. وأنّ الإسلاميين مُــتعاونون ومُــتواطئون مع المؤسسات المالية العالمية ضد الكادحين. وتتحكم فى كل شيىء، وفرصة لركوب الإسلاميين على الحالة الثورية. فقال رئيسه ((التونسيون ليسوا شعبـًـا ثوريـًـا)) وعلى الشعب أنْ يدفع الضريبة ليتعلــّـم أنّ الإسلاميين يكرهون التونسيين. هؤلاء ليسوا أبناء مجتمعنا. إنهم امتداد لتنظيم عالمى وراءه أموال كثيرة، من أجل ضرب النموذج التونسى التحديثى وضرب خصوصية القومية التونسية. إنهم أبناء حسن البنا وسيد قطب والمودودى. جاءوا إلينا مثـلما جاء الماويون والناصريون والبعثيون.
وأوضح المُـبدع- من خلال أحداث الرواية وشخصياتها- أنّ الإسلاميين فى عهد بن على كسّروا القمقم، الذى توهـّـم حزب الدستورالحاكم فى عهد بورقيبة أنه حبسه فيه ((فقستْ البيضة وكبرالعفريت فبدأ بتكسيرالقمقم وارتد على صاحبه)) بينما اليسارالطوباوى يحلم بدكتاتورية البروليتاريا والاطاحة بالنظام مثله مثل الإسلاميين المُـتسترين بالدين. ومن أجل مغازلة الإسلاميين طلب مديرالتحريرمن الطليانى حذف ترجمته لبعض الفقرات من كتاب (طبائع الاستبداد) للكواكبى، لأنه يوحى باستبداد الزعيم الأوحد فى أى نظام.
ولكن كيف انتهتْ حياة الطليانى (محورالرواية الأول) والذى بدأ مشواره يساريـًـا؟ فبعد أنّ صارصحافيـًـا شهيرًا وحصد المال الكثير، وعاش عيشة المُـرفهين، تغيـّـرالحال وتعـدّدتْ علاقاته النسائية. وعندما نصحه رئيسه بتمزيق البحث الذى أشارفيه إلى (المشروع الإسلامى) إذا به يندم ويلوم نفسه ((على العودة للكتابة فى الشأن الوطنى)) وهوالذى أعدّ الملف الخاص لتمجيد بن على بعد انقلابه على بورقيبة. ورغم أنه كان ينتقد الصحافيين (فى فترة نقائه) وشبّههم بالعصابات وأنهم لايقرأون وغيرمثقفين..إلخ أصبح مثلهم يحضرحفلاتهم (فى البداية على مضض ثم ينغمس فى ذلك الوسط الموبوء) وأعدّ ملف تمجيد بن على بعد مرورالذكرى الأولى للانقلاب. وطلب من رئيسه عدم وضع اسمه على الملف، رغم أنه كتب افتاحيته.
أما الشخصية المحورية الثانية فى الرواية (زينة) فقد كانت بدايتها تــُـنبىء بفيلسوفة قديرة كما قالت لها مشرفتها على إحدى رسائلها الجامعية، ولكنها انتهتْ نهاية مُـغايرة تمامًـا، حيث اتهمها خصومها بأنها ((تسلــّـمتْ من السفاح بن على جائزة رئيس الجمهورية)) وبعد طلاقها من الطليانى، ارتمتْ فى أحضان عجوزفرنسى فى سن جدها، لثرائه رغم أنه اعتبرها (لعبته) وكانت حـُـجتها أنّ هذا المُـتصابى يسارى الهوى ومن المناصرين لقضايا العرب وعلى رأسها القضية الفلسطينية.
رواية الطليانى جديرة بالقراءة حيث حقــّـقق كاتبها إبداعـًـا جمع بين التأريخ لمرحلة مهمة من تاريخ تونس الحديثة، مع جماليات الكتابة الإبداعية.