القاهرة 31 يناير 2018 الساعة 12:00 ص
عدي يا رحلة
منى لملوم
ما زلنا على متن الطائرة نشاهد السحب ونستمتع بصوت فريد، وبجواري تلك السيدة اللطيفة وزوجها، ما أرقهما وما أجمل قصة حبهما التي لاحظتها من حديثهما وطريقة عناق أيديهما، كيف يحمل لها وعنها صينية الطعام التى يقدمها المضيف، ويضبط لها المخدة الصغيرة وراء ظهرها، لكن هذا الحب لم يكن حكرًا عليهما، فلم يكن لديهما أي مانع فى أن يشاركوا الآخرين قدرًا منه، فها هي السيدة تلاحظ أني ربطت حزام الأمان بطريقة خاطئة، فإذا بها تعدل من ربط وثاقه عليَّ بيديها، وتقول لي بأسلوبها اللطيف: «لو ربطناه من هذه الجهة سيكون أفضل»، تعمل هذه السيدة الشقراء ذات العينين الملونين والقلب الحنون بإحدى الجامعات في بلدها، كم أحسد طلابها عليها!
كان زوجها أيضًا متعاونًا وودودًا بشدة، يتحدث بصوتٍ هادئ لا يكاد يُسمع، فلم يكن يريد إزعاج بقية الركاب لأن أغلبهم كان نائمًا، كان الوقت متأخرًا، وما تزال رحلتنا طويلة.
عند اختياري للرحلة، كنت أعلم أني أوفر بذلك سبع ساعاتٍ لفارق التوقيت بين مصر والولايات المتحدة، وكنت أعلم أني سأخسرهم ثانيةً عند العودة، لكن ما لم أكن مستعدة لخسارته، كانت حياتي.
بعد مرور بعض الوقت على الرحلة، سمعت تنبيهًا بالفرنسية تبعه آخر بالإنجليزية باللكنة ذاتها: «اربطوا الأحزمة، ينوه الكابتن عن.. » لم أستوعب كل ما قيل لكن أذكر بوضوح شعوري بالخطر وقتها، خاصةً حين رأيت المضيفات يسرعن الخطى دون أن أعرف إلى أين، لكني أذكر حركاتهن المرتبكة من حولي، لذا استوقفت إحداهن لأسألها ما الأمر؟ فقالت: «اطمئني، شيء بسيط»، لكن ما بدا على وجهها لم يكن مطمئنًا على الإطلاق، وبدأت حينها في البكاء ونظرت إلى السماء، يارب، هذه أول مرة أغادر مصر، هل سأموت على متن طائرةٍ ترتفع عن الأرض آلاف الكيلومترات؟
تذكرت أمي وجميع أفراد أسرتي، لم أكن أعرف ما الذي يجدر بي فعله، هل أكتب لهم رسالة؟ لكن كيف ستصلهم رسالتي إذا تحطمت الطائرة، أو سقطت فى أعماق المحيط. لحظات من الفزع الحقيقي جعلتني أتمنى وقتها لو أني لم آخذ قرار السفر قط، ورغبت لو أن شخصًا خارقًا جاء ليحمل الطائرة على عاتقيه وينزلها إلى الأرض بأمان، ثم يحملني إلى بيتي وعائلتي.
لم أدرِ كم مر من الوقت حتى زال الخطر وبدأ شعوري يتحسن تدريجيًا بعد أن كادت دقات قلبي تتوقف من الخوف.
في مثل تلك الظروف، قد يفكر الواحد منا في تناول أكلة لذيذة أو بعض الشيكولاتة لتحفز قليلًا من إفراز هرمون السعادة في دمه، لكني لم أتخيل أن ما كنت أسمعه عن طعام الطائرات حقيقي، فكان مذاقه أسوأ من طعام المستشفيات دون مبالغة، إلا أن لطف بعض الركاب جعلني أنسى مدى رداءة الطعام.
كانت هناك سيدة تجلس على مقربة مني وتحمل بين يديها طفلًا لا يمكنني وصف مدى جماله وخفته، تركته أمه يلعب ويتحرك حولها قليلًا حتى لا يمل ويبكي فيزعج الركاب، بدأ يداعبني وبدأت بدوري أحادثه قليلًا، فأنستني رقته كل خوفي وهمي، وددت لو استأذنتها أن تتركه معي لباقي الرحلة، وكنت سأعدها بأني سأعتني به كل العناية.
على الرغم من وجود نظام تدفئة، كان البرد شديدًا على متن الطائرة، فمع كل هذا الارتفاع الشاهق تنخفض درجة الحرارة. كانوا قد وزعوا علينا غطاءً يُفترض أنه بطانية، لكنه كان خفيفًا جدًا فبدأت في وضع البالطو على كتفي، حتى أني جلست جلسة الكاتب المصري القديم فصار شكلي مضحكًا، وبدأت بالفعل أشعر ببعض الدفء.
«عدى يا رحلة»، هكذا قلت لنفسي، فإذا بالطائرة تستجيب لندائي وسمعت قائد الطائرة يطلب مرةً أخرى ربط الأحزمة، فنحن على مقربة من المطار.
لم أكد أصدق نفسي، هل هذا حقيقي؟ هل سأصل إلى الأرض أخيرًا بسلام؟
حين وطأت قدمي أرض المطار استعدت المشهد السينمائي الشهير للمغترب العائد إلى وطنه فقبل أرضها، إلا أنني تذكرت أني لم أعود لوطني بعد، وأن كل ما تمنيته أن ألامس بقدمي أي أرض بعد ما ممرت به في الطائرة.
تحركت بالحقيبة الصغيرة الوحيدة التي سمحوا لي باصطحابها معي على الطائرة، وبدأت في التحرك لاستلام باقي حقائبي وإنهاء الإجراءات، فسألني الرجل المسؤول عن الأختام عن سبب الزيارة، ومكان الإقامة ومدتها.
ثم استقبلني بمطار العاصمة الأمريكية واشنطن دي سي معتز الشهاوي، زميلي المصري المسؤول عن الترجمة بالبرنامج، وبدأ فضول الاكتشاف يتسلل إلى نفسي، فإذا بي بعد سفر يقارب الثلاثين ساعة ولا أريد أن أضيع الوقت، كانت رغبتي بالتجول في الشارع ومشاهدة الوجوه تتجاوز أي شعور بالإجهاد كنت أحس به وقتها. أدركت حينها أنني بالولاية التي تضم أكبر مكتبة وأضخم عدد من المتاحف في العالم، والبيت الأبيض المكان الذى يُدار منه كل شيء؛ لكن كان الوقت متأخرًا، لم يُسمح لنا سوى بجولة قصيرة حول الفندق أعود بعدها إلى غرفتي لأنعم بقسطٍ من الراحة تهيئني لرحلتي الطويلة بالغد.