القاهرة 23 يناير 2018 الساعة 12:09 م
بقلم: محمد عطية محمود
مزدحما كان قطار الضواحي.. بطيئا يأكل الأرض.." أحمد حميدة"
تمثل مجموعة " مدن وضواحي " اتجاها وخطا من الخطوط الرئيسة في مشوار الكتابة القصصية للقاص السكندري " أحمد محمد حميدة "، بما تعبر به عن رؤية واقعية تتعانق مع بعد اجتماعي ونفسي.. تمثل تفاصيل الهامش، المرتبطة بجغرافيا المكان المتنقلة بصوره، عبر الخطوط الطولية المتوازية، والمتقاطعة التي يقطعها قطار الحياة مع فعالياتها، وثوابتها المرتكزة إلى واقع صرف، من خلال علاقات الشخوص التي تخلق حركة هذه الحياة، مع حركة الخلق التي تبعثها النصوص في المكان/ الجماد/ وسيلة الانتقال، ليصير ذا حس إنساني يشارك في صنع حدث أو يصير بوتقة لحدوث فعل الحياة الموازي، في صورة من صوره المصغرة، ومن خلال المعنى الذي تمثله الحافلة/ القطار/ الترام، ومن خلال مفرداتها الدالة على سير تلك الحياة بصورة ما أو بأخرى، تتقاطع في نفس الآن مع أرض الواقع / جغرافيا المكان الثابتة، وتقطعه في تلك المسارات الطولية المحددة الاتجاه، لكنها تحمل معها هم العلاقة العكسية التي قد تنشأ مع هذا الكيان، ومن خلال نماذج دالة على الاستلاب بوقوعها في نطاق تأثيره البالغ، حيث تحمل الشخصية المستلبة بنماذجها المتعددة الواقعة تحت تأثير الحالة الاجتماعية والاقتصادية السيئة، عبء مواجهة الواقع الصعب بمفرداته وسماته.. من خلال هذا الطرح / المعالجة، التي تناول الكاتب بها أعماله على مدار عطائه القصصي المتميز، لتبرز منها تلك النصوص الدالة على الحياة والمتشبعة بتفاصيلها حتى النخاع.
ويبرز من بين تلك النماذج نموذج المرأة / الأنثى التي ربما توازت مع معنى الأنثى/ الحياة، التي تبحر في هذه العلاقات مع الحياة من خلال اتجاهات سيرها العكسية التي تتقاطع وتتماس مع همومها الذاتية، ومن خلال تلك البوتقة المتحركة، لتموج بالناس، ولتمثل المعادل الموضوعي للحياة، والتي تنطرح بلا شك لتعالج المفهوم العام لتلك المعاناة، وذلك الألم، فثمة نصوص مثل: " قضبان الروح"، " ظل باب"، و" الوليمة " تتعانق وتتلاقى على مستوى تكامل الرؤية، على الرغم من كون كل نص منها يمثل وحدة / حالة منفصلة لها معطياتها الداخلية التي تميزها عن الأخرى، و لكن قد تجمعها بعض العناصر الدالة على هذا الالتحام أو هذا التكامل، أو الاشتغال على تيمة من التيم النفسية والمادية، واللعب على وتر الفقد والحرمان، والرصد الدال على فعاليات حياة الهامش.
عندما يُختزل الكون في قطار
يطرح الكاتب نموذج المرأة العمياء في نص " قضبان الروح " على نحو نفسي دال يحوم في فضاء النص، يملأ مساحاته الفارغة بفعل الاستعاضة عن فقد نعمة البصر، بتلك الروح المعافرة التي تتكيء على عيون الصبي / الولد المرافق لها في رحلة الكفاح اليومية المجهدة، والذي قد يمثل في ضميرها المعادل الموضوعي للأمان المفتقد في هذه الحياة المتحركة بها، وهي في حال السكون الجسدي، المشتعل بالداخل بهوس الرغبة في التطلع إلى مفردات العالم الخارجي للحياة من خلال عيون ذاك الطفل / الرمز / المعادل، من خلال الاشتباك مع الواقع/ المجموع من خلال وجودها اليومي بالقطار:
" ركاب أخر الخط مألوفو الوجوه، حاملو القطار على الكواهل.. يلمحونها تقريبا كل يوم.. لكن لم يكونوا يعرفون من أية محطة تركب العمياء وطفلها المبصر" ص77
يؤسس النص هنا لسمة الاعتياد التي تميزه، وتجعل من الحالة النصية حالة آنية مستمرة دالة على تفاصيل الواقع الذي يطرح مجتمعا من الناس تتعلق مصائرهم بهذا القطار الذي يتجه بأبدانهم وعقولهم كل يوم في اتجاه ذهاب / إياب ممض لا يقطعه إلا تلصص بعضهم على بعض، وتلصصهم على الواقع المحيط خارج نطاق هذا القطار، الذي ربما مثل نموذجا وكيانا معنويا قبل كونه جماد يحملهم، ولكنهم يحملونه على كواهلهم المجهدة ـ بحسب تعبير النص البليغ ـ نفسيا ومعنويا، بما يؤصل تلك العلاقة الأزلية بين هذه المجموعة من البشر وبين الحياة التي يحمل القطار رمزها الدال ..كما تشكل المفارقة التي تصنع التكامل المنشود بين الأم بعماها، والطفل بإبصاره:
" طوى الولد شعور الضجر.. آن له وقت الجلوس القسري والإجابات المبتورة.. تلقي أسئلة الرتابة.. تمد الأذن كوعاء يتوجب عليه ملؤه." ص78
يبرز النص تفاصيل العلاقة بين الأم والولد على نحو من الالتصاق الملول المنشطر بين حركة الولد الخفيفة الخفية، البعيدة عن إبصار الأم، وسكونها وهمودها داخل القطار، الذي يلعب النص على المفارقة بين حاله ( القطار) وحالها، فيما تتوافق حالة القطار نسبيا مع حالة الولد الذي يظل يتحرك ليملأ الفراغات التي تتركها الأم بعماها في فضاء النص، وما بينهما هذا التلاحم المطل على سمات المكان المتسارع في ركضه وهروبه منهما على جانبي طريق القطار، والدال على تفلت الحياة من بين يديهما من خلال حوار دال بين الأم والولد، ينفلت منها الولد/ الأمل في الحياة/ المستقبل على أثر غفوتها وانقطاع الحوار معها:
" حين تتكاثر أسئلته، يغزوها السكون. يدرك بأنها قد اكتفت، فوجهها انبسطت أساريره تهدلت شفتها السفلى وتثاقل رأسها وترنم لتبدأ الدخول في نوبة غفوة.. " ص81
لكن الهاجس المقبض الذي يشعل ارتباطها بالحياة وبالولد، كمعين وكبديل من بدائل إحساسها المبتسر/ غير الكامل، بالحياة، وكعنصر من عناصر وجودها يظل مكبلا وجودها المرتهن بحركة القطار التي لا تهدأ، حتى في غفوتها التي خرجت منها باحثة عن الولد الذي شعرت بعدم وجوده وانفلاته من قبضة خيالها :
" رفعت الرأس نحو مصدر الأصوات المتشابكة بتكاثر عنيد مستعيدة بكل الحواس تلك الصرخة الوامضة التي اغتيلت كما اغتال الهمد الوحشي أعضاء البدن.. نهضت ممددة الذراعين. تتحسس أبدان الركاب وأعمدة الممر، وظهور الكراسي. ارتاح القطار على القضبان.......
انقباض القلب يدفع البدن على التقدم للعربة الثانية..
ـ ولد يا حسن..
رويدا يعلو صوت النداء.. فالعربة الثالثة.
ـ ما حدش شاف حسن ؟ يا حسن.. تجس أبدانا متناهية في صمتها العجيب، كالنائمين كانوا.. حسن لم يجب على النداءات" ص 84، 85
هنا يبرز النص حالة الانتفاضة التي تقاوم بها المرأة هذا الحس بالخواء وافتقاد الولد، وفقد عملية التواصل مع خارجها هي داخل هذا القطار الذي تحول إلى نموذج مصغر موحش للحياة بالنسبة لها، والذي لا تني تتوقف عن التماس هذا الأمن فيه :
" خُيِّل إليها أن صوتها المنادي الأسيان سوف يشحن الجو كله.. يصعد لعنان السماء.. يطغى على صوت الصخب والبشر.. فيبحث معها الجميع عن حسن " ص85
تأتي هنا الرغبة في الاندماج مع البشر المنعزلين عنها للتأكيد على تطابق سمات الحياة الموازية التي يمثلها القطار بالنسبة لتلك الشرائح المجتمعية ككل، مع سمات واقع المجتمع العام داخل بوتقة الحياة بأسرها، فانقطاع الوصل هنا قائم بنفس القدر من بشاعة انهيار العلاقات الإنسانية في متن المجتمع العام، ولعل هذا ما راهن عليه النص وكرَّس له، وشحذ له قوى الدهشة المباغتة حين اغتال القطار نفسه الولد/ الأمل الباقي لهذه المرأة في الحياة بمفهومها العام، وهي لا تدري، في علاقة عكسية بين معنى الحياة المتمثلة في حركة القطار الدائبة، وعملية الاغتيال / الهرس التي مارسها القطار، ربما مثلت معنويا الاستلاب والفقد والقهر الذي ربما مارسته الحياة بشقها الظالم الأعمى الذي لا يهب بقدر ما يأخذ ويسلب، وليتوازي أيضا عمى المرأة مع عمى القطار في مفارقة أخرى من مفارقات النص.
" ربما تساءلوا في لحظة الهرس المباغتة، لحظة وقوع الحادث وانطلاق الصرخة.. لحظة لم تدركها المرأة الهائمة...... أُشيحت وجوه النساء اللواتي سمعن ورأين نحو الجانب الآخر في تقزز أرعد القلوب وأطبق عليهن صمت ... " ص87
هنا تأتي المفارقة التي برع الكاتب في إلباسها ثوب الغيبوبة والتيه الذي تلبس المرأة وتمادى فيه إمعانا في البؤس وتأثير إحساس الفقد، الذي يكتنف حياة تلك المرأة داخل القطار وخارجه، مؤكدا على شمول المعنى الذي يرمي إليه النص، ليسقط تلك السمات على واقع المجتمع / الشعور الجمعي المغيب، والذي ينسلخ عن المأساة بمجرد حدوثها وضياع تأثيرها على النفوس، لينفرد النص بشخصيته المستلبة، لتعانق فراغ حياتها من ذاك المعنى وذاك الرمز الذي هرسته عجلات القطار، ففقدت دليلا ومؤنسا وباعثا على الشعور بالحياة وأنسها
" فوق الرصيف كانت تتحسس الفراغ المختنق بالقيظ الجاثم فوق النهار.. بلهف تصغي لعودة الصخب.. تهرول بعشوائية " ص 88
***
ربما تماهت ثنائية العلاقة بين المرأة وابنها في هذا النص، مع العلاقة التي يحدثها نص " ظل باب "، بين نموذج آخر من المرأة ونموذج آخر أيضا للابن الملازم لها في رحلتها للحصول على باب تستظل به، وتخفي عورتها خلفه، والباب ربما توازى مع السند / الستر/ الأنس المتواري في وجود الولد في النص السابق.
" أسرع واحد وتناول منها الباب. انحنت هي بالخارج. فانزلق الباب قليلا بمعرفة دحرجة الرأس ودفع اليدين ليستقر أخيرا بجوار ظهر أحد المقاعد المتاخم للباب القطاري المفتوح" ص 102
هنا تبدو المعاناة التي تقابل المرأة من أجل الحصول على الباب مختزلة في الطريقة التي يعرض بها النص فعاليات هذه المحاولة للحاق بركب القطار وحجز مكان فيه للباب الذي يمثل معادلا موضوعيا لمعنى الستر والأمن بالنسبة لتلك المرأة التي تمثل نموذجا للمرأة المكافحة، والتي يلقي بها النص في خضم هذا المعترك الذي لا يؤمن بحقها في هذا الستر، وهو ما يدلل عليه هذا المشهد الراصد لعلاقة سلبية بين المرأة / الإنسان، والآخر/ المحصل، المنبثق من نفس بوتقة وجودها ووجود الفئة التي تكافح على هامش هذه الحياة:
" اعتدل الجسد المنساب ارتياحا. نهضت تنظر بوجل عبر زجاج النافذة المكسور لوجه المحصل.
ـ الباب ده بتاعك..؟
قالت بابتسامة تضمر توقع الأذى:
ـ أنا ساكنة في عزبة في المندرة.. البيوت هناك من غير أبواب.. يخليك." ص103
ليندلع الصراع بين تلك المرأة وذلك النموذج من الآخر الذي يعترض طريقها ولا يؤمن بمعاناتها برغم وقوعه في حيز هذا الهامش من الحياة، بل ويمثل عنصر طرد وإقصاء لتلك المرأة من الوجود المؤقت بهذا القطار من أجل الانتقال إلى ممارسة حقها في الحياة والستر، ومن حق الاستفادة من تعاطف مجتمع القطار الصغير معها، بمحاولة إخراجها من نطاق هيمنته وسيطرته، كنوع من الممارسات السلطوية القامعة التي تقوم بها رموز مجتمعية لا تبتعد كثيرا عن دائرة الهامش:
" انكمشت المرأة وراء الباب. قال المحصل وقد اختنق بالغيظ:
ـ يعني انتو أجدع مني.. لازم هي اللي تدفع الفلوس علشان تعرف إن الأمور مش سايبة.
لكن الأيدي اندست برفق ملول إلى قيعان الجيوب.. أخرجت قروشا.. في حين تخاذل بدن المرأة إلى جوار الولد مختلجة الشفاه، مترقرقة الدمع، تولي ظهرها للباب والمحصل والقروش التي امتنع عن أخذها" ص105
يُحكم النص هنا دائرة الحصار حول هذا النموذج المستلب / المرأة التي تعاني من وطأة النظرة السلبية تجاه طموحاتها البسيطة، والرغبة في تحقيق حلم أبسط وهو الستر، مما يلقي الضوء على صراعات المجتمع الذي يزخر بنماذجه الهامشية، والتي قد تمارس لعبة السلطة من داخل بوتقة الهامش، على نحو علاقات معقدة تتعامل مع قانون الحياة ومواده الصلبة الجامدة، دون محاولة النظر إلى الأمور بروح ميزان الرحمة والتعاطف واحتواء الآخر الذي هو من نفس الشريحة والفئة التي تعاني.
فالمرأة التي ألقي بها في منتصف الطريق إلى موطن سكنها الفاقد للستر، والتي تتمسك به برغم كل تلك العوارض التي تعترض حياتها وترضي به، لكنه جدير بأن يكون حلما له حق الوجود والتحقق على أرض الواقع، برغم القمع والإقصاء، تتوحد مع ابنها ـ الذي يمثل هنا دور الشريك والمتواجد معها في نفس الخندق بنفس درجة التورط في الحلم والطموح ـ مع الباب في مشهدية مؤثرة دالة على عدم التخلي عن الرغبة في الحياة، وإن لفظهما هما وبابهما منها القطار، وبما يمثله (محصله) من معادل للآخر الذي قد تخلق وجوده حالة من عدم الاتزان والتوافق مع عناصر الحياة الواقعة في نطاق مجتمعه الهامشي:
" يتباعد الرصيف.. يخلو من البشر. ليبدو مقفرا.. إلا من باب مصلوب بالمنتصف يواري امرأة وطفلا بعيدين " ص106
ليشيع وجود الباب في هذه المساحة الخالية نوعا من الحياة والوجود الضافي بوجود المرأة وابنها في ظله، وإن كان في خواء موحش، إلا أنه يمثل رمزا للستر الآتي؛ فيبدو هنا الحلم جديرا بالتحقيق واكتساب الشرعية، في نهاية ربما ارتبطت عكسيا مع نهاية النموذج الأول الذي فقدت فيه المرأة ولدها، في حين احتفظت امرأة الباب هنا بظل بابها الجديد، والتمسك بالحلم بالستر مع ابنها الذي يرافقها وما يزال معها في رحلة كفاح جديدة للوصول بالباب / المعادل الموضوعي لحق التمتع بظل الحياة وسترها، إلى حيث تسكن، فهل يتحقق لها سترها وأمنها؟؟ .. ذلك من التساؤلات العصية التي يطرحها النص بشدة وإلحاح..
***
في ذات المدار، تبدو النتيجة الحتمية لتداعيات الحياة، وضغط تفاصيلها على الذهن المرهق بمتطلباتها والكفاح بدروبها من خلال نموذج آخر من النماذج التي تبرز فيها المرأة ودورها الفاعل في هذا الهامش / هامش الحياة المكتظ بالعديد من المفارقات والإحالات النفسية التي تسوقها حالات اجتماعية صعبة يلعب فيها الاحتياج إلى عناصر بهجة الحياة دورا في تشكيل الذوات المتعبة، والضغط عليها من زوايا عدة، فامرأة نص " الوليمة " ربما توفرت لها القدرة على تحجيم الأحلام واختزال المتطلبات في محاولة إشاعة البهجة في جذر من جذور الحياة لديها، والمتمثل في أمها التي يبديها النص كشخصية ظل تحرك العلاقة المتوترة، والحانية في ذات الوقت بين الأم وأبنائها المتجهين معها لزيارة الجدة والاحتفال بها، وهم يتحرقون شوقا وحرمانا إلى ما تجلبه الأم لتهدي به الجدة، في مفارقة من مفارقات المواقف الإنسانية التي تتأرجح فيها الموازنة بين المتاح والمطلوب توفيره لهؤلاء الصغار تحت ضغط الاحتياج، ومحاولة الاحتفاظ بالعلاقة الوطيدة بالجذور، فالشخصية المستلبة هنا واقعة تحت تأثير حركة شد وجذب فيما بين حنين الماضي المتمثل في الجدة، وعنفوان المستقبل الذي يمثله الأطفال المحرومون من تلك البهجة !!
" من بين المندفعين صعودا, والمندفعين هبوطا ركبوا قطار الضواحي، كطابور صغير متدافع.. الأم وخلفها الصبي.. حامل العلبة، والأخوان.... " ص107
يؤصل المشهد الاستهلالي للنص، لعملية التنظيم والدربة التي تعامل بها المرأة / الأم الشابة أولادها، وتكرس لها بإلزامهم بالسلوك التراتبي الدال على الخضوع والركون إلى الاستسلام من الأولاد، والذي يقابله الحرص الشديد من الأم على توطيد دعائم استمرار الحياة بتلك الموازنة، لكن الشعور الجمعي للأولاد الصغار يتحرك ليزيد من توتر هذه العلاقة ـ شبه المحكمة ـ التي تديرها الأم برغبتها في التواصل مع أمها، وإن كان على حساب أولادها الصغار!!:
" أدنت الطفلة فمها من أذن أمها الذي تقارب..
ـ ماما.. هي ستو راح تاكل من العلبة الليلة.. يعني ممكن تفتحها النهاردة..؟
تجهمت ملامح الأم.. أومأت تقول بنهر خافت:
ـ عيب .. اسكتي.. هدية ناخدها منها؟ عيب..
كان الطفل الواقف بين الساقين يصغي.. قال:
ـ ممكن بابا يشتري لنا علبة زيها.. ؟ " ص109
تبدو هنا دواعي الحرمان التي يعاني منها الأطفال، من خلال هذا التوتر الذي تؤكد عليه العلاقة القسرية التي تتعامل بها الأم مع أولادها، في مفارقة عجيبة من مفارقات النصوص التي تتعامل مع فعاليات الحياة بنوع من الأثرة والتفضيل غير المبرر، بالرغم من الحالة الاجتماعية والاقتصادية المتواضعة التي يلعب عليها النص، ويؤكد عليها؛ فهنا تواجه رغبة الأطفال الصغار، بعملية القمع التي تمارسها الأم على نفسياتهم، والصراع على ما في داخل العلبة كرمز للاشتهاء إلى ما يبهج ويدخل السرور على القلوب الصغيرة، والتي يفتقدونها في اعتيادهم الممض الخالي من البهجة الإضافية، وذلك من خلال الحوار الكاشف بين الأم وأبنائها، ومن خلال المشهدية المعبرة في ص 110، 111
" نهض الصبي وانحنى.. رفع العلبة برفق وروية كمن يرفع عن الأرض عينا من عيونه. بوقت مد يد الأم وتناولها منه بحرص حزين.. حرص الخائف المتوقع هرس واختلاط ما بداخلها.أحشاءها. موت جنين وفرت له كل أسباب البقاء حيا، اقتطعت له من الأيام نقودا. حملتها بدمع تحجر بالمآقي، دمعات كان لابد لها أن تطفر، ليلحظها العيال الذين تجهموا باكين بصمت. التوت السحنة بعبوس انتقلت عدواها للوجوه الصغيرة المحدقة.. مؤكد اختلطت أحشاء العلبة.. صارت عجينة متعجنة ينفر منها المرء"ص111
هنا تكاثفت المشاعر، وتوحد الجميع في مواجهة سلبية لفقد / تشوه محتويات العلبة التي كانت مثارا لصراع الشفقة والحزم فيما بين الأطفال وأمهم، كأمر مشتهى لا يقلل من أهميته ورمزيته، كونه مجرد (تورتة) أو حلوى، لكنه يماثل المعادل الموضوعي للحلم / الرغبة التي تغتال؛ لتأتي نهاية النص دالة على تحقق حلم الصغار، وإن كان مشوها، متمثلا في شفقة ناقصة تبديها الأم، إنقاذا لنقودها المهدرة، بعد مغادرتها القطار، وتيقنها من عدم صلاحية هديتها:
" .. قطع ملونة تداخلت.. تماوجت.. اختلطت، وشابها لون مزر كئيب.. والعيال ينظرون.. يتحسرون.. وهي تنسل عن صمتها.. زائحة عن نفسها هموم العالم، وتقول:
ـ كلوا يا عيال.. كلوا...
رؤوس تغوص.. وجوه تغوص.. وهي تنظر بابتسامة أسى تلوح على الوجه الصامت. " ص111
ومن خلال نهاية قد ترتبط ارتباطا عكسيا مع نموذج " قضبان الروح "، وربما تخطت نهاية نموذج " ظل باب" من حيث الاقتراب بشدة من مرحلة تحقيق الحلم، ولو على أنقاضه بعد عملية الاصطدام بالسيقان التي واجهتها العلبة/ رمز الصراع بين المتاح والمطلوب تحقيقه كمعادلة صعبة في حياة تلك المرأة / النموذج، وأسرتها الصغيرة.
***
بين الليل، والصخب
مما سبق نجد أن النصوص تتحرك داخل المجموعة على نحو من الدينامية الفاعلة المؤسسة لتلك النزعة الإنسانية الموغلة في صميم الواقع والمعاناة، والمتكاملة على نحو من التتالي الذي يجعل من تلك النصوص شبكة متصلة متوالية إلى حد كبير، بهذا الحس المأساوي المتدرج، ومن خلال ذات البؤرة / القماشة الإنسانية السردية الذي ربما انتقلت فعاليات صورها إلى خطوط أخرى موازية من خطوط سير الحياة، عبر قضبان أخرى، هي قضبان عربات الترام، التي ربما مثلت نموذجا مصغرا من نموذج القطار، فتأتي نصوص مثل " طوق الصخب"، و" طعام الليل" لتؤسس لواقع آخر منبثق من ذات المنطقة الهامشية التي يمتح منها الكاتب مفردات التعامل مع الواقع، من زاوية أخرى راصدة، من خلال نموذجين دالين أيضا من نماذج المرأة التي قد تتماس أو تربطها علاقة عكسية مع نماذج سابقة أتت في سياق معالجة نصوص القطار، ففي نص " طوق الصخب " يبدو نموذج المرأة المتخمة بعبء اصطحاب أبنائها الثلاثة على نحو ما يقول النص:
" كانت المرأة صاعدة، تنحشر، تدفع بصوتها المبهم تلاصق الأبدان بالممر، تحمل طفلا صغيرا فوق المنكب، وخلفها طفل آخر ممسكا بثوبها المزركش وطفل ثان بالوراء قابضا على مريلة أخيه الزرقاء. كانا يحملان على الكتف حقائب مدرسية من المشمع السميك. ويتقدمون بإصرار متجهمين، توقفوا، والمرأة تحاول الدوران لترى العيال، وتتحرك كثيراـ ملتمسة العذرـ ليكون الطفلان بالأمام. ضج محيطوها بالضيق، ليفسحوا لها ولعيالها مكانا " ص138، 139
تبدو المشهدية دالة على حركة جماعية تخترق النص/ عربة الترام، التي تتوازى وتتناص داخليا مع حركة ولوج المرأة و أبنائها لعربة القطار في نص " الوليمة "، تأكيدا على تتابع الصور المتشابهة في فعاليات الحياة، وتكرارها، ولكن بسمات أخرى تضاف إلى سمات الحالة العامة للهامش، لتختزل قطاعات أخرى من قطاعات الحياة وتشابكاتها، وتقدم الصورة من منظور آخر يتكامل بفعل التراكم لفعاليات الاستلاب والتشظي، والوقوع في حيز الهامش، فتبدو هنا سمة مائزة تطفو على سطح المشهد بدلالة الرغبة في إيجاد مكان للمرأة وأولادها في هذا الكيان المتمادي في سيره في خط مستقيم يتوازى بالطبع مع خط سير الحياة خارج نطاق الحافلة / الترام، فجغرافيا المكان هنا تتوازى أيضا مع الجغرافيا الخارجية للواقع، وهو أيضا يعطي دلالة رفض هذا الهامش ـ بالرغم من كونه هامشا ـ وجود هذه المرأة وأولادها في متنه، والتي تبدو من حركات الضيق والتأفف التي تلِّون وجوه المجاورين لهم في هذا الهامش / عربة الترام. مع الاعتماد ـ دوما ـ على رصد سمات الشخوص التي ترفل في مرحلة / جو نفسي دال على ما يلِّون به الهامش أحوال هذه الأسرة الخارجة من عتمة الحياة الداخلية إلى عتمة الحياة خارج النص، وبما تحمله هذه المرأة على عاتقها في رمز الطفل الذي يعتلي كتفها ،كمعادل موضوعي للهم وتحمل المسئولية، والآخر الممسك بذيل جلبابها المزركش ـ المتواضع ـ واللون الأزرق في مريلة الطفل الثالث؛ بما يشي بحالة اجتماعية متردية، وبما يشير إلى ظاهرة من ظواهر المجتمع المكتظ بسكانه من فئات يستلبها هم العيش ومرارته.
لكن الظاهرة/ الحالة التي يبحر في اتجاهها النص، تتجه نحو معالجة حالة الاعتوار/ الفقد/ الاستلاب المعنوي والمادي الذي تعاني منه هذه المرأة من خلال مأساة أطفالها التي يحاول النص رويدا رويدا ـ بمشهديته ـ إماطة اللثام عنها:
" ظلت سادرة في تحركها بين العبث في الحقيبة وتعديل جلوس الطفل الصغير الذي بكى ونظرها الناهر لوجهه الذي أذعن وصمت، بوقت نطلع الولدين وأصابعهما تشير لأذنيهما بتذمر واضح" ص139
يشير النص هنا إلى مكمن الضعف والعلة التي يعاني منها الأطفال، والوهن الذي يعترض وجودهم على سطح الحياة، وتجعل بينهم وبين صخب هذه الحياة ستار سميك يحجب عنهم ما يتمتع به غيرهم من صخب!!، وفي هذا مفارقة عجيبة يسوقها النص، ليدلل على مدى الاستلاب الذي يعاني منه هؤلاء الأطفال / المستقبل، ومعاناة تلك المرأة واستلابها عناصر أمانها واستقرارها في الحياة، ونظرتها إلى هذا المستقبل الذي لا يلوح منه إلا هذه السمة من عدم التواصل والانعزال عن العالم الخارجي / المجتمع، لكن البدائل التي يطرحها النص / الحالة المفارقة، لمحاولة عبور هذا النفق المظلم/ المتاهة التي احتوت هؤلاء الأطفال، تعمل عمل السحر من خلال هذه الاستعاضة، التي تحول الموقف المضطرب للمرأة وأولادها على نحو خاص، ونحو عام ينطلق من هذا الخاص:
" أخرجت جهازا صغيرا، ملفوفا بسلك بطرفه سماعة أذن. حين وضعتها في أذن الطفل الأول تفتحت مسام الوجه بالفرحة.. ثم فتحت الجهاز بين نظر الفرح وقدوم الصخب... لينتشي الولد الآخر وهي تخرج جهازه، وتضع له السماعة في الأذن... لتنقشع لحظات الترقب الملهوف، وتنزاح غيامات الجهامة عن الوجوه" ص140
تقاوم هنا المرأة / الحالة فعل الاستلاب الذي يحصرها في حيز هذا الهامش من الحياة، في إشارة واضحة إلى تعمق وتجذر روح المقاومة الأسيانة التي تجابه بها المرأة بقوة الخروج من العتمة والإصرار على معانقة الحياة ومعايشتها بروح تحاول الخروج من حيز هذا الهامش ولو بالاستمتاع فقط بصخب الحياة..
***
ربما ارتبط نص " طعام الليل" بتلك النزعة المقاومة لاستلاب الحياة، التي تتطابق إلى حد بعيد مع فلسفة نص " الصخب "، من نفس منطقة الهامش التي تمثلها في كل من النصين، عربة الترام كمرتبط ضمني بفعاليات الحياة الرتيبة من خلال مجتمع أصغر من مجتمع القطار،فربما كان الخواء الذي يسيطر على أجواء النص عنصرا من عناصر الفقد والاندياح في هذا العالم الذي يتمثل في هذا النص في جو ليلي شديد البرودة، التي تنسحب من الواقع الخارجي المحيط، وتعمق قسوة الإحساس بالممارسات الضاغطة على مفردات الحياة الخاصة لهذا النموذج الذي تمثله امرأة نص " طعام الليل" القعيدة التي اخترقت ـ محمولة ـ عربة الترام / النص، والتي ربما تماست مع امرأة النص السابق " قضبان الروح" العمياء ـ أو التي أقعدها العمى عن ممارسة حياتها بشكل طبيعي ـ لكن بروح التمرد التي تحملها المرأة المشلولة في هذا النص تمثل قيمة التغلب على قسوة الاعتياد العاجز بالتعويض الذي يختلف عن تعويض امرأة الصخب لأولادها بسماعات الأذن التي تصلهم بالعالم ولو كان عالما مهمشا، أو جزءً من هامش يلفظه المتن، ويأتي هنا عبر هذه الروح المتماسكة والمقبلة على الحياة من نفس الواقع الذي لا يحد من قوة التهامها للحياة المتاحة لها، بل يزيد من عزمها من خلال هذه المشهدية الدالة أيضا:
" فتحت المرأة الكيس بحذر ورفق شديدين.. أخرجت أرغفة مطوية محشوة بغموس غير واضح فتحت فم الجوع وقضمت بنهم، والطفل يتابع عودة اليد القابضة والتي توقفت قدام الفم الماضغ بصوت عال ومقزز.. تبتلع يختلج الوجه مع العينين الغائبتين والطحن المأخوذ بلذة القضم والابتلاع..." ص145
من خلال هذه الممارسة البشعة لعملية الأكل التي تتعامل بها المرأة مع مفردات الحياة / الطعام ربما بقسوة تعادل عملية الإحساس بالفقد والاستلاب والوقوع تحت تأثير سطوة الهامش الذي يحصرها بدنيا ومعنويا في دائرته حيث لا خروج من أسره، ولا مناص من التعايش مع هذه الحقيقة الواقعة التي ألزمها إياها العجز والعوز..
" قبل توقف الترام بالمحطة التالية. أشارت لأحد الرجال.. شال الساقين المشلولتين.. الظهر المقوس الضام المنحني على صدر ذابل وبطن مشفوط.. وضعها فوق رصيف المحطة.. وتناول الطفل من رجل بالداخل. وضعه إلى جوارها وصعد.. وأغلق الباب، ليواصل الترام زحفه في ظلام آخر .. " ص146
ترتبط هذه النهاية الموفقة للنص مع الدخول في دائرة العتمة التي دخلها نموذج امرأة نص " قضبان الروح " بالعمى المادي الذي سيطر على الأداء الانفعالي الذي لعب عليه النص ليجسد سمات هذا التشظي والاغتراب في متن هامش؛ لتكتمل الدائرة بالعودة للزحف في العتمة الرمزية التي تكتنف فعاليات هذا الهامش الممتد من الحياة المضنية، وما كان بين بداية الدائرة وإحكام غلقها من فعاليات هذا الهامش التي لا تني تتوقف عن لفظ عناصرها، وإقصائهم حتى من الهامش الذي قد تطرد حركته الساعية في الحياة وتزيد، وقد تتباطىء وتتمهل إمعانا في القهر الذي يمارسه هذا الهامش على الواقعين في أسره.
هامش آخر، وليس أخيرا
تلوح من خلال هذه النصوص / النماذج التي تعرضت لها القراءة، تلك العلاقة بين المرأة كحاضر وماض، وكأرضية مشتركة تتسم بالعديد من السمات الضمنية لمعنى الحياة، وبين النموذج الذكوري، الناشيء، المتكرر في شخصية الولد الصغير الذي تتكيء المرأة العمياء عليه في نص " قضبان الروح"، والولد المشارك لأمه في محاولة التماس الظل في نموذج " ظل باب "، والولد حامل علبة ( التورتة ) في نص "الوليمة"، والولد ( المبتسر) في صوره المتعددة في نص " طوق الصخب"، والولد المحروم الملازم للمرأة الكسيحة في نص" طعام الليل "، لتشكل هذه المجموعة من الأولاد / المستقبل، دائرة من الحيرة، ومن هامش جديد ربما كان أكبر وأكثر اتساعا، يتقاطع بشكل كبير مع هامش المرأة في متن هذه المجموعة، ومتن هامش الحياة، ليطرح هذا الوجود سؤال الكتابة والنص، الكوني المُلِح الذي من المفترض البحث عنه في نهاية قراءة كل عمل أدبي جدير بالقراءة والبحث، والذي قد يتمحور حول / يختزل في علامة استفهام كبيرة تسبقها العديد من المساحات الفارغة والنقاط المتفرقة، والذي ربما كان استشرافا لما سوف يكون عليه مستقبل / حال هذه النماذج من الأطفال الذكور / الهامشيين الجدد؟
ـــــــــ
* الكتاب: مدن وضواحي ( مجموعة قصصية)
* الكاتب: أحمد محمد حميدة
* الناشر: الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ سلسلة " إشراقات جديدة "