القاهرة 23 يناير 2018 الساعة 11:37 ص
بقلم: الشربيني المهندس
المحـاكاة ومرحلة التحضير الذهني للعمـل الأدبي ، ثم مرحلة التلقائية الإبداعية ، والتقـاط الجزيئات المادية الملموسة ـ وإن تناثرت ذراتـها ـ ليعيد الكاتب دورتها حـول لحظات تعبيرها عن المستويات المعنوية في النص ، ثم ترتيب الواقـع وتنسيقه ، وإعـادة صياغته مع توظيف الخصائص الفنية المتاحة في سياق النسيج الأدبي . هي مداخل هامة للتجريب في الأدب ، وهل تتوقف التجربة ونحن أمام كاتب حفر لنفسه طريقا ، وتعددت أعماله الأدبية ..
يقول عنه أ.د. محمد حسن عبد اللـه: (كانت المفاجأة في حجم الشاعرية والجمال ، والجدية الفنية، والفكرية بدرجة تسمح أن نطلق عليه عدة أوصاف ، وهـو قـد استطاع أن ينتزع منطقه الخاص في القصة).
كما يقول أ.شوقي بدر في تعليقه: (لقد كون عالمه الإبداعي في صـبر ومثابرة ، وحاول أن يتلمس الطريق إلي خصوصية تبلورأعماله الإبداعية في فن القصة القصيرة).
للوهلة الأولي تلحظ ومضات قص كاشفة بداية بالنبش في الذاكرة لأحمد حميدة ومرورا بأنشودة القهر، ونلمح معالم حكايات التائهين في شوارع تنـام من العاشرة . ويحكيها الكاتب بطريقة ترتيل نسج الطواقي، وهو عنوان غريب لمجموعة قصصية. لكننا أمام كاتب ـ أسمر اللـون أبيض القلب ـ عشق الحديث الأدبي عن الطبقة التحتية ، ربما نلمح أثر بيئة مسقط رأس الكاتب وهو حي راغب الموغل في الشعبية ، والمفارقة أنه يحمل اسم أحد الباشوات في العهـد الملكي لمصر..
وقد فاح العبـق الفني لعلاقات الشخوص بالواقع الحياتي التحتاني وانتشر في كل شوارع أحمد حميدة وهو المعادل الموضوعي لما تثيره هذه الشخصيات من إدانة مرة لمجتمعها.. ويمكن أن تستشف منها صور حية وهي ثرية بالأحداث ذات الإيقاع البطئ التي يراها بعينين وعدسـات سميكة وقد أدمن ركوب الترام الملول مع زحفه البطئ ورواده المميزين، وغنية أيضـا بالمتناقضات التي تظهرها تصرفات الشخصيات ذات الدلالات الموحية ..
امتلك الكاتب ولا شك أدواته الفنية ، وأجاد توظيفها مع الرؤية من حيث علاقة الشخوص فنيا بالواقع الحياتي المراد توصيله للقـارئ ، وبحيث أصبح لها همومها وحياتها الخاصة ، مؤكدة تلاحمها مع واقـع الحيـاة التحتاني للمجتمع المصري الحديث ، ومؤكـدة في نفس الوقت التـزام الكاتب بواقعـه الاجتماعي ، والجموع الفقـيرة والمسحوقة من أغلبية الشعب ، بدون زعيق ، أو صريخ أو تشنجات مباشرة ، ولكن في أسلوب فني يرمز ولا يفصح، يشكك ولا يجرح، ينبه ولا يغوص، يطرح الأسئلة وعلينا الإجابة سمة للأدب الجيد .
ويأتي السؤال مع الالتزام والذي قد يعطي التمايز للكاتب أو يقيده أم التنوع ..؟
.. وتأتي الخصوصية والشهرة حيث يفرض العمل الجيد نفسه بصرف النظر عن اللون الأدبي .. ولدينا مثال د.يوسف إدريس وتناوله للطبقات الشعبية ، ولعمال التراحيل التي أضفت له شعبية خاصة.. ومحمد عبد الحليم عبد الله ورومانسيته القروية التي ميزته ..
وليس ثمة خلاف حـول اختيار الأديب للإطـار الأدبي الذي يدور معه النص ، ويشكل الشـارع القلب النابض لقصص أحمد حميدة .. وللتواجد فيه مدلول خاص مع الحركة دائما من الشوارع وخلالها وإليها .. كانت الحكايات تتوالي مع يوم الخروج ـ أو نهاية الخدمة ـ وهـو قطعا إلي الشـارع ، ويوم آخـر أيضا كان في القطار المعطل ، وحتي الصعود إلي القـاع، أو البرج كان لإلقاء نفسه إلي الشارع .. وهكذا تعيش معنا ، أو تتأثر بعبق الشوارع، والذي اختاره عنوانا لمجموعته.. والعبق إضافة غريبة للشارع.. لكنه الفن وعجائبه وعلينا أن نبحث لنشعر به .
وتستمر عطاءات الشارع ورائحته الخاصة.. وهو يقابل صديق العمر في الشارع وقد رأه واقفا فوق الرصيف الآخر لمحطة ترام باكوس ..
وقد يتوه البطل في الشارع ، وقد تشابهت الشوارع والبيوت .. ويعيش يومه مع طوق الصخب ، وجوف الترام يبتلعه كل صباح .. وحتي طعام الليل يكون في الترام والتي تتميز بالرتابة مثل حياة هذه الطبقة .
القصص تدور غالبا مع الطـريق الخـاو ، حيث ينسج السكون الرتيب الخدوش بصوت مألوف لترام مزحوم ، يزحف ببطء ، غاديا وعائدا عبر محطات الورديان إلي بطن المدينة .. بينما الجـزء الآخـر منها يظهر عندما يعود الضوء الغارب ، أو يطل الصباح من فتحة بدروم ، وعيـون الجيران السطحيين، تراقب لحظة ولادة ألفاظ تناسب سلوكهم التحتية من فم الطائر المغرد .. إنها الصورة ، أو الجانب السوداوي من حياتهم .. وحتي رحيل الولد جاء بعـد أن تركوا خياله علي الحائط رغم التغلغل الذي سيطر علي تلافيفهم .
وقصته يوم الخروج عن واقعـة بالهيئة التي يعمل حرفي كوابل بها .. والتي بدأ بها المجموعة القصصية موضوع الدراسة، هو يسجل واقعا بعدسة فنان.. يستهلها بهذه الكلمات:
(شعر لأول مرة عبر تاريخه الممتد بعمـر الهيئـة ، أن تلك اللافتـه الصغيرة المستكينة فوق طرف المكتب ، المحفـور بقلبها اسمه الثنائي ولقبه الوظيفي ، تشبه لافتة قبر بلا شاهد..) وتنتهي هكذا: (أعاد الساعي المقلمة وأدوات الكتابة ، ودفـع زجـاج الشباك ، فأزاح الزجاج لافته انحرفت ـ قبلا ـ بفعل إنزال الكرسي جرت علي الأفريز وتهاوت إلي الشارع..) وأعتقد أن توقف القصة عند هذا المشهد كان سيعطي الرمزية المطلوبة للخط العام للمجموعة، والعنوان وحيث الملمح من الشارع وإليه وهو من خارج قصص المجموعة
لكنها هنا انتهت القصة بالجملة التالية: ( .. وتهاوت إلي الشارع ، نظر اليها بلا اهتمام .. ركض بجسده نحو الخارج حتي يلحـق بالقطار) .. وهي التالية مباشرة للجملة السابقة ، وتعطي أيضا دلالة خاصة عن توقف القطار لرجل سقطت لافتته ، بينما يستمر قطار الرجل الآخـر ـ وليس البـديل ـ في مساره والمضمون الفلسفي عن استمرار الحياة.
واختار الفنـان أحمد زاويته المعبرة عن مركز المدير بإزاحة اللافتة أو صاحبها إلي الشارع .. ورغم وحدة الموضوع ، فقـد ركز الكاتب هنا علي اللافتة كرمـز لتواجد الشخصية.
أيضا في قصة التيه تأتي النهاية علي لسان الراوي: (نهض الرجل فجأة .. نظر حوله.. تحرك ببطء المتردد نحـو منتصف التقاطع ..توقف هناك وحده..)
وهي توضح الشكل المألـوف للتائه ، حيث يقف وحيـدا في منتصف المكان وقد تداخلت الاتجاهات من حوله.. وطبعا التوقف رمز الحيرة.. وكالعادة هناك نهاية أخري لجملة تليها علي لسان شخصية أخري: (نظرت .. وعدت إلي البراد والكوبين ..وضعت السكر.. والشاي.. علي الموقـد الكهربي ..متوقعا عودته.. إلا أنني أرسلت نظري إلي التقاطع ، كان قد اختفي).
ونحن نحترم الرؤية الفنية التي يستخرج بها الأديب من المعاني الحياتية ما يريد، أو يحاول أن يضفي عليها معاني جديدة. وهي تستمد وجودها بشكل أو بآخر من التجـربة الشعورية التي يمر بها الأديب.
تضم المجموعة قصص .. يوم الخروج .. الصعود إلي القاع .. التيه .. طوق الصخب .. طعام الليل ..يوم آخر ..الضوء الغارب .. رحيل الولد ..طائر مغرد ..التغلغل .
واذا توقفنا أمام الإهداء نستطيع التقاط بعضا من خيوط النسيج الأدبي ( إلي الشوارع ..وناسها الذين أحبهم أكثر مما يتصورون).
وعودة إلي خيوط النسيج وتراتيل الشوارع الغالبة هنا وفي مجموعات قصصية سابقة.. في قصة "التائهون" لمجموعة تحمل نفس الاسم .. يقول الراوي علي لسان البطل .. .. ماذا في المدينة يا أم الهـوانم .. أناس تائهون يملأون فراغ الشوارع الطويلة المملة..
هكذا ترسم خيوط العمل وحـداته المؤثرة ..إذا كان صوت الشارع يعلو مع كل قصة ، فإن رد الفعل لدي البطل الـراوي هـو الجانب المظلم للشوارع المملة، الذي يجعل منها نقـاط ارتكاز الدلالة ، والمعني في تواصل خاص مع عمليات التداخل والبناء القصصي .
وللشارع معني خاص لدي الطبقات التحتية.. حيث يحمل مضمونا محددا ، فيقولون دا تربية شوارع مثلا لتوضيح أسباب السلوك السئ .. وهناك قصة وفيلم مصري يحمل هـذا الاسم (أولاد الشوارع) ..والسير في الشوارع أو التسكع يمثل نوعا من الفراغ .. وغالبا تعتبر الشوارع ملك مشاع ، أو ملك الحكومة .. حيث تمثل نوعا من الحـرية الخاصة ، أو الانطلاق من الحجرات الضيقة والخانقة إلي الشارع العريض..
ونستمر مع الكاتب لنرصد الدلالات المستنبطة من بطولة الشوارع.. وأين يظهر العبق وكيفية الرصد من تجربة الأديب أحمد حميدة..
وهنا في قصة التيه في دلالة ساخرة يجعل البطل يتـوه عن مسكن ابنته ـ والذي تركه منذ لحظات ليصلي في الجامع ـ ليتوه عن العـودة إلي مسكن الابنة .. الشوارع كلها هنا تبدأ من عند محطة السكة الحديد .
وكل البيوت هنا أبوابها خضراء وقدامها عتب عالي ..
وكل الشـوارع اللي هنا وهناك فيها خردواتيه ..
ربما نلمح تأثيرا للمساكن الشعبية وتوحـدها في الشكل وهي التي بنيت في عهد معروف .. وربما يبدو التوجه السياسي في دلالة الإحـالة إلي المعاش المبكر مع التحول إلي النظام الليبرالي ، أو النظام المختلط .. وأصبح الرجل ـ أو زوج الابنة ـ علي باب اللـه وعلاقة ذلك بالنظام الإشتراكي الذي وظفه ، وأسكنه هنا ، في حجرة فوق سطح.. وفي أي النظامين تاه الرجل..؟ .. هنا يأتي دور البناء الجمالي ، وتوظيفه للدلالات المختلفة.. بعيدا عن المباشرة والتقريرية.
في قصة التغلغل .. يظهر بوضوح إحساس الراوي بمشكلة المثقفين ووجـودهم الذي يشبه خيال المآته .. وينهي الموقف بركل الكتاب رمز الثقافة إلي منتصف الطـريق ، تحت أقـدام الناس والسيارات.. واختار الكاتب شارع النبي دانيال بالإسكندرية ، وحيث أرصفة الكتب الشهيرة علي غرار الأزبكية بالقـاهرة زمان .. في رسالة واضحة المعالم .
وفي نفس القصة .. تشعر بسخطه الواضح علي تواجد ذوي الوجـوه الجيرية، وأصحاب النجمة الداودية .. في رسالة ضـد محـاولات التطبيع ، والذي رصده بصورة مستفزة علي حساب كرامة ذى الزي الأصفر الكالح . وكان دور شارع النبي دانيال واضحا حيث يوجـد المعبد اليهودي بالإسكندرية . وهذا الاختيار أفضل ، فقد كان يمكن أن يكون المكان هو حارة اليهـود بالإسكندرية، وقد كانت ستمثل الجانب الديني ورمزيته فقط ، أما اختيار شارع النبي دانيال فقد كان علي قدر كبيرمن التوفيق، فرمـوزه أكبر، ودلالاته أعمق، من حيث جمعه للإطـار الديني والثقافي للصراع في المنطقة.
في قصة طائر مغـرد .. كانت الدلالة الواضحة عـن معاناة خريجي الجامعات ، والذين تحولوا إلي أسوأ الأعمال وهي مسح الأحذية كقيمة معنوية .. تضخيم الإحساس بوضع الشهادة الجامعية كعلامة بارزة فوق صندوق الأحذية .. والتركيز هنا علي جانب المعاناة للشخصية كخط ارتسمه الكاتب لأعماله، ويري كاتب آخـر أن ينجح ماسح الأحـذية ، ويخرج لسانه للشهادة الجامعية مثلا .
مرة أخري ثراء العطاء الفني الذي يتيح للجميع النظر من زوايا مختلفة .. التوجهات السياسية للأبطال تؤدي إلي التيه أحيانا ، فـدروب الحياة السياسية وعرة وشائكة .. وقد تؤثر المباشرة علي البناء الفني والجمالي .. ويري الناقد محمد محمود عبد الرازق تأثيرا آخر لذلك ويقـول: (ولا يسلم أحمد حميدة من استعمال الرمـوز المستهلكة ، ممثلة هنـا في الكتاب الذي يحمله الراوي أثناء سيره مع صديقه من ميـدان سعد زغلول إلي شـارع النبي دانيال ، وقـد انزلق الكتاب من تحت إبطه ، فركله ركلة دفعت به إلي منتصف الشـارع. وفي السياق ، كان الراوي يتصفح الكتاب أثناء السير، وكان صديقه يحمل كتبا، فمد يده وأغلـق كتاب الراوي فلا فائدة ).. وقد تعطي نهاية القصة في هذا الموقف دلالاتها العميقة .
والوجوه الأولي لزوار المعبد اليهودي بالنبي دانيال، وهي واضحة من النجمة الداودية في سياق النص ، وقد تثاقلت رؤيتهم في عيني الراوي ، وهم يتسكعون بثقة زائدة ، وينفقون الأموال لتبدو البسمة علي وجـوه مألوفي الملامح ورجل الأمن كالح الزي.
ويمكـن الربط المباشر بين القصتين المتتاليتين طائر مغرد والتغلغل حيث ماسح الأحذية الجامعي يرفض أن يصوره الرجل الغريب لإحساسه بمهانة استخدام هذه الصورة ، وبين مهانة مد الأيدي لفلوس الأجانب مقابل التسليم بالذل.. وهنا انحرفت عن التصور السطحي بأن القصة ضد التطبيع، ومثلنا الشعبي يقول بفلوسهم . وبمعني آخر .. أن القصة لا تفرق كثيرا بين الأمريكي أو الروسي أو الإسرائيلي الذي جاء ليشتري البلد وناسها .. فالقصة كما يقول أ.محمد عبد الرازق كابوسية تحيط بلحظة حياتية محبطة لعائلة تعتز بالفقر .
ويبدو أن الكاتب يجد متعة خاصة في عرض الصور البائسة، أو الجانب المظلم لشخصياته لتسير خطوط المأساة كما يرسمها راصـدا من خلال عين واعية مشكلة دود الأرض والمهمشين في الحياة ..
في قصة الصعود الي القاع .. كان الرجل الذي يريد الانتحار ـ هربا من موقف النقل إلي منطقة عمل أخري ـ يواصل الصعود وقد اكتظت الشوارع بالخلق .. والشمس تصعد إلي السماء وتحط فوق البرج .
وهذا الملمح يفسر وضوح درجة من التفكيكية في بعض النصوص ، مع تجريب شكل جديد للغة. وقد أدي ذلك لظهـور خـلل البناء الجمالي للقصة ، وقصورالربط بين الأحداث بطريقة فنية بعيـدا عن المباشرة وطغيان الشعور الشخصي ..
في قصة التغلغل يتضح من التفكيك لمفردات القصـة والأحـداث ـ الحديث الجانبي عن الغـلاء ، وإغـلاق الكتاب ـ أن القصة لا تنبني علي أساس منطقي ، ولا يقيم الكاتب وزنا كبيرا للترابط بين البداية وما يليها حتي الخاتمة.. نلمح ذلك أيضا في قصة الصعود إلي القـاع ـ رغـم دلالة العنـوان والمفارقة بين الصعود والقاع ـ حيث الإيحاء بالربط بين البطولة أمـام العدو والاستسلام الكامل للقـرار الظالم من وجهة نظـره.. ويصـور الفلاش باك بعضها ، وحيث التقدم لإحراز النصر علي العدو ، وبالمقابل يستمر الصعود الي القاع ومحاولة الهروب بالانتحار..
السرد في كلا القصتين لمجموعة من الانطباعات المترامية للبطـل ، وإثبات حالة الشعور بالضيق ، ثم العجز عـن إيجاد مخرج ، ليقذف بالكتاب تحت أقدام الناس والسيارات في قصـة التغلغل ، بينما يستمر في الصعود الدامي، رغم النداءات الإنسانية في القصة الثانية.. وبالقطع لا يكفي كون القصة والأحداث تجري في مكان واحد وهو شارع النبي دانيال في قصة التغلغل، أو نفس المبني في قصة الصعود لإضفاء المنطقية. وتبـدو القصص وكأنها تدور حول محور مفرغ.
ومن الزاوية الأخري نجد أن كاتبنا له دراية باللغـة التحتية تساعـده في ذلك مفردات خاصة وكأنها منحوتة من الواقـع المعيش.. تنتشر بالنص ثم تعـود لتعبر عما يريده .. وهي مزيج من العامية والفصحي .. وهـو يستلهم تراكيبه المعبرة، ودلالاته الموحية ، من خلف زجاج عدسات نظارته السميكة ، وخبرة كبيرة ببيئة أبطاله.
في قصة طائر مغرد ( انفثأ الحنق الكامن ..خرج منه ذراع محمـوم ، مسح أشياء من علي سطح المائدة بيد غضبي ..تطايرت المظاريف ـ التي كان يسجل فيها شكاياته للمسئولين ـ وتناثرت فوق الأرض .) وتبدو ديناميكية الصورة بشكل لافت للأنظار وطريقة عرض ذات جمالية خاصة .. برع الكاتب في التركيز علي الجوانب التي يرسمها بصبر عجيب ، ولكن بدقة عالية..
في قصة الضوء الغارب ( يتزحزح الضوء في غفلة منها ..يتضاءل ، ويكاد يصعد العتبة.. ثقيل هو الجسد .. تحث الخطو بوهن وانحناء ظهر ، يعتدل رويدا وبعد الكثير من التحرك.. غسلت الأواني المركونة ..حمصت كمونا علي النار .. طحنته في الهاون ..ساوت برطمانات صغيرة ..ملح وشطة وكمون فوق رف صغير .. فصصت رأس توم ..قشرته .. وضعته في برطمان .. وصنعت كوبا من الينسون .. حين فرغت ، تقوقعت بركن الأريكة .. ليهيمن الخيال المتوقع علي الرأس ويستبد .. رصدت الضوء الكابي .. وسمعت جلبة بالخارج.. وأثقل النعاس العابر التلافيف فمال الرأس .. سعاله كان يطن في الحنايا..) ..
هل تري معي الضوء وزحزحته ، ورصد الضوء الكابي ، لقصة بعنوان الضوء الغارب .. والتلاعب بالألفاظ .. ورغم نجاحه في تجربة مفردات وجمل لغوية خاصة ، تلاحظ في قصة التيه أن الكلمات مفصولة بنقطتين بدلا من الفاصلة أو الواو (وضعت السكر.. والشاي ).. كما استخدم أساليب مختلفة حيث وضع جملا بين أقواس لفصل الأحداث .. استخدم الفلاش باك بأكثر من طريقة.. في قصة رحيل الولد.. يقول الراوي كان شابا قويا حين سكن الذاكرة.. ويبدأ سرد أحداث الماضي .. بينما في قصة الضوء الغارب ..رصدت الضوء الكابي.. وسمعت جلبة بالخارج ..وأثقل النعاس العابر التلافيف فمال الرأس ..سعاله كان يطن في الحنايا.. ويبدأ التذكر.. ولد يابدوي..
ويستخدم الكاتب أساليب فنية متعددة مثل السخرية المغلفة للسطور ، والمفارقة في العنوان وبين الاستهلال والنهاية في قصة يوم آخر تقرأ .. (غارقين كانوا في صمت غريب ..أشعلت لصديقي سيجارته ، وهو يقول : أرجع للبيت أحسن.. وأسلك البالوعة).
وفي قصة طائر مغرد والذي ينتظر الوظيفة بفارغ الصبر .. تكون النهاية ( انحني علي شهادته. رفعها عن المائدة . مسحها ووضعها فوق السرير، وأقعي ، ناظرا إلي عقب الباب ، منتظرا رسالة .)
والرسالة واضحة من دلالات الانحناء للرجل والرفع والمسح للشهادة ، والوضع علي السرير ـ مكان النوم والموت ـ والانتظار.
والرسالة أو الرسائل التي يريد الكاتب إيصالها أصبحت معروفة .. وهكذا استمتعت بالطواف بين تجارب لها مدلولاتها المتعددة التي تجعل للتجريب معني وهدفا ، وتثري المشهد الأدبي وتبشر بالكثير لكاتب متميز .