القاهرة 23 يناير 2018 الساعة 11:34 ص
بقلم: حسنى الجنكورى
مقدمة:
يباغتنا أحمد حميدة بعنوان المجموعة "عبق الشوارع" ليكشف لنا عن مدى انتمائه لبيئته ومجتمعه بما تحويه من جماد وإنسان لتشكل عالمه الأثير، وليعبر صراحة عن مكنونات ذاته، وأشجانه، وهواجسه، فى عالم بات فيه الإنسان مقهورا، يبوح بالقليل، ويوجعه المسكوت عنه الكثير، ولكن عالم أحمد حميدة الأدبى قد تجاوز معضلة المسكوت عنه باقتحامه بالرمز تارة وبالإسقاط تارة، والمونولوج الداخلى وبوصفه لشخوصه تارة أخرى، حتى يتطور الحدث، ويتجسد المعنى المراد، والفكرة المقصودة، وذلك بعيدا عن المباشرة، والجمل الخبرية، أو الخطابية الزاعقة، ويبدو أنه يتمثل مقولة أرسطو فى (فن الشعر) فى تعريفه ووصفه للفن بأنه "الفن هو إخفاء الفن". هذا ما وضح من بنية السرد سواء الخارجية فى العنوان "عبق الشوارع" ليعطى المعنى دلالات التحام الكاتب بمجتمعه ومفردات هذا المجتمع، وهذا ما يؤكده الإهداء الذى يتصدر المجموعة (إلى الشوارع وناسها.. الذين أحبهم أكثر مما يتصورون) وذلك معبرا عن نفس مفعمة ومشبعة بالمشاعر والأحاسيس، ومشبعة ومهمومة فى ذات الوقت بمعاناة أقرانه ومواطنيه.
وفى الغالب يقدم لنا الكاتب مكنونات نفسه وهمومها مضيفا إليها تجربته الذاتية الواقعية فى أغلب الأحيان، غير متهيب أو خجول من واقعه الذى يتقبله عن طيب خاطر، بحسناته وسيئاته، ملقيا بنفسه فى أحضان مجتمعه، مستمتعا بدفء العواطف الدافئة.
ويعتمد الكاتب أسلوب السرد المباشر، مبتعدا عن التهويمات والتغريب واللا معقول، معمدا على لغة بسيطة لكنها عميقة المعنى، تمس قضايا إنسانية، واجتماعية، واقتصادية، وسياسية.
يوم الخروج: عنوان معبر عن متن النص، هو بمثابة العتبة لمعمار النص وبنيته الداخلية، يدخلنا للحدث مباشرة مستخدما الفعل الماضى. مضمون النص يعبر عن حالة ترك الوظيفة وسقوط الأقنعة الزائفة للمرؤسين تجاه الرئيس المحال للمعاش، تكشف الدوافع والأطماع والمصالح والوقتية، وكأن الكرسى الوظيفى هو الضمير والذى يسكنه روح المدير الذى لا يلبث أن تزهق روحه بالخروج للمعاش وكأنه الموت له، ثم يعود وتسكنه روح جديدة تطلق لها الأبخرة، وتقدم لها القرابين، وتقام لها الشعائر على طريقة (عاش الملك.. مات الملك) من خلال ثلاث شخصيات (المدير المحال للمعاش- السكرتير المتربص بالوظيفة والمكتب- الساعى المتربص بالموظفين لا يعبأ إلا بمصلحته وبموعد القطار ليلحقه) لتتهاوى لافتة المدير المتقاعد، وينظر إليها بلا اهتمام، وركض حتى يلحق بالقطار.
الصعود إلى القاع: القصة تعتمد على المونولوج الداخلى لشعبان (للاسم دلالة حرفية) الذى يتظلم من مديره ليصعد سلم برج الاتصالات مهددا، وتساوره الهواجس والظنون، وليقارن بين عالمه الوظيفى واضطهاده لنقله إلى شرق أو غرب المدينة والتى يرفضها، ويقارنها بزمن آخر وقت أن كان محاربا ومقاتلا فى سبيل الواجب والشرف. يستخدم الكاتب أسلوب المقابلة فى موقفين (مثلا تسلقه خط بارليف مقابل تسلقه برج الاتصالات) ليطور المكابقة وموحيا من الخاص إلى العام، وذلك فى توجهه وتحليله للأوضاع، حيث أن مفردات القصة لها دلالات تُقرأ من بين السطور، بمعنى أن يحكى الكاتب عن حدث أو موقف ويضمر فى عقله معنى مخالفا بعيدا ليصل من المعنى القريب للمعنى البعيد. شعبان فوق البرج يرى الأشياء والمجتمع، محطة ميدان الشهداء خرزة، فعندما يسمو بنفسه فوق البرج تتقزم أمامه كل الأشياء. وفى خاتمة القصة مونولوج داخلى لشعبان يلخص القضية حيث يبكى جمهور الشعب لشعبان وهو يتباكى معهم بكلمات "يبكون عليك يا شعبان.. أنت لا تحب رؤية دموع بنى جلدتك الخشنة، فهم لا يبكون إلا من وطأة قهر مفزع لا يملكون حياله إلا البكاء، أو يفرحون لشئ غاية فى البساطة" السؤال من يكونون؟!
الكاتب يكتب عن تجارب تشعر أنها من واقعه الذاتى أو المهنى، وقد كان صريحا ومباشرا فى سرده عن العمل بالاتصالات، ويظهر ذلك بأكثر من قصة مثل (التغلغل) يقول: "أذكر أننى شاهدت بعضهم فى السنترال. ويبدو أن المواصلات العامة مرتع خصب للإيجاء للكاتب حيث نجد أن الترام والقطار كمكان هو البطل فى أربع قصص هى "طوق الصخب" "طعام الليل" "يوم آخر" "صديقى". وكأنه يتخذ من المواصلات العامة رمزا للمجتمع، وركابه هم أفراد المجتمع، ليبدأ من خلال الموقف السردى عمل الإسقاطات التى تظهر العوار بالمجتمع وسلبياته، وذلك فى ومضات مضيئة وكأنه يضع قضايا المجتمع تحت المجهر ولكن لا يتدخل ليطلب من ذوى الشأن أن يجدوا الحلول، لأنه يدرك أن العمل الأدبى يأبى أن يقدم حلولا للمشاكل، ولكنه يقدم الدهشة والمتعة، ويظهر مشاعر الإنسان وتعاطفه.
طوق النجاة: تتجلى فى حالة القلق التى تثيرها الأم مع أبنائها عند صعودهم للترام، وتأفف من يجلس بجوارها من تحركها وإزعاجها، حتى تهدأ أخيرا بعد أن وضعت سماعتين لولديها بآذانهما، ويحتفظ الكاتب بالمفاجأة حتى آخر لحظة مستخدما عامل التشويق فى القصة مع استعماله للعبارات القصيرة السريعة اللاهثة لتضعنا مع نهاية الحدث "المفاجأة" للولدين الأصمين، وأمعن الكاتب فى الاختصار والتلخيص كما يجب بالقصة القصيرة لتخلو من الترهل، بل هى مثال للتكثيف وإرساء الفكرة فى أقل قدر من العبارات والألفاظ، وهو ما تحقق بالفعل.
طعام الليل: تلخص القصة حالة من الفقر والعجز (الشلل) لامرأة مع ابنها بحالة تشرد حتى يكتمل لديها الحالة بمظاهر الجوع، ليكتمل الثالوث البغيض للتخلف؛ الفقر والجهل والمرض، هل الترام هى اختزال للمجتمع الذى يزحف ببطء، والشارع المظلم والممتد حتى آخره هل يعنى المستقبل المجهول؟! ولم يصعد أحد الترام دلالة على طرد المجتمع للأغراب، أو عن حالة مجتمع مغلق على نفسه لا يرتاده إلا العجزة والفقراء وأصحاب العاهات، كلها إشارات ورموز لها دلالات اجتماعية تفهم من خلال ثنايا النص، وفى آخر القصة ينص على "أغلق الباب ليواصل الترام زحفه إلى ظلام آخر" ترى ما الظلام الآخر المقصود؟!
يوم آخر: فحوى القصة ومضمونها فى تعطيل مصالح الجماهير، وهدر الزمن بالمواصلات العامة، وحالة من العجز لعدم القدرة على تغيير الواقع المرفوض التى تنتهى بحالة انسحاب البشر، وتعميق ثقافة اللامبالاة، والإحساس بالتضاؤل، ففى تعبير الكاتب (بالإنتاج ترتقى الأمم.. أقفلت المذياع، أكملت فطورى) عبارة تؤكد عدم الثقة فى الواقع، والتشكك فى النوايا. تعبير آخر (دخلت فى حذائى) يعبر عن مقدار التضاؤل والإحساس بالعجز. (قاعدون على القضبان.. متقابلون ومتفرقون.. يتطلعون إلى الفضاء المترامى آملين فى تحرك القطار) إنه قطار المجتمع المعطل الذى يحمل بداخله المواطنين، والتى أجهضت إرادتهم بفعل فاعل!! لينكفئ المواطن على حاله ليقول أحدهما:
• ارجع أحسن إلى البيت.. وأسلك البالوعة
ويرد الآخر:
• بكم كيلو البرتقال؟
وضاع الهدف الكبير ليتشظى لأهداف مبعثرة لا تهم إلا أصحابها!
صديقى: هذا الصديق الصنو الذى هو صورة من صاحبه، كلاهما يرى نفسه فى الآخر، وكلاهما يعيش المأساة (صديقه أنا الذى أدخل بدله القطار، وصديقى هو الذى كثيرا ما كنت ألمحه، أرتمى فى أحضانه، أو يلمحنى هو، يباغتنى ثم يضمنى إلى صدره بقوة نتوحد به) حتى تنتهى القصة بتساوى الأقدار سواء البصير أو الضرير (غير عابئين بقطارينا اللذين رحلا دوننا) هل هو قطار العمر المقصود بكليهما؟ ليتبقى فقط الدموع التى تحمل الندم على ما تخبئه الأقدار وحوادث الدهر.
التغلغل: القصة تذخر بالصور والإسقاطات السياسية والتاريخية، والتشكيك فى التاريخ والماضى التليد بعد أن اعتراه الإهمال عن قصد وبفعل فاعل، ويظهر ذلك فى رموزه، فى طغيان الوجود للوجوه الجيرية ويقول: "كانوا يتغلغلون بالرأس.. ويكبرون.. ونجومهم الداودية موزعة بالأركان" وقد قسم الوجوه التى يراها إلى ثلاثة أنواع، وجوه جيرية يعتلون بصرى؛ يقصد يحجبون عنى البصر والبصيرة- ووجوه مألوفة الملامح بمستوى عينه؛ هل المستوى المقصود هو القيمة أو المقصود الألفة والمودة والحب للذين يحبهم الكاتب أكثر مما يتصورون- الوجوه الثالثة مألوفو الوجوه ذوو الوجوه الجيرية، آثروا السير على استحياء إلى جوار جدران البيوت؛ المواطن العادى المطحون. الوجوه الجيرية هم الأجانب الذين يتوجس البطل/الكاتب منهم الخيفة والارتياب، حتى أنه ليركض مع صديقه نحو أعماق المدينة ليتوه عن الوجوه الجيرية. ويتساءل "أين تكون مدينتى؟!" إنه يسأل عن الهوية التى غرقت فى طغيان وجودهم ليقول "فقد تفاقموا بحيث يصعب الانعتاق من حصارهم" هنا ينبه إلى الخطر الدائم. وأرى أن الأرقام الواردة فى النص لها دلالات وإسقاطات دينية مثل خمس مرايل مدرسية، ويعقبها "نزل من التاكسى أربعة رجال وجوههم جيرية وامرأتان عاريتان حتى المنتصف" ليكون المجموع ستة أطراف (أيضا رمز دينى يرتبط بالنجمة الداودية المذكورة بالنص. ونتمعن فى صورة السائق أو قائد المركبة الذى يمنحه أحدهم نقودا، ابتسم الرجل بسرور كبير، مؤكد أخذ أجرا أكثر مما كان يتوقع، وذلك للوصول إلى المعبد (بدون تعليق). ويختتم النص عند جندى حراسة المعبد بعبارات لها دلالات ومعانى عميقة تحتاج التأمل مليا "كانوا فى زهو عن تواجده المفاجئ، نظر أحدهم إليه ثم تابع الحديث والتطلع إلى قبة المعبد القديم" تنحنح الجندى (رمز الانتصار المنسى) لتتجلى لهم قدرته على التواجد. والكتاب هو المعادل الموضوعى للتاريخ والانتماء والحضارة التى سقطت بفعل الضيق والحنق من الأوضاع، وقد يعنى سقوط الكتاب سقوط العقل!!