القاهرة 09 يناير 2018 الساعة 10:26 ص
كتبت: جيلان صلاح الدين
قد يكون مصطلح البرومانس bromance هو أحد المصطلحات الغير مألوفة نسبياً على الوعي الجمعي العربي، كونه يتنافر والمفاهيم الشرقية عن صداقة الرجال وبعضهم البعض، كنماذج لل "مرجلة" وال "جدعنة" وغيرها من المفاهيم التي تعزز للذكورة والذكورية التقليدية بمعناها الذي لا يحيد عن قالب النموذج الذكوري المفضل في العقل العربي؛ عادل إمام وسعيد صالح في "سلام يا صاحبي" أو أحمد السقا وعمرو واكد في "تيتو".
ولكن، ما هي البرومانس؟
هي علاقة حميمية غير جنسية بين رجلين، تتعدى حدود الصداقة لكنها لا تصل إلى درجة الاتصال العاطفي أو الجنسي، وإن كانت تتميز بشدة المشاعر.
بالنظر إلى مخرج بقامة مايكل مان في صناعة أفلام أكشن لها نجاحات تجارية ولمسات فنية لا غبار عليها، فإن المدقق في فيلمي "آخر الموهيكيين" إنتاج عام 1992 و"Heat" عام 1995، ينتبه إلى الشاعرية الذكورية، المدمجة في بنية سردية شديدة الانتصار للذكورية التقليدية، ومن الملاحظ في قراءة انطباعات المشاهدين لهذين الفيلمين تحديداً، هو مدى شعبيتهما لدى المشاهدين الذكور. في إحدى القصص التقليدية في جانر ال Young Adult، تتحدث الفتاة إلى حبيبها عن فيلم "آخر الموهيكيين"، وتسأله عما إذا كان أحب المشهد الذي يخبر فيه ناثانييل بو حبيبته "ابقِ حية، سأجدك أينما تكونين،" فيخبرها بأنه يفضل مشهد المذبحة، في مقارنة سطحية ربما لما يبحث عنه المشاهد الذكر والمشاهدة الأنثى في فيلم واحد صُنع ليرضي جميع الأذواق.
لكن إرضاء الأذواق لم يكن بالضرورة ما يدور في ذهن مايكل مان عند صناعة "آخر الموهيكيين" أو "Heat"، إنما هي الصناعة الحرفية المحكمة لما يمكن أن يحقق نجاح تجاري ضخم، إضافة إلى أسلوبية تمنح الفيلم ثقل فني. فيلمان شديدي الذكورية، "Heat" هو ما يطلق عليه جانر فرعي subgenre لأفلام الجريمة، وتدور أهم أحداثه أو معظمها في بناء، تخطيط أو تنفيذ عملية سرقة ضخمة، غالباً ما تتضمن سرقة أحد البنوك. و"آخر الموهيكيين" يرسم شخصية ابن متبنى لأبناء قبيلة الموهيكيين الآخذة في الانقراض، ودخوله وأبيه وأخيه حرب "السنوات السبع" مرغمين، على خلفية قصة حب بينه وبين ابنة كولونيل بريطاني، وهو الشرط الذي جعل ممثلة بحجم مادلين ستو وقتها تقبل التمثيل في الفيلم؛ الجانب الرومانسي للحكاية الدموية عن الحرب.
لكن مايكل مان يعلم جيداً كيف يمزج جميع عناصر الفيلم الذكوري التقليدي المحققة للنجاح، من مشاهد أكشن وحروب تم تصويرها بدقة، لاختيار حذق للممثلين، حركة الكاميرا وإدارة المجاميع، إلى قلب الفيلم والذي غالباً ما ينحو إلى الشاعرية في قلب عالم دموي، فظ.
في "Heat" يتصدر مشهدان لروبرت دينيرو وآل باتشينو واجهة الفيلم، كأحد أفضل مشاهد السينما في المطلق، مشهد العشاء الذي يتصارح فيه اللص والضابط بمدى قربهما من بعضهما البعض، ومشهد النهاية المحتومة، حيث يقتل الضابط اللص كما وعده في السابق، ويحلق اللص بعيداً عن الأرض، في رفض قاطع لدخول السجن مجدداً، أو الانهزام أمام الضابط حتى ولو على حساب حياته، شاعرية مان تتجلى بوضوع في الطريقة التي يتصاعد بها المشهد، حتى يصل بمشاعر المشاهدين للذروة في اللقطة النهائية، والتي يمسك فيها الضابط بكف اللص، كي لا يموت وحيداً، وتبدأ موسيقى موبي "الرب يسير على سطح الماء" في التداخل التدريجي مع المشهد، حتى تصبح جزءاً من الفسيفساء المعقدة التي صنعها مان؛ المكان، الزمان، الشخصيات، والمشاعر. يعتبر "Heat" تجسيد حي للبرومانس في أبهى صورها، علاقة ملتبسة بين رجلين خشنين، يطارد كل منهما الآخر، يبدي كل منهما إعجابه بالآخر دون الإفصاح عن ذلك، وينتهي بهما الحال وقد قرًّبت بينهما التجربة حتى وإن انتهى بهما المآل إلى الفراق.
أما "آخر الموهيكيين"، فتصنع أغنية فرقة كلاناد "سأجدك" النشيد الرسمي لفيلم ينتمي لجانر الملاحم التاريخية بكل ما تحتمل من حروب ورجال يقتتلون على الأرض والهوية. لكن ناثانييل بو أو عين الصقر هو بطل مرغم على البطولة، وعلى الدخول في حرب لا يرغب في خوضها، بالضبط كما فنسنت هانا –آل باتشينو– المرغم على تتبع الرجل الذي يثير إعجابه سراً، اللص نيل ماكولي –روبرت دينيرو– وعلى ملاحقته والإيقاع به.
في قلب "آخر الموهيكيين"، يتصل العنف بالشاعرية الذكورية، مما يلقي الضوء على مخرج آخر شديد الذكورية استطاع أن يجعل من أفلامه بجرعات العنف والقسوة العاليين فيها مهد للشاعرية؛ من أول اختيار مونيكا بيلوتشي المشهورة بأدوار الإغراء والإثارة في دور ماريا المجدلية في فيلمه الأشهر "آلام المسيح"، وطغيان قصة حب مارون وويليام والاس في الفيلم الملحمي الأشهر "قلب شجاع".
شاعرية العلاقة بين ناثانييل بو وكورا، تتجلى في مشهد الحب الأشهر، والذي يتم تصويره على أقل إضاءة ممكنة –سينماتوغرافيا دانتي سبينوتي التي حاولت محاكاة واقع هذه الحقبة– والتيمة الموسيقية الرئيسية للفيلم "الغيلي" تدوي في الخلفية.
مايكل مان لم يُعرف يوماً سوى بمهارته الفائقة في إخراج مشاهد الحركة، مطاردات السيارات، والمعارك الضخمة، لكنه في قلب السرد ينتصر للبرومانس، وللشاعرية بين أبطال أبعد ما يكونوا عن الشاعرية، ناثانييل بو الفظ الموهيكي، وفنسنت هانا الضابط العدائي، ونيل ماكولي الغريب حتى بين الغرباء، الخارجين على القانون.
أُطلق على مايكل مان في أحد المقالات في مجلة سلانت الأمريكية الشاعر ال macho، وهو رجل ال macho يتمسك بالصورة الكلاسيكية الذكورية، ليخفي وراءها رقة المشاعر والشاعرية، التي تنفلت منه رغماً عنه في تصرف أو آخر، أي فيلم أو آخر.